نقد العقلنة كتشيؤ أو نقد الحداثة الملتبسة: (3 من 3)
من العقلانية الأحادية إلى وحدة العقلانية المركبة والتعددية
د. هشام عمر النور
اختيار هابرماس الدفاع عن مشروع التنوير والحداثة تتطلب منه القيام بثلاثة مهمات: الأولى، صياغة نظرية للفعل التواصلي لا تقوم فقط على التمايز بين مركبات العقلانية وعوالمها التي ترتبط بها الذات في علاقات مختلفة وإنما أيضاً على التمايز بين أفعالها، بحيث لا يصير الفعل الأداتي نموذجاً لها، بل على العكس يصير تعدّي الفعل الأداتي على أيّ مجال لفعل غيره سبباً في حدوث تشوهات. وعلى هذا الأساس يمكن تفسير تشوهات الحداثة بتعدّي الفعل الأداتي على مجالات الأفعال الأخري، وبالذات على مجالات الفعل التواصلي. والثانية، صياغة العقلانية التواصلية على أساس أنثربولوجي وليس على أساس فلسفة للتاريخ – كما تفعل الماركسية في صياغة نظريتها في الحداثة والتي ربطها لوكاش بعقلنة المجتمع عند فيبر- بحيث تعتمد على مكونات الإنسان وممكناته وليس فقط على تصوره لما يجب أن يكون. والثالثة، تفسير هيمنة الفعل الأداتي على غيره بحيث يشمل التفسير الإقتصادي دون الإعتماد عليه، أي دون أن يكون أساساً نظرياً للتفسير. وهذا ما فعله هابرماس في نظريته للحداثة التي يفصل فيها بين عالم الحياة والنسق الإجتماعي، وتجعل من هذا الفصل أساساً لفهم الشروط التي هيمن فيها الفعل الأداتي والعقلانية الأداتية.
وصياغة نظرية الفعل التواصلي على أساس أنثربولوجي تمت بأن عزا هابرماس -مستعيناً بدوركايم -عملية الإنتقال إلى المجتمعات الحديثة إلى ما أسماه بلغونة linguistification المقدس وهي عملية تمت بأن صار الفعل التواصلي يقوم بالوظيفة التعبيرية ووظيفة التكامل الاجتماعي، اللتان كانت تفي بهما الممارسة الدينية الطقسية. فالهوية الجمعية عند دوركايم التي تأخذ شكل الإجماع المعياري تنبني في وسط الرموز الدينية ويتم فهمها في سيمانطيقا المقدس. وبذلك تصبح المدخل المناسب لتتمكن اللغة من إختراق المخزون المعرفي والأخلاقي، وحينها فقط تنتقل اللغة إلى طور اللغة المكتملة كقضايا وقواعد تركيبية ونحوية، أي لغة محكومة بقواعد مما يمهد للإنتقال إلى التفاعل المحكوم بقواعد أيضاً. مما مكن هابرماس من فهم تطور النوع الإنساني على أساس سيمانطيقي. وبذلك نستطيع المقابلة بين عقلنة رؤية العالم الدينية لدى فيبر ولغونة المقدس عند دوركايم باعتبارهما من عمليات تحديث المجتمع التي تقوم على العقلانية؛ والفارق بينهما يكمن في أن الأولى تجرى في مجال الأخلاق بينما تشمل الثانية المعرفي والأخلاقي معاً. ولغونة المقدس أكثر جذرية من عقلنة رؤية العالم الدينية لإنتمائها لما هو أنثربولوجي.
إن الصفة المميزة للوجود الإنساني هي إعادة صياغته لصلته الحسية بالعالم بواسطة استخدام الرموز بحيث تصبح ذات معنى، وأيضاً تكوينه، من وجهة نظر معيارية، لأسلوب الوجود الإنساني الأفضل. وبعبارة أخرى، إن قوة التوسط الرمزي المموضعة تقطع الصلة الحيوانية المباشرة بالطبيعة التي تؤثر في الكائن من داخله وخارجه؛ ومن ثم تخلق مسافة من العالم تجعل الإنسان قادر على السيطرة على تفاعله مع هذا العالم، وعلى التفكير في هذا التفاعل وتأمله. ومن هنا تستمد الرموز في اللغة قوتها التحررية.
هذا يعني تغيير وجهة نظر الفلسفة التقليدية في اللغة، والتي كانت تنظر للغة بإعتبار أنها تمنح الأسماء للموضوعات التي تتمثلها ومن ثم تبني نظاماً من العلامات يسهل التفكير ويجعل تواصل الأفكار ممكناً. ولكن في هذه الحالة، ولأن اللغة وسط يتدخل بين الذات والعالم، فإنها تصير حاجباً بين الإنسان وعالمه. أما وجهة النظر الفلسفية الجديدة في اللغة فتهب اللغة وظيفة كاشفة وتجعل منها قوة منتجة ينكشف العالم من خلالها للذات العارفة. إن إشارة اللغة للموضوعات التي تتمثلها وظيفة هامة، ولكن وظيفتها الأهم والمنتجة والمميزة هي التعبير المفاهيمي عن عالم حالات الأمور الممكنة. فالبنية النحوية للقضايا هي التي تمنح حالات الأمور هذه بنيتها. أي أن اللغة هي التي تمنح المعنى، مما يعنى أن, وجهة النظر الفلسفية الجديدة تقوم بتحويل سيميوطيقي لفلسفة كانط الترانسندنتالية تأخذ فيه اللغة دور المقولات في إنتاجها الترانسندنتالي لعالم الموضوعات؛ ولأن هنالك تعبيرات مفاهيمية متعددة عن عالم حالات الأمور الممكنة فإن هذا يؤدي إلى تكوين عوالم متعددة. وبمجرد أن تنتقل العمليات الترانسندنتالية بين أنظمة رموز متعددة فإن الذات الترانسندنتالية تفقد موقعها المتعالي على العالم التجريبي وتنخرط في عمليات التاريخ وتنقسم إلى لغات تعددية وكذلك ثقافات تعددية. وطبقاً لهذا الدور الذي تلعبه اللغة في تأسيس هذه الكانطية الجديدة نستطيع أن نفهم لماذا صارت لغونة المقدس أمراً عقلانياً. ونستطيع أن نفهم أيضاً التأثير الذي مارسته هذه الفكرة على هابرماس في تأسيسه لنظرية الفعل التواصلي التي تعتمد على قراءة تداولية لفلسفة كانط تمتد بجذورها لهذا التحول اللغوي.
ولكن ولأن هذه القراءة التداولية لفلسفة كانط كانت قراءة نقدية فإنها لم تؤد إلى قيام تداولية ترانسندنتالية وإنما أدت إلى قيام تداولية كلية. فرغم أننا نستطيع أن نرى أوجه شبه بين الفلسفة الترانسندنتالية والتداولية الكلية: فالتعبير “شروط تكوين موضوع التجربة الممكنة” يمكن أن يتطابق معه التعبير “شروط حالة الفهم الممكن”، إلاّ أن الأخيرة تهتم بالوصول إلى الفهم أكثر من اهتمامها بشروط تجربته، الذي يأتي في المرتبة الثانية، بينما الفلسفة المتعالية تهتم بشروط التجربة في المقام الأول. وهو السبب الذي دفع هابرماس للتمييز بين الكلي والترانسندنتالي، فالأول يرتبط عنده بالإجراءات بينما الثاني بالمضمون. والمهم في هذا الأمر أن تأسيس التداولية الكلية عند هابرماس على قراءة تداولية نقدية لفلسفة كانط الترانسندنتالية هو الذي أضفى على اللغة طابعها العقلاني، وبالتالي صار مفهوماً لماذا كانت لغونة linguistification المقدس أمراً عقلانياً.
إن لغونة linguistification المقدس تعني استبدال سلطته تدريجياً بسلطة الإجماع الذي يتحقق في التواصل اللغوي. وهذا يعني تحرير الفعل التواصلي من السياقات المعيارية، التي يحميها المقدس. لقد تمت إزالة سحر المقدس وتفكيك سلطته بلغونـة linguistification الإتفاق المعياري الأساسي، الذي يعمل المقدس على تأمينه. ولقد أطلقت هذه العملية ما يكمن في الفعل التواصلي من عقلانية. إن تزايد سيادة بنيات الأفعال الموجهة للفهم المتبادل، أو كما أسماها هابرماس بلغونة المقدس في دراسته لدوركايم، تعني إنتقال الإنتاج الثقافي، والتكامل الإجتماعي، والتنشئة الإجتماعية للأفراد، من الأسس المقدسة إلى التواصل اللغوي ومن الأفعال الموجهة إلى الفهم المتبادل. وبقدر ما يقوم الفعل التواصلي بالوظائف المجتمعية المركزية، بقدر ما تنوء اللغة بعبء واجب إنتاج الإجماع. وبكلمات أخرى، إن اللغة لم تعد فقط تقوم بنقل وتحقيق الإتفاقات ما قبل اللغوية، وإنما أصبحت تحقق كذلك وبصورة متزايدة إتفاقات نتوصل إليها عقلياً. وهي تقوم بذلك في مجال الخبرة الأخلاقية العملية والتعبيرية وبذات القدر في المجال المعرفي الخاص بالتعامل مع الواقع المموضع. وبهذه الطريقة فهم ميد بعض التطورات كعقلنة تواصلية لعالم الحياة. وهو أمر متعلق، أولاً، بتمايز العناصر البنيوية المكونة لعالم الحياة، والتي كانت مترابطة بقوة في الوعي الجمعي: الثقافة والمجتمع والشخصية، وإنفصالها بعضها عن بعض كبنيات رمزية لعالم الحياة. وهو يتعلق، ثانياً، بالتغييرات في هذه المستويات الثلاثة، والتي يكون بعضها متوازياً وبعضها الآخر متكاملاً: فالمعرفة المقدسة غلبت عليها المعرفة المتخصصة طبقاً لمزاعم الصحة، وهي معرفة تتأسس على العقل؛ وانفصل الأخلاق والقانون عن بعضهما البعض وصارا كليّين؛ وأخيراً، تمددت الفردية مع مطالب متزايدة بالإستقلال وتحقيق الذات. إن البنية العقلانية لهذه الميول تجاه اللغونة يمكن أن نجدها في حقيقة أن استمرار التقاليد، والحفاظ على الأنظمة المشروعة، واستمرار تواريخ حياة الأفراد، أصبحت تعتمد بصورة متزايدة على وجهة النظر التي تعود، حينما تصبح مشكلة، لمواقف القبول أو الرفض لمزاعم الصحة القابلة للنقد.
لقد انتهينا إلى أن عقلنة عالم الحياة بكل نتائجها والتمايزات التي وصلت إليها قد اعتمدت بالأساس على ما سميناه بلغونة linguistification المقدس أو ما سماه ماكس فيبر من قبل بعقلنة الرؤية الدينية الميتافيزيقية للعالم؛ فبالنسبة لهابرماس فمن الواضح أن هذه العقلنة لم تكن ممكنة إلاّ بإعادة البناء الأنثربولوجي لتاريخ النوع الإنساني بحيث تمتد كل جذوره في السيمانطيقا، ومن ثم يصبح من الممكن أن نطابق بين العقلانية وتحويل هذه الجذور إلى لغة مكتملة لها ثلاثة أفعال كلام، تعبّر عن علاقة الفعل التواصلي بالأشكال الثلاثة للعالم، إذ تنطوي عملية التحويل هذه على الشروع في تحقيق العقلانية الكامنة في الفعل التواصلي.
إن العقلانية التواصلية عند هابرماس تقوم -كما هو واضح -على أن أفعال الكلام تقدّم مزاعم صحة يتم الإجماع حولها تبعاً لحجج بعينها، أي أن النظرية تستند على فكرة الإجماع كأساس لفكرة التواصل والتنسيق بين الأفعال الاجتماعية، وتجعل منها تحققاً لعقلانية كامنة فيما هو أنثربولوجي، أي في الكلام باعتباره من مكونات الإنسان وممكناته. وهو أمر آخر تختلف فيه الحداثة عند هابرماس مع إتجاهات ما بعد الحداثة؛ التي ترى في العقلانية، وبالتالي في الإجماع، السلطة والقوة وإقصاء الآخرين واستبعادهم، ومن ثم فإن هذه الإتجاهات تعتمد التنازع بديلاً للإجماع. ويتخذ الإجماع عندها سمات إرهابية بمعنى سمات إقصاء شريكك خارج لعبة اللغة التي كنتما تلعبانها من قبل أو مجرد التلويح بذلك. وتستند إتجاهات ما بعد الحداثة في ذلك على إنجازات نظرية الفعل اللغوية التي توضح أن الحجج هي أفعال تتضمن قوة محددة ليس لها مكان بين مقولات الصدق أو الكذب أو الصحة بل يتم وصفها بالضعف أو القوة أو الحسم. ولأنها ترفض أية دعوى بالكلية تقر بوجود خطاب يعلو على كل الخطابات ويوحد بينها، وبالتالي يكون أساساً لقوة الحجج أو ضعفها، فإن القوة المحضة هي التي تحدد الحجج. وهو ما يختلف معه هابرماس الذي يعتمد إجرائياً على التداولية الكلية كأساس يعلو كل الخطابات ويوحدها، وبالتالي يكون مصدراً لقوة الحجج أو ضعفها. إن التصور الذي تعرضه إتجاهات ما بعد الحداثة يناقض ذاته بذاته، إذ أن من يؤسس هيمنة الحجج على قاعدة القوة لا يمكن أن يستنكر على الإجماع المهيمن إقصاءه الآخرين واستبعادهم، كما أن إعترافها بتباين الخطابات مع ضرورة الحفاظ على الإجماع كإجراء وليس كأمر له أساس كلي لا يخرج عن كونه إحدى المسلمات الكلية، التي ترفضها إتجاهات ما بعد الحداثة إبتداءً. ولكن، ومن جهة أخرى، فإن هذا لا يعني أن الإجماع عند هابرماس يقصي التنازع. إن الإجماع والخلاف مترابطان بالتأكيد. بل نستطيع القول أنه لا يمكن أن ينشأ نزاع، من حيث المبدأ، إلاّ في وجود سعي حقيقي للإجماع. إذ لو كانت الخطابات تقصد غاية الخلاف لما اصطدمنا بمساجلات حقيقية بخصوص الحجج. وهذا يعني بالنسبة لهابرماس أن النزاع متضمن بالضرورة في الخطاب ولكنه ليس هو المراد منه.
إن إعادة البناء الأنثربولوجية هذه تطلق موقفاً يدعونا للتساؤل مجدداً، فهي تجعل عقلنة عالم الحياة ـ وفقاً لمنطقها ـ أمراً يعتمد على التكامل بين هذا العالم والفعل التواصلي، وهو أمر يبدو وكأنه منسجم مع تطور النوع الإنساني وحياته؛ ومع ذلك فإن ما ينتهي إليه مشروع الحداثة، الذي هو نتاج هذه العقلنة، يتناقض مع هذا التصور؛ فالفعل الأداتي وعقلانيته الغائية هو الذي ساد في هذا المشروع، وأدّى إلى تشوهات تعرفنا عليها عند فيبر. فبدا وكأن الحداثة تتطور بالضد من طبيعتها أو بالتناقض مع أساسها. فكيف حدث هذا؟ محاولة الإجابة على هذا السؤال هي التي تقوم عليها فلسفة إعادة بناء الحداثة وهو ما حاول أن يعرضه هذا المقال.