قضايا فكرية

الأصل الَّلاهوتي للحداثة (2 من 6)

علمنة الغرب في جذورها الإغريقية المسيحية

د. محمود حيدر
مفكر وباحث في الفلسفة – لبنان
2- الَّلاهوت الحداثي بلون إغريقي – مسيحي مركب
بدت السمة العامة والرئيسية للحداثة متمثلة بالنزعة الإنسانية. فقد قامت مبانيها الكلية على مفاهيم إنسانيّةٍ اجتاحت العالم الغربي إبّان حركة النهضة. وقد أولت اهتماماً بالغاً بالآداب اللغويّة والعلوم البلاغيّة الموروثة من الحضارتين الإغريقية والرومانية، وعلى ضوء ذلك توفّرت لديهم معلومات واسعة النطاق وعلى ضوئها صاغوا مقرّرات إنسانيّةٍ المرتكز اعتمدوا عليها في شتّى آرائهم ونظرياتهم بصفتها معاييرَ أخلاقيّةٍ وثقافيّةٍ يجب وأن تُصاغ على أساسها قوانين المجتمع الغربي وأصوله العمليّة والتربويّة كافّةً، وهذه المعايير أمست في ما بعد مرتكزاً أساسياً للكثير من الحركات الدينيّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي ولدت من رحم الخطاب التجديدي الغربي وأسفرت عن إيجاد تغييراتٍ في المباني الأوّلية المتقوّمة على النزعة الإنسانية.

لم يقتصر تأثر المسيحية بالإرث الإغريقي على طائفة مسيحية بعينها، بل شمل مجمل مكوِّناتها. حتى ليمكن القول ان إصلاح القرن السادس عشر أوشك أن يهدم ركنين مؤسِّسيْن في الصرح الحضاري للحداثة: المسيحية والحضارة اليونانية. مع ذلك فقد سارع الإنسانويون الكاثوليك نحو ترميم هذا الصرح وإعادة بنائه كما فعل لاهوتيون كاثوليك، مثل أرازموس Erasmus، وحتى بروتستانت، مثل ميلانثشون Melanchthon. لا بد من التذكير أن رائد الإصلاح البروتستانتي مارتن لوثر نفسه، ورغم هجماته الشرسة على الحضارة الوثنية، كان مولعاً بأوفيد Ovid، ومنحازاً لشيشرون. والإنسانويون الذين كانوا يميلون بنسب مختلفة عن المسيحية إلى الوثنية، إمّا أنهم كانوا عائدين إلى ما اعتقدوه تعليم أرسطو الخالص، أو كانوا يختبرون القيمة الحقيقية للتعاليم التي تركها الرواقيون والأبيقوريون. وهكذا بقي التراث الكلاسيكي، طوال عصر النهضة وحتى منتصف القرن التاسع عشر، الأساس المشترك الذي كان يمكن للمسيحيين والوثنيين أن يلتقوا حوله ويواصلوا من خلاله علاقاتهم الفكرية المثمرة. حتى أن الاكتشافات العلمية الأكثر تألّقاً حصلت على أيدي رجال مثل ديكارت وباسكال وفيرما وليبنتس ونيوتن الذين تعلّموا في المدرسة، إضافة إلى اللاتينية الكلاسيكية، أصول الرياضيات، وفلسفة شبيهة إلى حدّ ما بفلسفتيْ القدّيس توما الأكويني وأرسطو .ولو كان من توصيف للدور الذي تبوَّأه توما الأكويني في مسعاه الفكري، لقلنا انه شكل صلة الوصل الوطيد بين الوثنية اليونانية وعقلانيتها الصارمة، وبين الإيمان المسيحي. بل ربما أمكن القول انه مهَّد الأرض الصالحة لقيامة الحداثة في بعدها الَّلاهوتي من خلال التأكيد على الأنسنة. فلقد دأبت نظرية المعرفة لدى الأكويني على تأكيد قيمة التجربة والاختبار لمعرفة العالم بعمق من جانب الكائن الإنساني. ولذا فإن نظرية الوجود عنده قامت على تأكيد القيمة الجوهرية لوجود هذا العالم وأساسيته. فالأشياء المحسوسة ليست موجودة، بوصفها مجرد صور لا واقعية نسبياً، أو مجرد ظلالٍ سرابية للأفكار الأفلاطونية؛ التي تنطوي على واقعية ذات شأن تخصها. وكما سبق لأرسطو أن زعم بأن الأشكال متجسدة أصلاً في المادة، ومتحدة معها لإنتاج كل مركب، فقد ذهب الأكويني إلى تجاوز النزوع الأرسطوطاليسي حيال رؤية الطبيعة منفصلة عن الرب، ليبيِّن أن من شأن أي فهم فلسفي أعمق لمعنى الوجود هو ربط العالم المخلوق بالرب ربطاً كاملاً. وتثبيتاً لهذا المرمى بادر الأكويني إلى إعادة استحضار مفهوم “المشاركة” الأفلاطوني في هذا السياق الجديد. مؤدى قوله في هذا المورد أن: لجملة المخلوقات واقعاً جوهرياً حقيقياً؛ لأنها تشارك في الوجود الذي هو، بالنسبة الى الرب، الأساس الَّلانهائي المكتفي ذاتياً لكل ما هو كائن. يضيف: وما جوهر الرب، تحديداً، إلا وجوده، أي فعل كينونته اللَّانهائي الكامن في عمق الوجود المحدود لسائر المخلوقات، والتي لكل منها جوهره الخاص به .

إلى ذلك، واستمراراً مع ما سبق، صار يُنظر الى التطورات الفلسفية الحاصلة في التراثين الغربي والمسيحي – الأفلاطوني الجديد اللذين كانا، جنباً الى جنب مع مؤلفات أوغسطين وبيتيوس، باعتبارهما المصدرين الرئيسين لمعارف الأكويني عن أفلاطون. كان هذا المفكر الَّلاهوتي يطمح إلى تعميق أرسطو عبر استخدام مبادئ أفلاطونية، إلا أنه رأى أيضاً أن الأفلاطونية بحاجة إلى مبادئ أرسطوطاليسية. وبالفعل، فإن نظرية المشاركة الأفلاطونية لم تكتسب، في نظر الإكويني، معناها الميتافيزيقي الكامل إلا بعد تعميقها وصولاً إلى مبدأ الوجود ذاته، أي ما وراء مختلف أنماط الكينونة التي يمكن للوجود أن يتجلى عبرها. لكن عملية التعميق هذه، تطلبت سياقاً أرسطوطاليسياً لطبيعة تحوز على كيان فعلي؛ وتحديداً على واقع متحقِّق من خلال صيرورة الطبيعة المطردة، وحركتها الديناميكية. أي من القوة (الاحتمال الكامن) إلى الفعل الذي يظهر في العالم الواقعي. وهكذا، فإن الإكويني ألقى الضوء على تكاملية الفيلسوفين اليونانيين: مطلق أفلاطون الروحي، ونسبة أرسطو الواقعية ديناميكياً. هذه التكاملية راحت تتحقق عن طريق توظيف مشاركة أفلاطون، لا في الأفكار فحسب، بل في الوجود، وحين فعل هذا كان يخطو شوطاً إضافياً على طريق تصويب أرسطو عبر إظهار أن الأفراد الملموسين لم يكونوا مجرد مضامين منفصلة، بل متوحِّدين فيما بينهم وموحَّدين مع الرب من خلال انخراطهم المشترك في الوجود. كما أسهم الأكويني في تصويب رؤية أفلاطون عبر القول إن إرادة السماء لا تخص الأفكار وحدها، بل تطول الأفراد الواقعيين على نحو مباشر، خصوصاً أولئك الأفراد الذين خُلق كل منهم على صورة الرب ليسهم، كلٌ في حدود معينة، في فعل وجود الرب اللَّامحدود. وبهذا أضفى الإكويني على الربّ وحده ما كان أضفاه أفلاطون على الأفكار عموماً. غير أنه قام، عبر فعله هذا، بإضفاء المزيد من الواقعية على عملية الخلق التجريبية. وبما أن “الكون” يعني المشاركة في الوجود، وبما أن الوجود نفسه هو هبة كيان الرب بالذات كما يقول، فإن كل مخلوق يتمتع بواقعية حقيقية مستندة إلى أساس واقع الرب اللَّامحدود. أما الأفكار فهي ليست سوى أمثلة لخلق الرب الذي يبقى الأنموذج الحقيقي والنهائي للخلق، في حين أن سائر الأفكار ليست إلا أصداء لذلك الجوهر الأسمى .

ولقد حذا الأكويني، حذو أرسطو في اعتباره للطبيعة، واهتمامه بواقعها وديناميكيتها، وبالكيانات الفردية، وبضرورة تجربة الحواس المعرفية. إلا أنه بإيمانه بخلود النفس الفردية، وبوعيه الراسخ لواقع متعالٍ أسمى، وبحساسيته الروحية القوية المنصبَّة على ربٍّ محب بوصفه مصدر الكينونة الَّلامحدود وهدفه، سيواصل التراث الأوغسطيني للاهوت في القرون الوسطى. ولهذا السبب يمكن القول انه بات أكثر شبهاً بأفلاطون وأفلوطين، إلا أن تميُّز الأكويني عن كل من أفلاطون وأوغسطين -فيما يخص الأفكار والمعرفة الإنسانية -كان بالغ الأهمية؛ وبخاصة لناحية تكريسه اعتراف العقل المسيحي بالقيمة الجوهرية للاختبار الحسي والنزعة التجريبية. وخلاصة القول انه لم ينكر وجود الأفكار، بل لعله اكتفى، وجودياً، بإنكار كونهما مكتفيين ذاتياً بعيداً عن الواقع المادي (حاذياً حذو أرسطو) وتمتعهما بمكانة إبداعية، بعيداً عن الرب (على غرار التوحيدية المسيحية). أما معرفياً فقد أنكر قدرة ذكاء الإنسان على معرفة الأفكار مباشرة، مؤكداً حاجة الفكر إلى التجربة الحسية. فلو أراد الإنسان أن يعرف ولو معرفة ناقصة ما يعرفه الرب معرفة كاملة، فإن عليه أن يفتح عينيه على العالم المادي .
السؤال الآن، هو في الكيفية التي انعكست فيها أفكار الأكويني ومساعيه على التحولات الَّلاحقة في العلاقة بين الكنيسة والحداثة؟
من البيِّن في هذا المسرى أن الإصلاح في الكنيسة المسيحية لم يكن يجري بمنأى من حركة الحداثة. بل على العكس مما قد يُتصوّر، فقد كان لسحر الحداثة وسطوتها الأثر الحاسم في الانشقاقات الكبرى داخل الكنيسة. ولهذه الحقيقة شواهدها البارزة حين نعاين طبيعة اللحظة التاريخية التي شهدت ظهور تلك الإنشقاقات.
تشير الوقائع التاريخية ان الكنيسة بلغت ذروة سلطتها الدينية في عهد الباباوات: إرنست الثالث، وغريغوري التاسع، وإنوسنت الرابع (1254-1198). وقد خرج البابوات مظفَّرين في الصراع مع الامبراطور أوتور الرابع، وفريديريك الثاني، وأمنّوا سلطة واسعة شملت، الإشراف على التعيينات والاتفاقيات، وإبداء الرأي في مسائل الحرب والسلم، وإشراف على رعاية الأرامل والأيتام، وإدارة لاضطهاد الهراطقة، والحق في مصادرة ممتلكاتهم، والتدخل في الثورات ضد الكنيسة والنظام الاجتماعي. غير أن هذه الإنسانية الكلية ومعها السيطرة الكنسية العليا لم تدم إلى الأبد. وحوالى العام 1300، نجد أن رجال الدين الفرنسيين كانوا يتصرفون مثل المواطنين الفرنسيين، وليس كموظفين لخدمة البابا. وهكذا صار الولاء للوطن أقوى من الإخلاص للبابا. وصارت الدولة القومية (وفي هذه الحالة، فرنسا) كياناً سياسياً أقوى من الأخوَّة المسيحية الكلية، حتى في أوساط رجال الدين.
وعلى سبيل المثال كان مارسيليوس البدواني (1342-80/ 1275) معارضاً أرسطياً للبابا. وفضلاً عن ذلك، كانت له وجهات نظر تنذر بحصول حركة الإصلاح الديني والبروتسانتية. وكان هو مثل توما الأكويني يرى أن المجتمع ذو اكتفاء ذاتي، وليس بحاجة الى تسويغ لاهوتي أو ميتافيزيقي. ويمكن القول هنا على وجه المساءلة، انه إذاً، كان ثمة علمانية وبروتستانتية في فكر مارسيليوس. فذلك بيِّن كما سنرى. فقد نظر الرجل إلى الدين باعتباره شأناً خاصاً وفردياً؛ حيث ميَّز بين الإيمان والعقل بشكل حاد. وباعتباره اختيارياً في عقيدته، فقد أكد على الإرادة أكثر مما أكد على العقلانية. غير أنه ككل المصلحين الأوائل، ظل يتصور وجود إيمان مسيحي كلي واحد. أما وليام الأوكامي (1349-1285) الفرانسيسكاني فكان محافظاً من الوجهة السياسية، ومدافعاً عن المذهب الدستوري في القرون الوسطى ضد “النظام الملكي المطلق” الذي كان للبابوية. أما من الوجهة الفلسفية، فكان الأوكامي إسمياً*، ومن القائلين بالإختيار. وأما من منظور تاريخ الأفكار فإنه كان ملهماً لمارتن لوثر والبروتستانتية. وبما أن الرؤية الدينية للكتاب المقدس هي المصدر الوحيد للحقيقة المسيحية، فمن الصعب بمكان تسويغ وجود نظام كنسي هرمي يكون فيه البابا هو الحاكم المطلق. أي إن القدرة على قراءة نصوص الكتاب المقدس والإيمان المسيحي موزعان ديمقراطياً، أكثر من التعليم اللاهوتي. لذا، عارض وليام الأوكامي الأطروحة التي تفيد أن البابا يجب يكون له القول الفصل في المسائل الدينية. وعليه، اقترح تأسيس مجامع (مجالس) لتقييد سلطة البابا ومراقبتها. غير أنه أدرك أيضاً ان المجالس ليست معصومة عن الخطأ. ومع ذلك، لم يتحول الأوكامي الى شاكٍّ – والشك كان أمراً شائعاً في القرنين السادس عشر والسابع عشر، في فرنسا. فهو يعتقد أن النقد المتنور الذي يصدر عن المجالس التمثيلية، يمكن أن يؤدي الى الحقيقة. وبدا أنه لم يشك في أن الحقيقة واحدة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى