قضايا فكرية

مقابلة مع يورغن هابرماس عن الديمقراطية التداولية (1 من 3)

 

The Oxford Handbook of Deliberative Democracy, Edited by Andre Bächtiger, John S. Dryzek, Jane Mansbridge, and Mark Warren, 2018.

ترجمة: هشام عمر النور

 

تغطي هذه المقابلة مع يورغن هابرماس عددًا من الموضوعات الحاسمة والمثيرة للجدل في الديمقراطية التداولية – مثل دور موقف الكلام المثالي، ودور الإجماع (العقلاني)، وإمكانية التداول في المجال الاستراتيجي للسياسة في المجتمعات المنقسمة على نحو عميق. بالإضافة إلى ذلك، فإنه يحدد تقييمه للتطورات الحالية في النظرية التداولية – مثل مساهمة الروايات والعواطف والخطابات في عملية التداول ودور المصلحة الذاتية والمساومة في التداول. يقدم يورغن هابرماس رؤية تكاملية ومتفائلة للبرنامج التداولي، مؤكداً على أهمية اتباع نهج منظم وطويل الأجل حيث يتم تنقية العملية الديمقراطية “ككل من خلال التداول”.
يؤكد العديد من منظري التداولية اليوم أن المعايير التداولية تعمل كـ”مُثُل تنظيمية” (مثل معيار القوة المتساوية في النموذج

التجميعي للديمقراطية). هذا يعني أن المفهوم الذي كثيرًا ما يتم اقتباسه عن “موقف الكلام المثالي” ليس هدفًا يمكن تحقيقه من الناحية العملية في نهاية المطاف. هل تعتبر هذا تطورا مرحب به؟
يمنحني سؤالك فرصة لتوضيح سوء فهم مستمر حول مفهوم “وضع الكلام المثالي”. بصرف النظر عن حقيقة أنني لم أستخدم هذا التعبير المضلل منذ مقالتي عام 1972 حول “نظريات الحقيقة”، يجب على المرء أن يأخذ في الاعتبار السياق الذي يتم فيه تقديم المفهوم. في ذلك الوقت، استخدمت التعبير للإشارة إلى مجموعة الافتراضات البراغماتية التي يجب علينا(!) أن نفترض أنها حقيقية عندما ننخرط في مناقشة حول صحة بعض القضايا. وكمشاركين في الخطاب، “نعلم” أننا لا نجادل “بجدية” إذا كان هنالك إكراه أو تلاعب، في أثناء تبادلنا للحجج، أو تم قمع الآراء والمواقف ذات الصلة. أننا نفترض مسبقًا، في الحالة المعينة، أن القوة غير القسرية للحجة الأفضل هي التي تلعب الدور الحاسم في محاججاتنا. إن “معرفة الكيفية” – “معرفتنا بكيفية المشاركة في خطاب عقلاني” – لها تأثير تنظيمي على السلوك الفعلي للمشاركين في المحاججة حتى لو كانوا مدركين أنهم لا يستطيعون تحقيق هذه الافتراضات العملية إلا تقريبًا. في ضوء هذا الوضع المخالف للواقع، يمكن للمرء أن يقول ربما أن المحتوى المثالي للافتراضات البراغماتية للخطاب يلعب دور الفكرة التنظيمية للمشاركين. من منظور المراقب، سيجد المرء أن الخطابات العقلانية نادرًا ما تحدث في شكلها النقي. ومع ذلك، فإن هذا لا يغير بأي حال من الأحوال حقيقة أنه، من منظور المشارك، يجب أن نفترض تلك الافتراضات التي تشكل أساس بحثنا المشترك عن الحقيقة. يتضح هذا، من بين أشياء أخرى، من خلال لجوئنا إلى هذه المعايير بالذات (872) لانتقاد التظاهر بالانخراط في الخطاب أو لانتقاد الاتفاق الذي يتم التوصل إليه بوسائل مشكوك فيها.
عند فحص مفهوم الخطاب العقلاني، يتبنى الفيلسوف الموقف المعرفي للمشارك ويحاول إعادة بناء “المعرفة الأدائية للكيفية التي يتم بها إجراء خطاب عقلاني”، ومن ثم تحويلها إلى “معرفة واضحة عما …” تعنيه المحاججة. وعلى النقيض من ذلك، فإن عالم الاجتماع الذي يتعامل مع الخطابات – على سبيل المثال، في سياق التأملات حول الممارسات الديمقراطية – لا يهتم بالخطاب العقلاني على هذا النحو، بل يتعامل مع هذه الظواهر من منظور المراقب، ويصف الخطابات في المكان والزمان – أي، في مظاهرها التجريبية المتنوعة – ولهذا الغرض يفضل مفهوم “التداول” الأقل تحديدًا. لكن هذا لا يمنع حقيقة أن لدى الباحث التجريبي أيضًا أسبابًا وجيهة لعدم تجاهل المعرفة الأدائية للمشاركين.1
هناك العديد من الممارسات التي لا يمكن أن تعمل إلا إذا اتخذ المشاركون افتراضات مثالية معينة. ففي الديمقراطية الدستورية، على سبيل المثال، لن يحل المواطنون نزاعاتهم من خلال المحاكم إلا إذا أمكنهم الافتراض بأنهم سيحصلون على حكم عادل إلى حد ما (دون قلق مما يكتشفه الواقعيون أو دعاة الدراسات القانونية النقدية حول الكيفية التي تتحدد بها دوافع القضاة بواسطة مصالحهم). وبالمثل، لن يشارك المواطنون في الانتخابات السياسية إلا إذا كانوا قادرين على الافتراض ضمنيًا أنهم يستطيعون إسماع صوتهم وأن أصواتهم “مهمة” – بل يجب أن يكون لها نفس الوزن مثل أي صوت آخر. هذه أيضًا تمثّل افتراضات مسبقة مثالية. ويمكن لهذه الممارسات الخطابية المضمنة في مؤسسات الدولة، على عكس الخطابات غير الرسمية، أن تفقد مصداقيتها. فالناخبون الذين يشعرون بأنهم لا يؤبه لهم يتوقفون عن الذهاب إلى صناديق الاقتراع.
نشهد اليوم كيف يمكن في كثير من الأحيان إعادة تعبئة الناخبين الممتنعين من قبل الحركات الشعبوية. ويشارك هؤلاء، بمجرد فهمهم لأنفسهم على أنهم “معارضة للنظام”، بنوايا العرقلة وليس على أساس الافتراضات المسبقة لانتخابات ديمقراطية. الجانب الإشكالي للمؤسسات، مثل الانتخابات الديمقراطية، ليس الافتراضات المثالية التي يطلبونها من مشاركينهم فيها، ولكن مصداقية المؤسسات نفسها. تتوقف الانتخابات الديمقراطية عن العمل بشكل صحيح، على سبيل المثال، عندما يؤدي الفشل في حمل مصالح المهمشين من الناخبين الممتنعين على محمل الجد إلى حلقة مفرغة، أو عندما تتفكك البنى التحتية للتواصل العمومي إلى الحد الذي يؤدي إلى الاستياء الممل، بدلاً من أن تكتسب الآراء العامة المستنيرة اليد العليا. باختصار، السياسة التداولية ليست، بالنسبة لي، مثالًا بعيد المنال يجب قياس الواقع الدنيء عليه، ولكنها افتراض وجودي لأي ديمقراطية لا تزال تستحق الاسم.
وبطريقة أخرى مختلفة، نواجه أيضًا الافتراضات البراغماتية للتداول السياسي عندما ننظر في تاريخ ظهور الديمقراطيات الحديثة الأولى في نهاية القرن الثامن عشر. أدت علمنة سلطة الدولة إلى فجوة في مشروعية

يورغن هابرماس

السلطة السياسية، التي كانت حتى ذلك الحين قادرة على الاعتماد على المعتقدات الدينية للسكان. ولا يمكن لأي نظام سياسي تحقيق الاستقرار على المدى الطويل إذا كان عليه الاعتماد حصريًا على القوة. وهكذا، فإن الاعتقاد بأن السلالات الحاكمة قد تم تعيينها إلهيًا، الذي يضفي المشروعية على حكمها، كان لابد من استبداله تدريجياً بالسلطة المولدة للمشروعية التي تتمتع بها عملية تكوين الإرادة الديمقراطية. للوهلة الأولى، يبدو (ص 873) غامضًا جدًا أن تنشأ “المشروعية” – أي، النتائج المقنعة على نحو عام – من “القانونية”، أي من المأسسة القانونية لإجراء صنع القرار الديمقراطي. جزء أساسي من تفسير ذلك يتم توفيره من خلال تحليل معنى هذا الإجراء من منظور المواطنين المشاركين. يدين الإجراء بسلطته الإقناعية إلى مزيج بعيد المنال لعاملين: فهو يتطلب، من ناحية، مشاركة جميع المتأثرين بالقرارات الديمقراطية، ومن ناحية أخرى، يجعل هذه القرارات تعتمد على نحو أو آخر على الطابع الخطابي للتداول الذي يسبقها.
يتوافق استيعاب المهمشين مع المطلب الديمقراطي بأن جميع المتأثرين بالقرارات يجب أن يشاركوا في تكوين الإرادة السياسية على قدم المساواة، بينما على تنقية التداول أن تأخذ في الاعتبار أن تكون حلول المشكلات صحيحة وقابلة للتطبيق من الناحية المعرفية وتؤسس للافتراض بأن النتائج مقبولة عقلانيًا. يمكن تبرير هذا الافتراض بدوره بافتراض مؤداه أنه في التداول المؤدي إلى اتخاذ القرارات، يجب أن يتم تناول جميع الموضوعات ذات الصلة، والمعلومات المطلوبة، والمقترحات المناسبة للحلول، بالحجج المؤيدة والمعارضة. لذلك، ليس من قبيل الصدفة التاريخية أن ينمو المجال العام البرجوازي جنبًا إلى جنب مع الديمقراطية الليبرالية. أيضًا، في ظل الظروف المتغيرة للديمقراطية الجماهيرية، يتعين على مؤسسات التشريع البرلماني، والمنافسة بين الأحزاب السياسية، والانتخابات السياسية الحرة أن تترسخ جذورها في مجال عام نابض بالحياة، ومجتمع مدني نشط، وثقافة سياسية ليبرالية. بدون هذا السياق الاجتماعي، فإن الافتراضات التداولية الأساسية للمشروعية الديمقراطية للحكم ستفتقد إلى أي دعم في الواقع.
(2أ) يعترض العديد من منظري التداولية على أن الإجماع لا يلزم أن يكون هدف عملية التداول الناجحة؛ يمكن أن يؤدي التداول بدلاً من ذلك إلى توضيح الأفضليات. هل أعدت النظر في التوجه نحو التفاهم كشرط للتأثير التداولي؟
اسمح لي أن أوضح النقطة التالية مقدمًا: الافتراض بأن الخطابات السياسية موجهة أيضًا نحو هدف التوصل إلى اتفاق لا يعني بأي حال من الأحوال تصورًا مثاليًا للعملية الديمقراطية باعتبارها سمنار جامعي سلمي. على العكس من ذلك، يمكننا أن نفترض، على نحو آمن، أن توجه المشاركين على وجه الدقة إلى حقيقة أو صواب معتقداتهم هو الذي يضيف أولاً وقودًا إلى نار الخلافات السياسية ويضفي عليها طابعًا إشكاليًا. أن تحاجج هو أن تناقض. ولكن بفضل الحق في – وبالتأكيد من خلال التشجيع – أن تقول “لا” للآخر تتطور الإمكانات المعرفية للغة والتي بدونها لا يمكننا أن نتعلم من بعضنا البعض. وهذا هو الهدف من السياسة التداولية: أن نحسن معتقداتنا في النزاعات السياسية وبالتالي نقترب من الحل الصحيح للمشاكل. هذا يفترض، بالطبع، أن العملية السياسية لها بعد معرفي في المقام الأول …
(2 ب) هل تعتقد أن توضيح الأفضليات يمثل هدفًا صحيحًا بنفس القدر الذي عليه التداول؟ وهل يمكن أن ينتج عن التداول نتائج لا ترقى إلى مستوى الإجماع المثالي (مثل التنازلات أو المواقف المربحة للجانبين)؟
(ص 874) توضيح الأفضليات هو، بالطبع، الخطوة الأولى في كل خطاب سياسي؛ ولكن في الوقت نفسه، تؤسس الخطابات للافتراض بأن أطرافها يجب أن تدرس أفضلياتها الأولية في سياق التداول وتغيرها أيضًا في ضوء الحجج الأفضل. يمكّننا هذا الشرط من التمييز بين الآراء التداولية وتكوين الإرادة من جهة والتنازلات من جهة أخرى. الخطابات لها بعد معرفي لأنها تخلق مجالًا للحجج لممارسة سلطتها في تغيير الأفضليات، في حين أن التسويات، التي يتم التفاوض عليها بين الشركاء المتمتعين بالسلطة على أساس التنازلات المتبادلة أو المنافع المشتركة، تترك الأفضليات على حالها بدون أي تأثير عليها. كل من الخطابات والمساومة هي طرق مشروعة للتوصل إلى اتفاقات سياسية. فقط يجب على المرء أن ينتبه إلى نوع القضية المطروحة من أجل اكتشاف ما إذا كان ينبغي السعي إلى اتفاق من خلال المسار المعرفي للخطاب أو عبر طريق التفاوض.
ومع ذلك، فإن السؤال الحاسم هو ما نوع الحجج التي نعتقد أنها قوية بما يكفي لإحداث تغييرات عقلانية في الأفضليات. تعتمد الإجابة على الافتراضات الفلسفية الخلفية التي يتعين على علماء السياسة التجريبيين الذين يدرسون السياسة التداولية توضيحها أيضًا. يدافع التجريبيون عن المفهوم غير المعرفي للعقل العملي الذي من المفترض أن يقتصر على ملكة الاختيار العقلاني والقرارات الإستراتيجية. ووفقًا لهذا المفهوم، يمكن أن تتأثر أفضليات الفرد بشكل حصري بمعلومات أفضل حول نطاقات العمل والمخاطر وحسابات أكثر موثوقية لعواقب مسارات العمل البديلة المحتملة؛ وبالتالي لا يمكن تغيير الأفضليات من خلال أخذ أفضليات المشاركين الآخرين في الاعتبار. هذه النظرة المقيدة غير بديهية، لأن الأسباب التي نجادل من خلالها حول صحة المعايير المقيدة للعمل أو القيم المفضلة، لا تحمل وزنًا معرفيًا أقل بالمقارنة مع المعلومات حول الوقائع، في تكوين الأفضليات ذات الدوافع العقلانية.
لا تتعامل الخطابات السياسية مع حقيقة القضايا الوصفية فحسب، بل تتعامل أيضًا مع ادعاءات الصحة التي نربطها مع القضايا المعيارية والتقييمية. وبالتالي، يمكن فحص عدالة المعيار القانوني من وجهة النظر الأخلاقية حول ما إذا كان، فيما يتعلق بمسألة بحاجة إلى تنظيم، “جيدًا على قدم المساواة” لجميع المعنيين أم لا؛ وهنا يأتي دور مبدأ التعميم. علاوة على ذلك، يمكن لأعضاء المجتمع السياسي فحص قرار الاختيار بين القيم المتنافسة على أساس وجهة النظر التي تفضل هذه القيم أو تلك في ضوء الروح العامة لشكل الحياة المشترك للمجتمع. ويكون الأعضاء مستعدين لإخضاع أفضلياتهم لمثل هذه الروح. وعلى النقيض من ذلك، فإن الأفضليات بحد ذاتها ليست بحاجة إلى تبرير، لأن مثل هذه العبارات مقبولة من منظور الشخص المتكلم من خلال الطريقة المميزة لكل فرد في الوصول إلى رغباته الخاصة. فالأفضليات من وجهة النظر هذه تستحق كلها نفس الاعتبار؛ ولكنها لا يمكن أن تدعي في النهاية أنها تحظى بذات القدر من الاعتبار على أساس الخطابات الأخلاقية أو القانونية أو على أساس الروح العامة. في هذه الحالة فقط يمكن أن تتم تسوية المسألة، إذا كان لا بد من ذلك، عن طريق المساومة.
تُفهم مشاكل العدالة على أنها مهمة معرفية، في حين أن القرارات المتعلقة بأولوية بعض القيم على غيرها يمكن اعتبارها مهمة معرفية جزئيًا وإرادية جزئيًا، لعملية تكوين الإرادة بدوافع عقلانية. في كلتا الحالتين، فإن توجه المشاركين نحو التوصل إلى اتفاق ينبع من معنى القضايا المعنية. الأعراف والقيم لا يمكن مطلقاً أن تهم شخص واحد فقط، على عكس الأفضليات (ص 875). بافتراض مثل هذا الفهم المعرفي للخطابات، فإن التوجه المطلوب للمشاركين نحو الإجماع لا يعني بطبيعة الحال أن المشاركين من المحتمل أن يكون لديهم توقع غير واقعي بأنهم سيصلون بالفعل إلى إجماع حول المسائل السياسية. تتطلب الخطابات العملية من المشاركين إظهار استعداد غير محتمل لتبني وجهات نظر بعضهم البعض وتوجيه أنفسهم نحو المصالح العامة أو القيم المشتركة. بعد كل ذلك، فإن هذا هو السبب في أن العملية الديمقراطية تربط التداول الذي يخضع لقيود الوقت بقرارات الأغلبية. يمكن تبرير قاعدة الأغلبية (سواء كانت أغلبية بسيطة أو أغلبية مؤهلة) بدورها بالطابع الخطابي لتكوين الرأي. وبافتراض أن النتائج المقبولة عقلانياً لها ما يبررها وأن القرار قابل للعكس، يمكن لكل أقلية خسرت في التصويت، وبالنظر إلى إمكانية استئناف الخطاب، إخضاع نفسها لإرادة الأغلبية دون الحاجة إلى التخلي عن موقفها.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى