حوارات

مدير عام مؤسسة شمعة “نور الحسين السيوطي” في حوار مع (الديمقراطي): 1 – 2

عانت من التعنيف والوصمة المجتمعية، تربت ونشأت في مؤسسات الدولة ودار الطفل بالمايقوما. سيدة من شريحة فاقدي السند، تقول، إن الحياة الطبيعية هي ملك لكل انسان، وليس من حق أحد أن يسلبه هذا الحق، طالما أنه، في سعيه أن يبني نفسه جاهداً دون الالتفات الى النظرة الاجتماعية التي في كثير من الأحيان تكون قاصرة، ومؤطرة وفق رؤى ومفاهيم محكومة بما هو متوارث، وليس الذنب ذنب من جاء الى الدنيا ووجد هذا الموروث راسخاً، بقدر ما يعنيه، أن يساهم في تصحيحه، مؤكدة كما تقول: “لم يكن خياري أن آتي إلى الدنيا بدون أم وأب، فقدتُ السند الأسري، والحق في ممارسة حياتي بصورة طبيعية. ينادونني ونظيراتي ببنات المايقوما، مما شكل في دواخلنا ألماً ممزوجاً بالإصرار على العيش بكرامة وعدم الخجل من الوصمة”. هي (ماما نور) الأم الرؤوم. جلست اليها (الديمقراطي)، وتناولت بالحديث مسيرة حياتها، وكيف تكونت منظمة شمعة لحماية الأمهات والأطفال فاقدي السند.
وفي حوار متسم بالوضوح والشفافية، تسلط (الديمقراطي) الضوء على شريحة في مجتمع نسي أنها جزء منه، وتعكس جملة من التحديات المعقدة عبر المساحة التالية..
الديمقراطي – لبنى عبد الله

* (ماما نور): خبير في العون الإنساني وصمني بـ (بنت ……)

*البدايات، تجربتك كواحدة من شريحة فاقدي الرعاية الوالدية. نشأتي في دور الرعاية الاجتماعية التابعة للدولة، وكونتي أسرة، حديثنا عن ذلك؟
علاقتي بهذا الملف المعقد والخاص، وبالأطفال فاقدي السند علاقة حقيقية، لأنني عشت ذات التجربة، ومررت بذات الانتهاكات. كنت طفلة بدون أم وأب، وجدت نفسي في مؤسسات دار الطفل بالمايقوما والقرية السودانية، وكلها دور تتبع لوزارة الرعاية الاجتماعية. تجربتي قاسية وكلها تعنيف، بدأت بوجودي في دار المايقوما وليس في منزل أسري. فقدت حقي في هويتي وتاريخي وأسرتي، كانوا ينادوننا باسم الدور التي نعيش فيها، يوصموننا بـ (بنات المايقوما) ولا ينادوننا بأسمائنا الحقيقية. لا يمكن لشخص أن يتخيل تأثير هذه الوصمات علينا وكم هي موجعة، ولا يمكن أن يحس بها إلا من عاش الحرمان. هناك لم أمارس حياتي كطفلة بريئة وحرة تعيش مرحلتها بكل سعادة، وهو ما يعد انتهاكاً لجهة أنني مقيدة وموصومة. تذوقنا مرارة اليتم والحرمان والحزن، وسمعنا الإساءات مثل يا (بت ……)، وكذا وكذا من الأوصاف الجارحة داخل المؤسسات التي يتم إيداعنا فيها، تتم إساءتنا بذنب لم نرتكبه، ولم نكن لنختار أن نأتي إلى الحياة بدون أب وأم.
*من أين تستمدين هذه القوة؟
ربي بجانبي يسندني، هناك قوة خفية تعينني على مواجهة ما أتعرض له من مضايقات. تتم تسميتنا ببنات القرية والدار، وكان مطلوب منا أن نكون منضبطين بنسبة (100%) في سلوكياتنا الشخصية، ومعروف أن الطبيعة البشرية تخطئ، “وجَلّ مَن لا يخطئ”. كل ما كبرنا يجب علينا عدم الوقوع في الخطأ، وأي خطأ من جانبنا يوضع على المجهر. لم نعش طفولة حقيقية، ولم نعش مرحلة الشباب، ودائماً ما نكون خائفين من المجتمع، كل الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية يعيشون ضغوطاً نفسية. وبالرغم من أنني تزوجت، لكنني لم أستطع ممارسة حياتي بصورة طبيعية، فالمجتمع يلاحقني، يبحثون عن من أنا، وما هو سري. كونت أسرة، ضاق بي الأمر، فكان قراري أن أواجه المجتمع بكل شجاعة.
*أول انتهاك تعرضت له عقب مواجهتك للمجتمع؟
ذهبت لكي أسجل المنظمة في العون الإنساني، حملت جميع المطلوبات من الأوراق الرسمية بهدف التسجيل، كان ذلك في العام 2007. عند مقابلتي للموظف الذي يشغل منصباً رفيعاً في المفوضية، لاحظت أنه ينظر لمستنداتي التي تقدمت بها للتسجيل بسخرية واستخفاف، وقال لي ضاحكاً: “يا بت الناس، نحن أولاد الحلال ما عملنا ليهم حاجة، تجونا إنتوا أولاد الحرام؟!”، لم أنس هذه الإساءة. أجبته بقولي: “أولاد الحلال الذين تتحدث عنهم لم يبحثوا عن حقوقهم، ونحن أولاد الحرام لدينا حقوق نتابعها”. وذكرت له أنه من حقي كمواطنة أن أسجل في المنظمة، فإن كنت لا تريد مساعدتي سأتقدم بشكوى ضدك، فكان رده: “اذهبي وتقدمي بشكوى ضدي”.

* تزوجت لكنني لم أمارس حياتي بصورة طبيعية، فالمجتمع يلاحقني

*هل سجلت المنظمة؟
نعم، بعد معاناة. تعرضت للتعنيف والملاحقات، وتم اعتقالي. ودائماً يسألونني: “ما هو هدفك للعمل في هذا الملف؟”، فكان ردي: “من حقي كمواطنة سودانية العمل وخدمة الشريحة التي أنتمي إليها، من أجل رفع الظلم عنها”. كنت أرى أن وضع الأطفال فاقدي السند في الدار ليس حلاً لأنها عبارة عن مخزن يتم فيه وضع الأطفال دون اهتمام، يموت من يموت، ويحيا من يحيا. دار المايقوما عملت على تجذير المشكلة، ومازال المجتمع ينجب أطفالاً ويرميهم في الشارع، مما يؤكد أن سياسات الدولة لا تعمل على حل المشكلة بنشر الوعي والاستنارة وإقناع المجتمع بأننا لسنا ضد العلاقات الإنسانية، ولكن أن يقودها سلوك منحرف ينتج عنه طفل ويتم الهروب منه والتنصل منه يعني أن من فعل ذلك شخص مريض ومشوه، فالشخص السوي يتحمل نتائج تصرفاته، وكلها أخطاء بشرية.
* كيف توفرين لنفسك الحماية؟
أنا شجاعة جداً، لا أخاف، وصوتي عال. وهو ما شكل لي جزءاً من الحماية، وأيضاً كنت أرصد أخطاء الإداريين وأحتفظ بها، وهذه إحدى الاستراتيجيات التي عملت على حمايتي كفاقدة للسند. إضافة للبنات من ذات الشريحة، هن أسرتي وحمايتي، وحالياً أصبحن خالات لأبنائي، نتشارك هم الحرمان والمصير المشترك بخلق روابط قوية بيننا، فتوطدت علاقتنا ببعضنا، وعندما فكرت في مشروع منظمة شمعة قمت بتعيين شقيقاتي من دار الرعاية. هناك أمور جيدة حدثت في حياتي، درست الجامعة خارج السودان، وأقف في خانة الدفاع المستميت عن حقوقنا. مرحبا
*التحديات التي واجهتك عند البدء في العمل بالمنظمة؟
كانت البداية بملف الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية، وهو مجال تخصصي. نجحت في مواجهة التحديات المباشرة في القوانين والإجراءات الخاصة بالكفالة في أسر بديلة، وإجراءات إيداعهم بدور الرعاية، ومعالجة الوصمة المجتمعية التي تواجههم، والعمل على تصحيح المفاهيم الخاطئة عنهم، فكانت تلك ملامح منظمة شمعة في المرحلة الأولى.
*لماذا لم تكن البداية في مجال المعالجات الخاصة بالفتيات؟
في ذلك التاريخ، كان من الصعب العمل على ملف الفتيات اللائي ينجبن خارج إطار الزوجية. ملف الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية كان مقبولاً اجتماعياً، بعكس ملف الفتيات الذي لم يكن مقبولاً لدى الجهات الرسمية، ويتم تجريمهن على الرغم من أنهن قد يكن ضحايا. الهدف الأساسي من تجربة منظمة شمعة هو مساعدة الفتيات اللائي يكن في وضع (الحمل) خارج إطار الزوجية، وساهمت المنظمة في إصلاح القوانين التي تراعي مصلحة الأطفال المواليد، كما ساهمنا في كفالة مجموعة من الأطفال فاقدي الرعاية الوالدية. ولأنني أنتمي إلى هذه الفئة وباستطاعتي إدارة هذا الملف، تمكنت من إحداث فارق فيه، وحققت إنجازاً. باعتبار أن الأطفال الذين يتم إنجابهم بطرق خارج اطار الزوجية سيواجهون بوصمة مجتمعية قاسية، فاستطعت أن أصنع منهم أشخاصاً ناجحين يدرسون في الجامعات السودانية ويحققون نجاحات.
* * *
في الجزء الثاني تحديات تواجه عمل المنظمة
(ماما نور): وفقنا أوضاع أكثر من (8) آلاف فتاة وأطفالهن
واستقبلنا أكثر من (10) آلاف فتاة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى