قضايا فكرية

الحق في التبرير: نحو نظرية نقدية للعدالة والديمقراطية

مقابلة مع راينر فورست (الجزء الأول)

راينر فورست (من مواليد 15 أغسطس 1964، فيسبادن) هو فيلسوف ومنظر سياسي ألماني، وتم اعتباره “أهم فيلسوف سياسي في جيله” في عام 2012، عندما فاز بجائزة جوتفريد فيلهلم ليبنيز. يعمل حاليًا أستاذًا للنظرية السياسية في قسم العلوم الاجتماعية بجامعة يوهان فولفجانج جوته في فرانكفورت. غالبًا ما ينظر إليه ضمن أحدث جيل (الجيل الرابع) من العلماء المرتبطين بمدرسة فرانكفورت للنظرية النقدية. حصل على الدكتوراه تحت إشراف يورغن هابرماس في عام 1993، مع إشراف إضافي من جون راولز من 1991 إلى 1992. مجالات أبحاثه الرئيسية هي النظرية السياسية والبراغماتية، والتسامح، والعدالة السياسية والاجتماعية. أدرج في كتابه الأول باللغة الإنجليزية، سياقات العدالة، عناصر من النظرية الليبرالية الأنجلو أمريكية والتشاركية مع النظرية النقدية والاجتماعية الألمانية. يُعتبر الرائد في العالم أجمع في موضوع التسامح.

كزافييه غيوم: كيف أصبحت مهتمًا بالنظرية السياسية، وما هي التأثيرات الفكرية التكوينية عليك؟ وفي ضوء تلك التأثيرات، كيف يمكنك التفكير في مسارك من حيث الأسئلة المعيارية التي حاولت طرحها والتعامل معها على مدار العقدين الماضيين؟
راينر فورست: تميزت السبعينيات والثمانينيات في ألمانيا، عندما تعلمت التفكير سياسيًا، بالصراعات الاجتماعية الشديدة. كان التحدي العام والعسكري لـ”النظام” (ورد فعله ضد ذلك) المهيمن على خطاب السبعينيات، ووصل إلى ذروته المأساوية بعدد من الاغتيالات الإرهابية للسياسيين وغيرهم من الأشخاص في مناصب السلطة، قد بدأ يتحول إلى إطار مختلف، وبالتحديد المعارضة الراديكالية ضد الأسلحة النووية (التي أطلقها بشكل خاص ما يسمى بـ”قرار المسار المزدوج” للناتو) وضد الطاقة النووية. كان هناك حالة مزاجية كارثية وشعور بنهاية العالم، مبالغ فيها في بعض الأحيان، وكثير منا (وليس أنا) يخشى أن نكون الجيل الأخير في الحياة. على أية حال، كان يُنظر إلى النضال السياسي على أنه مسألة حياة أو موت. أدت كلتا القضيتين إلى العديد من النزاعات والمعارك، بالإضافة إلى معارضة مشاريع أخرى مثل المدرج الجديد في مطار فرانكفورت (الآن كثيرًا ما أستخدمه). كنا جميعًا ننتقد بشدة السياسة الرسمية التي كنا مستبعدين عنها في الغالب.
ومع ذلك، في الوقت نفسه، تم تشكيل حزب الخضر – بعيدًا جدًا عما كان عليه “الحزب” العادي في ذلك الوقت – الذي كان يتناقض جزئيًا مع النظام ولذلك استطاع أن يبني جسورًا أساسية بين جيلي من المحتجين، الذين خاب أملهم في السياسة المؤسسية والنظام الرسمي، الذي لم يكن نعتبره مستحقًا بالكامل لاسم “الديمقراطية”. ومع ذلك، لم نكن نعرف تمامًا ما تعنيه “الديمقراطية” بالضبط. لكننا كنا على يقين من أنها شيئًا آخر. بطريقة ما، ما زلت أبحث عن هذا الـ”شيء آخر”. في ذلك الوقت، على الرغم من أنني كنت متأثرًا بشدة بالحركة الخضراء، فقد اعتقدت أيضًا أن الظلم الاجتماعي هو القضية الرئيسية التي يجب معالجتها، داخل المجتمعات وعبرها؛ لقد أعطاني هذا ثقلًا مقابلًا لإيديولوجيا حب الطبيعة التي كانت سائدة لدى البعض منا، ولكن ذلك لم يدفعني أيضًا إلى التماهي مع الديمقراطيين الاجتماعيين، الذين ظهروا كقوة اجتماعية محافظة إلى حد ما في ذلك الوقت.
كان من الواضح لي في وقت مبكر، أنني يجب أن أكرس نفسي لدراسة الأسئلة الكبيرة للفلسفة السياسية – ما هو المجتمع العادل، وماذا تعني الحرية، وما إلى ذلك. قرأت نظريات العقد الاجتماعي، وقرأت ماركس، وبلوخ، ومدرسة فرانكفورت، ونيتشه أيضًا، وكنت مفتونًا. ولم أقرأ كانط إلاّ بعد نيتشه، وربما كنت كانطياً حتى قبل أن أستوعب كانط. في تلك المرحلة، بعد ترك المدرسة وأداء الخدمة المدنية (وبصفتي معترضًا ضميريًا، وهو ما كنا عليه جميعًا، باستخدام وجهة نظر واسعة ومقبولة عن “الضمير”)، قررت الذهاب والدراسة في فرانكفورت. كان هابرماس قد عاد إلى فرانكفورت من شتارنبرج في أوائل الثمانينيات، وعرفت أن هذا هو المكان الذي أريد أن أكون فيه والشخص الذي أرغب في الدراسة معه.
ومن ثم ذهبت إلى هناك، وما زلت أعتبرها أكثر خطوة موفقة قمت بها. لأن الفلسفة كانت حية في تلك الأيام. كان هابرماس معلمًا عظيمًا وشخصية مؤثرة، وكان هناك فلاسفة آخرون ومنظِّرون سياسيون مؤثرين أيضًا، مثل كارل أوتو أبل أو إيرينج فيتشر أو أكسل هونيث، الذي كان مساعداً لهابرماس في ذلك الوقت. في ذلك الزمان والمكان، تمت مناقشة الأسئلة التي تهمني بطرق رائعة، وكذلك كل ما كان يعتقد أنه مهم. ونشأ حول هابرماس محيط دولي من الطلاب الأجانب والباحثين والأساتذة الزائرين مثل شارلز تايلور، جون سيرل، برنشتاين، ودريفوس، مما شكل لنا حماية، أو هكذا آمل، من تطوير أي شكل من أشكال التفكير المحلية. عندما نشر هابرماس كتابه “الخطاب الفلسفي للحداثة” عام 1985، أشعل عددًا من الخلافات التي انخرطنا فيها نحن الطلاب بشكل مكثف. علاوة على ذلك، برز هابرماس، في ذلك الوقت، على نحو ملحوظ فيما يسمى “مناظرة المؤرخين” (Historikerstreit). لذلك كانت هذه أوقات ذات عنفوان لنا نحن الشباب. الجدل مع ما يسمى بـ”ما بعد البنيوية” فرض على الكثير منا نحن الطلاب مهمة بناء مناهجنا الخاصة، خاصةً أنني لم أعتبر أن الخيار بين إما هابرماس أو فوكو أمراً مثمرًا. وفي الوقت نفسه، يمكننا أيضًا أن نرى كيف أن المثقفين النقديين وفقاً لـ”أسلوب فرانكفورت” قد تمت إهانتهم في مناظرة المؤرخين الشرسة، باعتبارهم مخربين ومتغطرسين ولا صلة لهم بالمجتمع الألماني. وهذا، أيضاً، ساهم في تكوين هويتنا كفلاسفة نقديين.
لذلك إذا نظرت إلى الوراء إلى الفترة التكوينية، فإن الفلسفة كانت دائماً بالنسبة لي مشروعًا فكريًا وسياسيًا أيضًا، ولكن ليس بالمعنى الضيق للسياسة السائدة أو بالمعنى الذي من شأنه أن يجبرك على معارضة غير ضرورية للفكر. كطلاب لهابرماس، علمنا أنه عندما يتحدث عن الديمقراطية الخطابية، يفعل ذلك لأنه طور نظرية نقدية للديمقراطيات القائمة بالفعل. الديمقراطية، كما رأيتها وكما أراها الآن، هي القيام بمهمة: محاولة اتخاذ خطوات معقولة – وربما جذرية – لتأسيس ممارسة للتبرير يكون فيها من يخضعون للمعايير والقواعد والمؤسسات لهم إمكانية حقيقية وفعالة ليصبحوا مؤلفين لهذه المعايير والقواعد والمؤسسات. هل هذا ممكن التحقيق؟ لا أعلم. هل يستحق المحاولة؟ نعم بالتأكيد.

كزافييه غيوم: أنت تعتبر على نطاق واسع الشخصية الرائدة لما يمكن للمرء أن يسميه الجيل الرابع من علماء مدرسة فرانكفورت. كيف يمكنك وصف الاستمرارية والانقطاع بين هذه الأجيال الأربعة؟ بمعنى آخر، كيف تصف الوضع المعاصر لمدرسة فرانكفورت في ضوء تاريخها؟
راينر فورست: شكرا على الإطراء المتضمن في السؤال، بل ويشرفني. وعلى الرغم من أنني لست متأكدًا مما إذا كانت مدرسة فرانكفورت هي حقًا عائلة بها أجيال من أحفاد، بعضهم قريب، وبعضهم بعيد، دعونا نقبل هذه الصورة للحظة. إذن، ما الذي يستحقه جيل من أصحاب النظريات النقدية إذا ما قَبِل ما تركه لهم الكبار دون تمييز، ولم يبحث عن أفضل أدوات النقد الاجتماعي وأحسنها؟ التقليد يبقى حيا فقط إذا تغير. وهذا التقليد قد تغير إلى حد ما تغيراً كبيراً. لكن علينا أن نرى التغييرات بعيدة المدى التي قد حدثت بالفعل في الجيل “الأول” نفسه، إذا قارنت البرنامج الأصلي لهوركهايمر في عشرينيات القرن الماضي بجدل التنوير أو بديالكتيك أدورنو السلبي.
كان التحول الرئيسي التالي بالطبع هو إعادة صياغة هابرماس الهائلة للنظرية الهيغلية-الماركسية-الفيبرية-النقدية – بحيث حوّل قصة العقلنة الاجتماعية من كونها تاريخ من الاغتراب والتشيؤ والكارثة إلى تاريخ من التشويه المنهجي للإمكانيات التواصلية في عالم الحياة والسياسة. يا لها من توليفة من التقاليد الفلسفية والاجتماعية للتعامل معها. لكن هنا، كما في التحولات اللاحقة مثل تلك التي قام بها نموذج أكسل هونيث المؤثر والمنتج، للنضال الاجتماعي، باعتباره صراعًا من أجل الاعتراف وكذلك محاولاتي المتواضعة لنقد ما أسميه “علاقات التبرير”، يظل السؤال الرئيسي للنظرية النقدية ويبقى كما هو: ماذا يعني الحديث عن تنظيم “عقلاني” للمجتمع، من الناحية الفلسفية ومن ناحية النظرية الاجتماعية؟ وما هي القوى التي تمنع مثل هذا المجتمع، من تطوير شكل من أشكال الحياة “أكثر عقلانية” حتى لو كان في خطوات معتدلة؟
الآن، ولاختصار هذه القصة الطويلة إلى قصة قصيرة، أقول إن النظرية النقدية هي شكل من أشكال النظرية التي تتمسك بهذا السؤال الذي طرحناه قبل قليل، ولكنها تأملية فيما يخص التفكير النقدي حول مفهوم “العقل” ذاته وأشكال الهيمنة والاستبعاد التي ينتجها هو نفسه. تتأمل النظرية النقدية في ممارسات ومؤسسات العقل السياسي والاجتماعي وتنخرط في التنظير بشكل مبتكر حول القوى التي تمنع التحرر الاجتماعي من الحدوث. هذا ليس برنامجًا صغيرًا، وإذا كنت سأدعي المساهمة فيه بشكل مثمر، فسأقول إن محاولاتي لإعادة وصف العقل العملي كعقل ضمن ممارسات التبرير – كفن للتبرير، إذا جاز التعبير – وإعادة توجيه الفلسفة السياسية إلى التبرير كفكرة وممارسة، هذه المحاولة يتم تنشيطها بواسطة برنامج النظرية النقدية. أنا أسمي ما أهدف إليه “نقد علاقات التبرير” وآمل أن يكون لديه ما يقوله عن مفاهيم العقل واللاعقل (الموجود) في المجال النوميني (مجال الأشياء في ذاتها، لا كما تبدو لنا) وكذلك المجال الاجتماعي والسياسي. أحاول الجمع بين نظرية الخطاب ونظرية الاعتراف في نموذج التبرير، بما يشمل المقاربات الأخرى أيضًا، من نظريات “العقل العمومي” إلى مناهج السلطة والممارسة الديمقراطية التي تم تطويرها في الفلسفة الاجتماعية الفرنسية. ومع ذلك، فإن اللب يظل كانطيًا: الأمر المطلق بعدم إجبار أي شخص على العيش في ظل معايير أو مخططات مؤسسية لا يمكن تبريرها على نحو صحيح لجميع الخاضعين لهذه المعايير والمؤسسات باعتبارهم متساويين. وأنا أسمي المطلب الأساسي للأشخاص “الحق في التبرير” وأحاول تفكيك ما يعنيه ذلك من منظور فلسفي وسياسي نظري. وتصبح الفلسفة عملية بمجرد توضيح فكرة التبرير هذه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى