الرأي

(365) يوماً سرق فيها البرهان هيبة المؤسسة العسكرية قبل الديمقراطية 

ملاذ حسن

“قد ينسى السوداني تاريخ مولده، لكن لن ينسى الخامس والعشرين من أكتوبر”

عبارة قالها أمامي أحد الشباب في نهاية مليونية 21 أكتوبر، رداً على تنبيه أحد الثوار له بعدم نسيان مواعيد العرس الكبير في مليونية ذكرى انقلاب الـ 25 من أكتوبر.

لكلٍ منّا ذكريات كثيرة منذ تاريخ الانقلاب وحتى اليوم، على اختلاف درجات تأثيرها على عقولنا ومشاعرنا، سواء في المواكب أو المعتقلات أو مكاتب جهاز الأمن أو أقسام الشرطة أو المستشفيات أو المشارح. ذكرى موسيقى الانقلاب العسكري التي تم بثها في 25 أكتوبر، ولم تعبر حدود أستديوهات الإذاعة السودانية، ولم تجد أحداً داخل منزله ليسمعها.

بيان البرهان سمعه الشعب في الشوارع، والذي لولا انتظارنا لتفاصيل حلفاء الانقلاب وماهية خلفيته، ما وجد أذناً مكترثة بالإصغاء، فتظل الذكرى الأوجع والأمر والأكثر رسوخاً في أذهاننا، كيف لا!! وهي الذكرى التي قطعت الطريق على أحلامنا وأحلام شهادئنا بحكومة مدنية ديمقراطية، نحن الذين تطلعنا لفتح صفحة في تاريخ السودان تتغلب فيها المدنية والديمقراطية على موسيقى ومارشات الانقلابات العسكرية.

في هذا اليوم، وهذا الشهر الذي ارتبط في أذهاننا وأذهان الأجيال التي تسبقنا بالانتصار الثوري الأكتوبري، تطاردني لحظات وجودي في قلب الخرطوم بشارع الجامعة وشارع القيادة العامة المواجه له، بحكم سكني في داخلية مجمع الزهراء “البركس”، ودراستي للسنة الخامسة إعلام بجامعة الخرطوم وقتها.

أذكر جيداً الكم الهائل من العساكر الذين تعرضوا لنا، سواء في “البركس” أو خارجها، والذي يذكر انتهاكات الـ 25 من أكتوبر، يذكر تماماً ما حدث لطالبات الداخلية، من اقتحام وهجوم وتهديد لأمنهن نسبة لموقعها القريب.

وكأن ما شهده هذا الشارع وهذه الداخلية في هبة سبتمبر وفي فض الإعتصام وطوال مظاهرات الجامعة إبان حكومة النظام البائد، بل وعلى مدى تاريخ السودان، لم يكف البرهان وأعوانه ليريقوا فيه المزيد من الدماء .

الثورة السودانية – مواكب 25 اكتوبر 2022

أذكر حماسي وبعض الطالبات أثناء مشاهدتنا للخرطوم من أعلى سطوح في “البركس”، لحظة دخول الثوار شارع القيادة العامة بشارع عيادة الجامعة. ومتابعتنا لثوار (صينية بري) والثوار القادمين من شارع الستين أثناء اشتباكهم مع العسكر، ومحاولتهم دخول الشارع من الاتجاه الجنوبي الشرقي.. ونزولنا بعدها للمشاركة مع إخواننا الذين تمكنوا من الوصول إلى القيادة، رغم الحراسة المشددة بالداخلية، ومنع أي طالبة من تجاوز عتبة الباب.

القصة بدأت مع الحرس الجامعي، الذي أشار إليّ وعدد من الطالبات بعدم الخروج، وتحت ضغط منا قال مقولته: “طيّب أمشوا بس نحن ما مسؤولين عن البحصل ليكم برا، كل العساكر المتواجدين خارج نطاق السكن حاملين لرتب عسكرية أكبر مننا، ما بنقدر نساعدكم لو حصلت حاجة”.

ما الذي كنا ننتظره من حرس (لا أمني)، لطالما سمح للشرطة بالدخول واعتقال الطالبات من الداخلية والجامعة وتعذيبهن، فهل ستغير ديمقراطية العامين فقط في عقليته؟!

خرجنا وهتفنا ونكبنا حظنا ودماء إخواننا التي سالت في تلكم الشوارع.

أذكر حسّ الصحفي الذي خرج مني، أنا ذات خبرة الـ (10) أشهر، وهو يحاول التقاط معلومة وتحليل موقف ما، داخل شارع القيادة عن تفاصيل الانقلاب..

وأذكر، كما تاريخ 8 رمضان، وأعين العساكر التي توحي ببداية العد التنازلي لارتكاب كارثة إنسانية جديدة، والذين تواجدوا بصورة مكثفة في شارع القيادة مع ازدياد توافدهم كل لحظة.

في ذكرى مرور عام على استيطان الخرطوم عسكرياً ..

من أقنع العسكري الذي تحدث معي باشمئزاز بالقرب من قيادة الجوية، لحظة بداية الضرب الناري، يدعوني للانتظار حتى موعد نهاية (الحفلة)، أن الرصاص الذي صوب علينا في القيادة وفي أرجاء الخرطوم والسودان، كان احتفالاً؟! وكم من السنين والجهود استغرقت المؤسسة العسكرية لذرع الكراهية في نفس ذلك العسكري الشاب الذي يزامننا في العمر نظرياً، ويبعد عنا في الفهم آلاف السنين الضوئية.

من أوهم العسكري الذي اعتدى علينا بعد لجؤونا لأحد الزقاقات، وراء صالة “صبا”، بعد مطاردة بنادق العساكر لنا قبل أرجلهم، بأنني وصديقتي وغيرنا ممن وقع في قبضة قوات أعداؤه؟!

ثم ما علاقة حجابنا بزيادة تعنيفه لنا؟! ضربنا العسكري ذو اللغة غير المألوفة وسط ترديده عبارات مثل: “أقعدوا في البيوت، المطلعكن شنو؟! ما تقعدن. تعبتونا معاكم”. والله خجلت لك العصا التي انهلت بها بالضرب علينا. أظن أنني استسلمت لفكرة تبديله للعصا ببندقية وتصويبها علينا، أو التحرش، أو اعتدائه علينا، في ذلك المكان الموحش والمعزول، إلا أن اليد التي امتدت لنا بعد دقائق حالت دون ذلك. وما إن تنفست الصعداء ورفعت جسدي من على الأرض، إلا وعاودني الإحباط بعد ملاحظة البندقية والبزة العسكرية الخضراء للوجه الجديد.

دار نقاش بين العسكري الذي يفترض أنه المنقذ لنا والعسكري المعني، لينتهي بإشارة الأول له بأننا تحت مسؤوليته، عجباً، كم يملك العسكري من شخصية؟! وما الامتياز الذي جعله يختار إنقاذنا على المشاركة في الضرب؟!

تركنا العسكري الأخير مغبوناً وهو يفش غليله في الشاب الثالث المتواجد معنا، بعد تمكن اثنين من القفز إلى شارع النيل.

توجهنا غرباً مروراً بكم من العساكر الذين لا يمكنني وصفهم سوى بأنهم مرضى نفسيون أو مصابون بانفصام الشخصية.

فتارة يتحرش بنا أحدهم، وتارة (يشاور) للعسكري الذي معنا بتسليمنا له، وتارة يشير إليه بتعنيفنا، وتارة تقرأ نظرات رضا على بعضهم من تصرف الملقب بـ (أبو شنب) – حسب ما سمعت منهم.

عشنا ساعتين خارج المُجمَّع، ومن ثم انتقلنا إلى مرحلة ثانية لا تختلف عن الأولى كثيراً في الخطورة..

أدخلنا (أبو شنب) مستشفى المعلم، وكان في استقبالنا العديد من الأطباء الذين ظنوا أننا مصابات، لكن استفاهمي الأكبر كان عند ملاحظتي تواجد أفراد من شركة الهدف الأمنية بكثافة في المستشفى.

تحركت فيَّ الهواجس مرة ثانية، وأنا أتساءل عن تواجدهم في الموقع واستلامهم للحالات التي تأتي مصابة وتسجيل بياناتها. أترك لكم (3) أسئلة هنا:

*هل نشرت شركة الهدف طاقمها للتأمين كما بدا في ذلك اليوم؟!

*أم أنهم كانوا يقومون بعمل أمني يخدم مصالح الانقلاب وقتها؟!

*أم مستشفى المعلم تتعامل مع الشركة في الحراسة؟!

على كلٍ، قضينا (5) دقائق ونحن نمر بعشرات العسكريين المصطفين في طريقنا من المعلم إلى مجمع الزهراء.

وأنا لا أزال تحت تأثير صدمة الانقلاب وعنف العساكر في الخارج، علمت أننا على مشارف بداية أيام جديدة من الديكتاتورية بعد دخولي المجمع وسماعي قصص الطالبات عن اقتحام العساكر للسكن وتهديدهن، واللحاق بمتظاهرين احتموا بالمجمع. إذ إنني مهما تخيّلت العنف الذي وصلت له المؤسسة العسكرية، لما اعتقدت أن تقوم بانتهاك خصوصية مجمع يحوي آلاف الطالبات في قلب العاصمة.

بعد الرابعة عصراً، ازداد خوفنا، أولاً على عشرات المتظاهرين الذين دخلوا مجمع “البركس”، بعد مشاهدتنا للعساكر المنتشرين في براح المباني المهجورة خلف المُجمّع التابعة له سابقاً، وتقع بين الداخلية والعيادة وعمادة شؤون الطلاب جامعة الخرطوم.

أشاروا إلينا بإيحاءات تهديد ومصطلحات مثل: “الدور جاييكم يا بنات البركس”، بعد مشاهدتنا لهم من نوافذ الغرف وهم يطلقون النار على بعض المتظاهرين المحتمين بالمنطقة، ومن ثم تفاجأنا بهم بغتة وهم يتجولون في ردهات المجمع بعدها بساعتين.

يتجلى الانفصام مرة أخرى بعد ذكر العساكر الذين دخلوا المجمع مساء، بأنهم جاؤوا لحمايتنا، وأنهم أشقاؤنا. كلام لا يدخل عقل طفل صغير، مع استمرار سلسلة التناقض والنفاق العسكري.

يستحضرني، مع مشهد تمكن القوات التي اقتحمت “البركس” من اعتقال بعض الشباب، استفاهمان: الأول درايتهم المسبقة بالغرف التي دخلها الثوار كما لو أن هنالك من أبلغهم من الداخل بكل ما يحدث، ربما كنّ موظفات الصندوق القومي سيئات الصيت، وربما غيرهن، الله تعالى أعلم.

وكيفية تصديق أحد الشرطيين، الذي جمعني نقاش معه بعد الحادثة بمدة، ذكر عن سبب دخولهم “البركس”، أنها كانت عملية استخباراتية قصد منها استهداف فتيات يتبعن لحركة عبد الواحد محمد نور، بسبب تخابرهن لصالح إسرائيل وجمعهن معلومات عن قيادة الجيش.

في ذلك اليوم، كان يتم السماح لأهالي الطالبات الذين يحملون رتباً عسكرية فقط بالدخول واصطحابهن، كما كان يتم السماح لبعض أعضاء الحركات المسلحة أيضاً بالدخول، في الوقت الذي يمنع فيه لأي أسرة (مَلَكية) الاقتراب من المحيط، واستمر الحصار الأمني حتى الصباح وسط جولات للعساكر أثناء الليل بين غرف الداخلية.

في ذكرى مرور عام على الانقلاب، كلما يتم تداول حديث عن إصلاح المؤسسة العسكرية، أذكر غدر العساكر الذين كانوا يقدمون المياه للمتظاهرين من بوابات صغيرة في عمارة البشير. وملاحظتي لرائحة الدم واللحم الصادرة من المكان، وحسب ما فهمت، فإن اللحم ذبيحة احتفال بالانقلاب الذي أقاموا له أولاً مأدبة في عمارة البشير، وثانياً احتفالية رصاص من نفس الأشخاص الذين قد يوهمونك بالتعاون والأمان في لحظة، ويغدرون بك في لحظة ثانية، الأمر متروك لحظك ومزاجهم، وعوامل أخرى.

وللأمانة والتاريخ، صبيحة اليوم التالي من الانقلاب، وأثناء خروجنا من السكن بمعية حقائبنا الكبيرة وسيرنا على القدمين متوجهين إلى بحري وبري، مروراً بالعساكر بعد عدم السماح لبصات الجامعة بدخول المجمع، لاحظتُ عشرات العساكر ممن ظهرت عليهم علامات الامتعاض من منظر خروجنا بهذه الطريقة. فيما ساعد بعضهم الطالبات في قطع كبري الحديد وحمل حقائبهن، واستقبلنا آخرون على الجانب الآخر من الكبري بتاتشرات عسكرية لتوصيل الطالبات.

لا أنكر هنا، أنني رغم رفضي التعامل معهم وركوب التاتشرات، إلا أن شيئاً بداخلي اطمأن للمتواجدين على الجانب الثاني من الكبري بعد خروجنا من عرين الأسود الضالة في محيط القيادة، ومفارقة الأوجه العسكرية التي اختلطت علينا وبدت عليها مظاهر الحقد والانتقام، على عكس العساكر الذين أحفظ لهم مواقف تنم عن شهامة مغايرة لما اعتادت عليه عيني في اليوم السابق.

ما أود قوله: بعد مرور (365) يوماً، عاث فيها البرهان وانقلابيو المصالح المشتركة خراباً في البلاد، أود إرسال رسائل في بريد كلٍ من:

*ضباط الجيش الذين يبدون الولاء لأشباه القادة: ما الذي منع تمردكم وامتناعكم عن الاستجابة للأوامر في 25 أكتوبر، وفي فض الاعتصام، مثلما فعل العساكر لعبود في 64 مثلاً؟! وهل يستحق قادة عسكريون، قد يقدمون على تصفية أحدكم أو مجموعة منكم لأقل الأسباب، أن يُقدموا على استخدامكم كغربال وكبش فداء لحظة تضرر مصالحهم وامتيازاتهم؟! ثم ما الخلفية والعقيدة المنطقية التي ينطلق منها انقلابكم إذا ما تمت مقارنته بانقلابات سابقة جاءت برسالة ورؤية معلومة مثل انقلاب 69 و89؟! ومتى ستتحرر المؤسسة العسكرية من الترهات التي ذرعت في نفوس أفرادها بعد مجيء نظام الجبهة الإسلامية؟؟!

هل للمؤسسة العسكرية، في فترات قادمة، القدرة على اتخاذ موقف قوي وموحد حال تمرد عليها شركاؤها في المصالح ونشوب خلاف بينهم، وإن كان موجوداً بالفعل رغم محاولة إخفائه؟! هل تلحظ المؤسسة العسكرية حجم الضعف الذي وصلت إليه بعدم قدرتها على السيطرة على أوضاع النيل الأزرق والشرق وغيرها؟!

وأخيراً، إذا ما أردنا تقييم حجم التدهور الذي أصاب المؤسسة، ما علينا سوى قياس حجم الانتهاكات التي تمت طوال الـ (365) يوماً السابقة، لماذ لم نسمع عن هذا الكم من الانتهاكات في انقلابات سابقة في السودان من قبل؟!

*اللاهثين للشرعية العسكرية منها قبل السياسية من قادة الحركات المسلحة والدعم السريع، الذين ندري تماماً الخلفية والظروف التي قاموا فيها ببناء جيوشهم أو مليشياتهم: عمارة البشير التي تجمعكم، والتي تم إنزال قدر كبير منكم بها لحظة دخول الخرطوم، أقرب مثال لضعفكم وعجزكم عن توفير ثكنات لمنسوبيكم، وهي أبرز ما يعري مكانكم الحقيقي. وأخيراً، لا أقول إلا مثلما قال شهيد رصاصت كم الـ (119) قاسم أسامة: “بئس العسكر كنتم، ونعم الشباب كنا”.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال معبر جدا ينطبق عليه المثل الذي يطلقه العسكر علي أنفسهم (خوت الكاب حدها الباب) في إشارة ان العسكري عموما لا يؤتمن ويمكن ان يبطش بك في اي لحظة .

    يؤسفني ما تعرض له ملاذ وبقيت الفراشات ، اعتقد اننا في صبيحت الإنقلاب كنا على الشارع المؤادي الي القيادة باتجاه شارع المطار وقد افلاحنا مع موكب جنوب الحزام في كسر الطوق العسكري الذي انهال علينا بحفاوة الاستقبال برصاص الثنائي والدوشكات كان سخي معنا كما لم يفعل مع خصومة قط وزعها علي أجسادنا الهزيلة كما يوزع الكبار الحلوي صبيحة الأعياد ، لم يثنينا ذلك الوابل الرصاصي عن تقدمنا ، عذرا ملاذ فقد كان بعض ما سمعته من رصاص على أجسادنا حينها …
    سرنا حينها اننا علمنا ان الرفاق قد كسروا الطوق الأمني بإتجاه بري أيضا مما ذادنا حماس منقطع النظير ووصلنا حينها لتخوم مقر الشرطة العسكرية متجاوزين مبنى المخابرات العامة (مبني جهاز الأمن)
    كنا الرصاص يدؤي فوق الرؤوس لا يعلم أحدنا ايرجع ام نكون من الغابرين .
    اعتقد اننا حينها سطرنا ملحمة بطولية اذا ان رصاص حناجرنا وهتافنا كان اقوي واشد من رصاصهم ، فقدنا بعضنا ولكن نجحنا في ؤاد الإنقلاب في مهده بخنجر إلى الآن يترنح منه جعلهم كالذي مسه الشيطان من المس .

    اظن ان العسكر يتبع إستراتيجية العسكري الطيب والعسكري الشرير وما هما الا رجس من السلوك الاستخباراتي عالي التدريب اشبه بوجهي عملة معدنية مختلفين في الشكل موحدين في البذات العسكرية.

    بين ذلك العام العجاف وبذات التاريخ ما انقطعنا قط عن تلكم الشوارع التي لا تخون.

    فباس العسكر كانو و نعم الشباب كنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى