الرأي

كبي جزلان 

خطواته واسعة، سريعة، تشق ظلمة الليل، لا تهتم مطلقاً بكل مخاطر الطريق، فارع القامة، ضخم الجثة، عار تماماً، لا يلبس حتى ما يستر العورة، عار كالانتماء، كما ولدته أمه، اعتاد كبي جزلان – هكذا كانوا ينادونه، لم يشارك أبداً في اختيارات البشر لكل المسميات التي يطلقونها عليه – اعتاد كبي جزلان على هذه الرحلة اليومية التي تبدأ في نهايات الليل وتنتهي في بواكير الصباح، إنها رحلة موسمية. تبدو خطوات كبي جزلان تواقع هذا الطريق المخيف حين تبدأ إجازات المدارس، تلك المدارس التي علمته حب الرغيف، مدارس (كاتشا) أو(كجة) كما يقول سكان جبال النوبة الأصليون. مدارس أسستها الإرساليات المسيحية، لا تعني بالنسبة له غير أنها مكان يتواجد فيه الرغيف، إن ضجة التلاميذ والطلاب تشعره بالأمان، إن فكرة الأمن الغذائي لها ذلك المتسع من الاهتمام في عقل كبي جزلان، خارج تلك النوايا المبرمجة التي جعلت الإرساليات تحقق طموحاتها المتعمدة في أن تكون تلك المنطقة التي تقع جنوب مدينة (كادوقلي)، منطقة (كاتشا) منطقة تلتحم فيها كل تناقضات حركة الفكر الإنساني، مدارس ذات بناء مدهش بالنسبة لسكان المنطقة، أخذت تلك الجبال التي تحيط بالمدارس تقذف بأصداء الأناشيد إلى البعيد، إلى تلك الغابات والسهول، إلى أذان حيوانات المنطقة المتوحشة والمستأنسة. ضجة التلاميذ في حركتهم وسكونهم، ألعابهم ومسامراتهم في الليالي المظلمة والمقمرة خارج عنابر الداخليات، إن الظلام في تلك المنطقة له لون (أكثف) من حدود السواد، لكن تبقى تلك المدارس بقعاً من الضوء يهتدي بها السائرون على تلك الدروب الموحشة والنائية، خارج أحلام أولئك المدرسين، خارج أرقهم الذي تصنعه ذكريات المدن التي أتوا منها، خارج كل تلك الأفعال التاريخية، كان كبي جزلان يتعامل مع هذه المدارس بمنتهى التجريد. لا تعني هذه المدارس بالنسبة له سوى الرغيف، أصبح مذاق الرغيف على لسانه نوعاً غريباً من الإدمان، لا يبرح مطلقاً مكانه الحميم أمام مطابخ الداخليات، يسمح لنفسه بالتجول حتى مباني السفرة – قاعة الطعام – ليس أبعد من ذلك بين المطبخ وقاعة الطعام. كان يحس حين يرى أولئك التلاميذ يتناولون طعامهم، حين يرى ذلك الرغيف المدور تمزقه الأيدي وتلتهمه الأفواه، يحس أن فكرته عن هذا الشيء الغريب هو محور حركة الكون .

الطباخون وعمال المطبخ اعتادوا عليه، أصبح من ضمن مسؤولياتهم، حاول مرة كبير الطباخين أن يبعده من المنطقة، عن كمية الرغيف التي يلتهمها. كان كبي جزلان هناك كما اعتاد، وقف تلك الوقفة التي تشبه وقفة التماثيل، وقف أمام المطبخ، كان ذلك في الصباح، منع من ممارسة عشقه، تحولت تلك الوقفة إلى صخب عال جداً، همهمات احتجاج، حيث إنه لا يستطيع مطلقاً أن يختزن في عقله البسيط أي إشارات أو علامات يمكن أن يقال عنها إنها لغة مشتركة بين البشر. همهمات غريبة تحولت إلى صراخ هستيري، تحرر ذلك التمثال من جموده، تحول كبي جزلان إلى كتلة من الانفعال أطاحت بكل الأشياء التي صادفته أو حاولت أن تقف دونه والرغيف، قذف بكبير الطباخين على أقرب صخرة على ذلك الجبل، قوة هائلة اقتلعت أبواب المطبخ، هشمت الشبابيك، حطم كبي جزلان أواني الطبخ، هرسها مع ملاحظة أنها من الألمنيوم لكنه استطاع أن يشكل بثورته العارمة أوضاعاً وملامح أخرى لأي إناء مر به في طريقه. كان يركض في دوائر متوترة ويصرخ ضد كل العالم الموجود بالمنطقة، امتدت ثورة كبي جزلان حتى وصلت إلى الطابور الصباحي، كان ناظر المدرسة يتحدث عن النظام كما كل يوم، المدرسون في مكاتبهم يستعدون لبداية اليوم الدراسي، التلاميذ يحاولون الهروب بشرودهم وهمساتهم من خطبة الناظر المعتادة. جاء كبي جزلان كما الإعصار، اقتحم الطابور، يضرب كل من يصادفه، هرج، مرج، تناثر التلاميذ في الفناء، اختفى الناظر داخل مكتبه. كبي جزلان يطارد التلاميذ في الفناء، يضرب بكل قوة، معركة لها ضحايا، جرحى، تلميذ كسرت يده، بعضهم أغمي عليهم، لا زالت ثورة كبي جزلان مستمرة، هرول أحد المدرسين إلى حيث مكان الانطلاقة، عرف الأمر، أخذ معه أكثر من عشرة أرغفة وجاء إلى الفناء، يتابع إلى درجة اللهث خطوات كبي جزلان الثائرة. أخيراً اقترب منه، لوح له بالأرغفة، همدت ثورة كبي جزلان رويدًا رويدا، اقترب من المدرس بحذر شديد، خطف الأرغفة من يده، همهم، صرخ بعنف، ارتعش جسمه، أخذ واحدة من الأرغفة، كومها في يده الضخمة، رفع يده اليسر إلى أعلى وكأنه يحيي الشمس، مسح الرغيفة على عرق إبطه الذي كان غزيراً جداً، التهمها بعنف، كأن كبي جزلان يأكل من عرق إبطيه.

بعدها جاءت تعليمات من الناظر توصي بالاعتناء التام بمشروع كبي جزلان الغذائي، بعدها أصبح واحداً من أهم مسؤوليات الطباخين. يخاف كبي جزلان من الأماكن الخالية، يعرف تماماً حين يختفي التلاميذ من المدارس أنه سيواجه أياماً صعبة وعصيبة، أياماً يختفي فيها الرغيف، في تلك الأيام، أيام الإجازات، يكون كبي جزلان خارج حيويته، متداخلاً مع حزنه الأبكم، وقتها لا تجدي كل الصرخات، كل الهمهمات، يفقد تماماً معنى وجوده، يواجه بذاكرته غير المعقدة تلك الأبواب والشبابيك المغلقة، أغنام ترعى في فناء المدرسة، الحشائش البرية تتطاول أحياناً كثيرة على سور المدارس، خريف تصرخ فيه السماء برعودها وتشتعل ببروقها، وحين ترعد السماء يصرخ كبي جزلان في وجهها وكأنه يحتج ضد الخريف. الخريف يعني أن تقفل المدارس، يختفي التلاميذ، يرحلون إلى حيث لا يعلم، يختفي تبعاً لذلك الرغيف، محور فكرة كبي جزلان عن الكون، إجازة الخريف تمتد إلى ستة أشهر لذا فإن رحلات كبي جزلان، تلك الرحلات التي تبدأ في نهايات الليل وتنتهي في الصباح لتبدأ من جديد في ظهيرة حارة ككل نهارات الخريف، رحلات البحث عن رغيف، عن ذلك المذاق، مذاق يقاتل من أجله كبي جزلان الطبيعة بكل عناصرها.

خطواته واسعة تهزم ظلمة الليل، تقوده لهفة مكثفة، يتجه من (كاتشا) شمالاً إلى (كادوقلي)، يستطيع أن يهرب من كل الوحوش التي في الطريق، عار كالانتماء، كما ولدته أمه، يشق مهرولاً غابات كثيفة، تهرب من أمامه حتى الشياطين، لا يتوقف أبداً، لا يسمح لخطواته أن يصيبها التعب، تجلده سياط من الأمطار، يهتدي بالبروق ويصرخ حين ترعد، لكنه لا يتوقف أبداً. يخوض في وحول لزجة حافياً، لا يلتفت حتى للأشواك التي تسكن قدميه، يسبح متحدياً تلك الخيران التي تندفع من الجبال، لا يهم، حتى قوة الاندفاع يهزمها كبي جزلان في بحثه الوجودي عن ذلك المذاق، عن تلك الرائحة التي تتفتح أمامها كل مسامات حواسه الأكثر من خمس. هذه المسافة التي تطويها خطوات كبي جزلان كانت لواري (أب أربعة والأبيض ضميرك والسفنجة)، تقطعها في موسم الخريف، موسم إجازات المدارس في أكثر من عشر ساعات وأحياناً أيام بنهاراتها ولياليها، بل في معظم الأحوال تتعطل هذه الحركة في الخريف، لكن كبي جزلان لا يتعطل أبداً. في نهايات كل ليل من ليالي هذه الشهور الستة ينطلق كبي جزلان إلى (كادوقلي)، يصل في الصباح الباكر، يقف أمام فرن (أحمد حريقة)، يقف كتمثال، ينظر إلى طاولات الرغيف وهي تخرج من الفرن، ملوثاً بالطين والعرق، درجة حرارة جسمه يمكنها أن تعادل حرارة الفرن الذي يخرج منه الرغيف، تتساقط قطرات العرق من جسمه العاري تماماً على الأرض، إن كبي جزلان يمطر أيضاً في كل خريف يختفي فيه التلاميذ من المدارس.

في بداية علاقته بأفران (كادوقلي) تصرف بذلك الجنون الذي يصنعه الحرمان، كان يهجم على طاولات الرغيف بعنف غريب، مداهمة يندر أن تجدها حتى عند أولئك الذين يؤمنون بالنضال المسلح، بأصابعه العشرة يستطيع أن يكوم عدداً من الأرغفة، خطف مرة طاولة كاملة وركض بها هازماً كل اللاحقين به، انطلق كما الإعصار والطاولة تبدو إزاء جسمه الضخم أشبه بصندوق خشبي صغير. تكررت هذه الأفعال الجنونية حتى إن الأفران غيرت مواعيدها بعد أن اكتشف أن إخفاءها لطاولات الرغيف لن تمنع كبي جزلان من الحصول عليها، لا شيء يجدي مطلقاً مع الطريقة التي يقتحم بها كبي جزلان. استقرت ممارسة كبي جزلان مع أفران (كادوقلي) بعد أن استطاع (أحمد حريقة) أن يحصر كل تلك الثورة أمام فرنه فقط، رجل كريم استطاع أن يسمح بسماحة لذلك العملاق، عاشق الرغيف، أن يأخذ ما يريد وبدون أي عنف، وبذلك استطاع أن يفدي أصحاب الأفران الأخرى.

يأتي كبي جزلان حاملاً بين حناياه ذلك الإصرار العميق على الهدف، يقف ممطراً عرقه على الأرض، ينتظر بلهفة تتجاوز منولوجات كل العشاق، أول طاولة تخرج من الفرن يقتحمها، يكور بيده الضخمة عدداً من الأرغفة، يعصرها بأصابعه حتى تصبح كتلة واحدة متماسكة، يرفع يده اليسرى إلى أعلى في أعظم تحية وثنية. يمسح كتلة الرغيف على عرق إبطيه ويلتهم، ويلتهم، ويلتهم.

(أحمد حريقة) أصبح يحاسب العاملين في الفرن على التأخير قياساً على وقفة كبي جزلان أمام الفرن في كل صباح من صباحات خريف الشهور الستة. علق أحد ظرفاء المدينة على رحلات كبي جزلان مقترحاً أن يكتب على جسده العاري هذه العبارة: (كاتشا كادوقلي وبالعكس)، مجرد ما انتهي كبي جزلان من مهمته التاريخية ذات المغزى الوجودي أمام فرن (أحمد حريقة) ضم إلى صدره عدداً من الأرغفة، واتجهت خطواته إلى نفس ذلك الطريق الذي مر به ليلاً، هذه المرة الرحلة نهارية، نهار خريفي ساخن، يرجع كبي جزلان إلى (كاتشا)، يعرق وتغسله الأمطار في الطريق، الشمس تجفف جسده العاري، تهرب من أمامه الوحوش على الطريق، يحاول بعضها الاعتداء عليه، لكن الرغبة في الحياة، في المزيد من الرغيف، تهزم تلك المحاولات. عادة ما يصل كبي جزلان إلى (كاتشا) بين العصر والمغرب، تواجهه المدارس فارغة، من حيوية التلاميذ، ترعبه فكرة الأماكن الخالية، يتجول داخل فناء المدارس، يسترخي أمام المطابخ، يؤرقه ذلك البحث عن المذاق الذي يدمنه، يحاور بصرخاته المحتجة أمطار الليل إذا كانت السماء ممطرة، أكثر ما يثير كراهية الخريف عنده أصوات الضفادع، محصوراً في فكرته الآسرة عن الرغيف، أضاع كل تفاصيل علاقاته بسكان المنطقة، أصبح لا يتعدى حدود المدارس. هكذا هي رحلات كبي جزلان تبدأ في نهايات الليل، تنتهي في بدايات الصباح، لتبدأ رحلة العودة في نهار خريفي غائظ ليصل بين العصر والغروب، يسترخي في مكانه الحميم، تستفزه الفراغات وتثيره أصوات الضفادع ليبدأ رحلة جديدة، هكذا ولمدة ستة أشهر هي إجازة المدارس في الخريف، يكون كبي جزلان قد صارع فيها كل قوى الطبيعة، تحدى كل صعاب الطريق، تهرب منه الوحوش ويهرب منها، يمطر عرقاً كما تمطر سحابات الخريف، الخريف ذلك المسؤول المباشر عن حالة كون الأماكن خالية.

هكذا، حتى جاء يوم تحرك فيه كبي جزلان في نهاية الليل، ارتبك فرن (أحمد حريقة) في ذلك الصباح، ولم يكن كبي جزلان موجوداً، لم يأت هذا الصباح إلى (كادوقلي)، هناك في (كاتشا) كانت الشمس خلف السحب الداكنة تمارس غروبها الحزين وهي تعرف أن كبي جزلان لم يأت من (كادوقلي)، البروق تضيء ظلمة الليل دون أن يلتمع بالأضواء جسد ذلك المارد المقاتل. أرعدت السماء ولاحظت غياب تلك الصرخة المحتجة ولم تجد الضفادع من تثيره بأصواتها. غاب كبي جزلان في تلك الرحلة الأخيرة مخلفاً ذلك الفراغ في كل مكان كان يجب أن يكون فيه، هكذا، بين (كاتشا) و(كادوقلي)، في رحلته الوجودية، رحلة البحث عن الرغيف، كبي جزلان تلتهمه الوحوش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى