الرأي

بلد العميان !

د. مرتضى الغالي

في قصة (بلد العميان)، يحدثنا الكاتب (هـ . ج . ويلز) عن مرض غريب انتشر بين جماعة تعيش في قرية بجبال الإنديز نائية ومعزولة عن العالم، فأصابهم بالعمى، ومنذ تلك اللحظة انقطعت صلتهم بالخارج، ولم يغادروا قريتهم قط، تكيفوا مع العمى وأنجبوا أبناء عُميان جيل بعد جيل، حتى أصبح كل سكان القرية من العميان، ولم يكن بينهم ثمة مبصر.

وذات يوم وبينما كان متسلق الجبال (نيونز) يمارس هوايته انزلقت قدمه فسقط من أعلى القمة إلى القرية، لم يُصب الرجل بأذى إذ سقط على عروش أشجار القرية الثلجية، أول ملاحظة له كانت أن البيوت لم تكن بها نوافذ وأن جدرانها مطلية بالوأن صارخة وبطريقة فوضوية، فحدث نفسه قائلاً : لا بُد أن الذي بنى هذه البيوت شخص أعمى.

وعندما توغل إلى وسط القرية بدأ في مناداة الناس، فلاحظ أنهم يمرون بالقرب منه، ولا أحد يلتفت إليه، هنا عرف أنه في (بلد العُميان) فذهب إلى مجموعة وبدأ يعرف بنفسه؟ من هو؟ وماهي الظروف التي أوصلته إلى قريتهم، وكيف أن الناس في بلده (يبصرون)، وما أن نطق بهذه الكلمة بدأت المشكلة وانهالت عليه الأسئلة: ما معنى يبصرون؟ وكيف وبأي طريقة يبصر الناس؟ سخر القوم منه وبدأوا يقهقهون، بل ووصلوا إلى أبعد من ذلك حين اتهموه بالجنون، وقرر بعضهم إزالة عيون (نيونز) فقد اعتبروها مصدر هذيانه وجنونه.

ومن يزور السودان هذه الفترة عليه أن يضع عصابة سوداء على عينيه، وأن يلغي عقله ويقتل ضميره، فكل شيئ في البلد الكارثة أصبح يُصيب بالجنون والمرض، فما عليك إلا أن تعمى وتتعايش مع هذه الأوضاع المختلة كأمور عادية، فلا حياة هناك لمبصر وصاحب ضمير، ينبغي عليك لتعيش، أن تلغي نظرك وترى بأعين الآخرين، فبعد خمسة وعشرون سنة من حكم (التقاة الصالحين) أصبح العمى وموت الضمير شرطاً من شروطا المواطنة في بلادنا .

قبل أسبوع أعلنت وزارة التربية والتعليم والهيئة النقابية لعمال التعليم بولاية الخرطوم عن وجود حالات جنون وأمراض النفسية وسط المعلمين، وان الوزارة بدأت في إجراءات حصر وسط المرضى (الأساتذة)! ونفت الوزارة أي علاقة لـ (الجنون) المٌكتشف بالبيئة الدراسية.. وبعيداً عن الضغوط المعيشية والعصبية وسياسة القتل والقهر والتعذيب التي يعيشها أهلنا، وكلها أشياء تسمم البدن وتذهب العقل إلاّ أن قصة المعلمين التي تحدثت عنها نقابة أولئك المعلمين تعتبر أنموذجاً حقيقياً لما آلت إليه الأوضاع في (بلد العميان).

دعوني احكي لكم قصة المعلمين الثلاثة الذين اتهمتهم الوزارة بالجنون وطفقت (النقابة) تردد هذا الإتهام خلفها، هؤلاء عزيزي القارئ ثلاثة معلمين يعملون بمدراس محلية كرري بأم درمان، كل مشكلتهم أنهم قد رأوا في اكتظاظ الفصول (195) في فصل دراسي واحد، أمر ضد العملية التربوية والتعليمية وضد الدين والأخلاق وحقوق الطفل والإنسان، فحتى الحيوانات لا تُحشر في أقفاصها مع هذا العدد الكبير، وسجون العالم لا تضع (195) في عنبر واحد في ظروف مناخية أفضل بكثير من طقس السودان الخانق والقاسي!

تذمر المعلمون الثلاثة وقدموا مذكرات عديدة مشيرين فيها إلى أن الأمر سيؤثر على طاقة الطلاب البدنية والذهنية والنفسية وعلى مستواهم الأكاديمي، ولما لم يُجب على طلبهم اعتزلوا التدريس، ورفضوا دخول الفصول، فكان أن إتهموا بالذهول والجنون ! لأن الوزارة ترى في حشر (195) طالب في فصل دراسي ، عين العقل والصواب، وأن كل من يتذمر أو يتأفف من الأمر ويرفضة فهو بلا شك فاقد للأهلية والعقل !

ألسنا في بلد (العُميان والسُجمان)؟

  • ولك ان تعلم عزيزي القاري/ة انني قد كتبت هذا المقال في منتصف العام 2014 ، وقصته تمثل أبلغ تصوير عن الظروف التي كان يمر بها المعلم/ة قبل الثورة، وما حققته له من كرامة شخصية وحالة مادية أفضل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى