الرأي

اتفاق جوبا: دور نظام نميري في تهميش دارفور (3 – 8)

نواصل مناقشتنا للخلفية التاريخية لتهميش دارفور. تعرضنا في الحلقة الأولى لقضية التهميش، أما في الثانية فقد ناقشنا دور الحكومات الوطنية الأولى في التهميش. نواصل اليوم في مناقشة فترة حكم نميري.

بدأت سلطة مايو 1969 – 1985 بإعلان الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية 1970 – 1975، ثم استبدلتها بالخطة الخمسية المعدلة، ثم ألغتها واستبدلتها بالخطة الستية، لتُلغى هي الأخرى وتستبدل باستراتيجية جديدة سميت بعنجهية: “استراتيجية سلة غذاء العالم”، والتي أبلغ ما وصفت به ما قاله عالم اقتصاد ألماني بأنها: “سلة غذاء العالم الفارغة”. هذه التعديلات والتبديلات في الخطط الاقتصادية تكشف درجة التخبط والتغير الفجائي في الوجهة والاتجاه حسب مزاج القيادة السياسية، وهو داء أصاب سوداننا طوال تاريخه.

وبدل الاستفادة من تجربة هبيلا والدمار الذي نتج عنها، قررت الدولة في الخطة الخمسية المعدلة توزيع (10) آلاف فدان للزراعة الآلية في جنوب دارفور كبداية للتوسع في الزراعة الآلية في دارفور.

واصلت مايو سياسات الأنظمة التي سبقتها في التركيز على المشاريع المروية في وسط السودان، وأساساً على محصول القطن. وقد حدث بعض التنويع لاحقاً، بإدخال محصول قصب السكر في نفس المناطق النيلية.

شهدت نفس الفترة توسعاً أفقياً كبيراً في قطاع الزراعة الآلية، حيث منحت ملايين الأفدنة للتجار، ورجال الإدارة الأهلية، وكبار موظفي الخدمة المدنية، والقوات المسلحة، والشركات الزراعية الخاصة. وكمثال، منحت سلطة مايو حوالي (2) مليون فدان في القطاع التقليدي لعشرين شركة خلال أربعة اعوام، ومنح قانون الاستثمار الزراعي لسنة 1980 العديد من الامتيازات والإعفاءات لتلك الفئات التي مُنحت رخص مشاريع. ومن الغريب أنه تم، تحت بصر وسمع الدولة، استغلال تلك الإعفاءات في النشاط الطفيلي، فقد تم استيراد بضائع من الخارج (معفية من الجمارك حسب إعفاءات القانون) لبيعها في السوق.

كما واصل البنك الدولي دعمه للقطاع الخاص في مجال الزراعة الآلية، مما أدى لظهور طبقة رأسمالية زراعية كبيرة حققت فوائض مالية ضخمة على حساب مواطني ورعاة القطاع التقليدي. ومن التغييرات المهمة التي تمت، خلال عهد مايو، تصفية مزارع الدولة في الزراعة الآلية تحت إصرار البنك الدولي. وخُططت تلك المزارع، أساساً، لتعمل على تأمين احتياطي للغذاء (ذرة)، وتشكل مراكز لمساعدة المزارعين بالخبرة ومكافحة الآفات وتأجير الآليات بأسعار مخفضة، وهكذا فتح الباب واسعاً أمام القطاع الخاص.

إنه لمؤلم حقاً ويحز عميقاً في القلوب تجاهل توصيات بُنيت على دراسات علمية متخصصة من قبل منظمة العمل الدولية التابعة للأمم المتحدة، حول استراتيجيات التنمية في السودان، ونشرتها في تقرير شهير صدر في 1976. ومن ضمن تلك التوصيات المهمة الدعوة لتطوير القطاع التقليدي (زراعة، ورعي حيوان)، وأن تطويره لن يكلف نفس حجم تكلفة المشاريع الأخرى (مشاريع مروية، وزراعة آلية مطرية).

وأضافت التوصيات أن تطوير القطاع التقليدي سيغير حياة أغلبية السكان، وسيجذبهم للاقتصاد النقدي، وسيدفع بعجلة الاقتصاد خطوات للأمام. ومن المثير للاهتمام حقاً، أن التوصيات حذرت من تفجر مشكلة الأرض مستقبلاً في غرب السودان نتيجة للتوسع في الزراعة التجارية، وازدياد أعداد الثروة الحيوانية، والزيادة الطبيعية في عدد السكان، بالإضافة للعوامل البيئية والطبيعية الأخرى.

كما ركزت على ضرورة الأبحاث والدراسات الخاصة بالقطاع التقليدي، وقضايا استقرار الرحل، والبنيات الأساسية، والتمويل. واقترحت التوصيات توفير استثمارات كبيرة للقطاع التقليدي في الفترة ما بين 1985-1995، وأن تلك الاستثمارات ستنمي الصادرات السودانية بشكل كبير (صمغ، ماشية، حبوب زيتية … إلخ)، مما سيفيد الاقتصاد السوداني ككل.

وحتى المشاريع البسيطة التي نفذتها مايو في غرب السودان، كانت نموذجاً كلاسيكياً لسوء التخطيط والتنفيذ. وكمثال على سوء التخطيط والتنفيذ، مشروع تنمية غرب السافانا الذي اُنشئت بموجبه (هيئة تنمية غرب السافانا) في مارس 1978، وبتمويل من البنك الدولي لتنفيذ مشروعات التنمية المتكاملة. وعند تحليل مكونات الصرف خلال الفترة 1977 – 1984 تم اعتماد (27) مليون جنيه، صرف منها (11) مليون في مباني الرئاسة، والمكاتب، والورشة، والمخازن، وبعض الآليات، والعربات.

ومثال آخر يحمل نفس الادعاءات الكاذبة للتنمية الريفية المتكاملة، يعطيه مشروع جبل مرة للتنمية الذي بدأ العمل فيه في عام 1979 بمنحة من صندوق التنمية الأوروبي. قدرت التكلفة الكلية للمشروع بحوالي (25) مليون جنيه، وجهت كلها لبناء المحطات الإرشادية، وجلب المدخلات والمحاريث، والعربات، ومعدات الإرشاد، والورش. ونلاحظ استخدام المشاريع كـ (واجهات) لتصريف بضائع دول السوق الأوروبية المشتركة والشركات التابعة لها.

ويشهد واقع الحال أن تلك المعدات والآليات لم تُستغل استغلالاً سليماً لمصلحة المنتج الصغير الدارفوري، ولم تحقق الأهداف المعلنة حول التنمية الريفية المتكاملة، وينطبق عليها المثل (Too little too late). وهنا يجب أن نلاحظ أن تنمية الغرب لا تتم بمجرد إنشاء المزيد من المشاريع، وإنما مشاريع تنموية بتخطيط جيد، وبمعرفة الجهات المستهدفة بتلك المشاريع وإشراكها في التخطيط والتنفيذ والمتابعة، وكيفية تحقيق الفائدة المرجوة. وهذه قضية كبيرة، لا يتسع المجال للخوض في تفاصيلها في هذا الحيز.

بوضوح تام، لم يجد القطاع التقليدي، طوال عهد مايو، اهتماماً يذكر فيما يتعلق بتطوير تكويناته الإنتاجية والخدمية، يتضح ذلك من ضآلة اعتمادات ومنصرفات التنمية على مشاريع هذا القطاع، حيث بلغت الاعتمادات للمشروعات ذات الصلة بالقطاع التقليدي، والمتمثلة في: مشروعات الثروة الحيوانية، وتنمية الموارد الطبيعية، والخدمات الزراعية، ومشروعات الزراعة، في جملتها حوالي (220) مليون جنيه سوداني خلال الفترة من 1977 – 1984، وهذه تمثل حوالي (22%) من جملة الصرف الفعلي لمخصصات القطاع الزراعي في برنامج الاستثمار للفترة المذكورة.

يحدث هذا رغم أن القطاع التقليدي يعول حوالي (60% إلى 70%) من سكان البلاد، وينتج حوالي (50% إلى 60%) من جملة إنتاج البلاد من المحاصيل الزراعية، ويساهم بحوالي (30%) من صادرات البلاد الزراعية، بالإضافة لثرواته الكامنة (ثروات حيوانية، وغابية، وزراعية، بالإضافة للتعدد المناخي).

وإذا نظرنا للصرف على مشروعات الثروة الحيوانية خلال الفترة 1977 – 1984، فإن الصرف على قلته (6% من جملة الصرف الفعلي للقطاع الزراعي في برنامج الاستثمار)، نجد أنه تميز بالإهمال المتعمد لتطوير إمكانات الإنتاج الحيواني بالقطاع التقليدي، وهو القطاع الذي يتمتع بوفرة في هذا النوع من النشاط الزراعي. وما تم من صرف في هذا المجال وجه أساساً نحو توفير الحد الأدنى من الخدمات الضرورية المتصلة بتأمين تدفق الماشية، بالأعداد التي تكفل تحقيق الأرباح المجزية للقابضين على أسواق التصدير والاستهلاك المحلي للحوم في المناطق الحضرية.

و ما اُنفق، على قلته، صرف أغلبه على مشاريع حول العاصمة (مشروع إنتاج الكتاكيت، مصنع أعلاف الخرطوم، ألبان الجزيرة، مشروع استغلال الثروة السمكية)، ولم تحظ إدارة أبحاث وخدمات الإنتاج الحيواني بأكثر من (2) مليون جنيه (5% من مجموع المخصصات لمشروعات الثروة الحيوانية)، وحتى هذا المبلغ (رغم ضآلته) وجه أكثر من نصفه على محطات أبحاث الإنتاج الحيواني القائمة في المناطق التي تفتقر نسبياً إلى الثروة الحيوانية، مثل محطتي عطبرة والهدى، مع الإهمال الكامل للمحطات القائمة بمناطق الإنتاج الرعوي مثل محطة الغزالة جاوزت.

أما داخل الإدارات الخاصة بالخدمات البيطرية، فلقد وجه حوالي (68%) لدعم خدمات التسويق لضمان استمرارية تدفق صادرات الحيوان، مثل: إنشاء المؤسسة العامة لتسويق الماشية واللحوم، وبناء المنازل، وتشييد مخازن التبريد، ومكاتب بالكدرو وأبودليق وفتاشة وجبل أولياء. وحتى مشروع طريق الماشية، فقد واجهته مشاكل عدة، وهنا يجب ملاحظة أن أغلب هذه المشاريع هي منح من مؤسسات دولية كمنظمة الأغذية و الزراعة الدولية.

ما يهمنا هنا هو اختلال أولويات الصرف وعدم عدالة توزيع الاستثمارات مع ما يتفق مع الحاجات الفعلية والملحة للمواطنين، وحقهم المشروع في التنمية المتوازنة، وهكذا لم يجن سكان القطاع التقليدي من القبائل الرعوية وغيرهم من تلك السياسات الخاطئة سوى الكوارث الاقتصادية والاجتماعية المدمرة التي أدت إلى هلاك أعداد هائلة من الثروة الحيوانية.

أما الموارد الطبيعية، والتي تهم مواطني الغرب بصفة خاصة، فلم ينفق عليها إلا أقل من (3%) من جملة مخصصات القطاع الزراعي 1977 – 1984، وصرف أغلب ذلك المبلغ على بنود غير إنشائية رغم تعدد الأطراف الأجنبية التي مولت ذلك، مثل: منظمة الساحل التابعة للأمم المتحدة، وبرنامج الغذاء العالمي.

والأدهى والأمر أن الحكومة عجزت حتى عن توفير الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية لتسيير العمل في تلك المشاريع، وحولت بنود الصرف التنموي إلى صرف جار لمقابلة المرتبات، وكانت النتيجة ما نشهده من تدهور بيئي متزايد يوماً بعد يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى