الرأي

وِفاق (في عينَك)..!

“بإمكانك أن تضع في البشير ما تشاء من سيئات، ولكن عليك أن تعترف أن الرجل نجح في خلق وفاق بين كل السودانيين طيله 30 سنة، وسقط الوفاق يوم سقوطه”. صدِّق أو لا تصدِّق أن ما بين القوسين جُملة ردَّدها أحد (الكيزان المُندسين) أو المُتدَّثرين بثوب الثوُّار الأحرار، عقب صلاة الجمعة الماضية وأمام أحد مساجد حي الجريف غرب بالخرطوم. قائل المقولة للأسف كهلٌ تجاوز الستين من عمره مخاطباً مجموعة من الشباب الذين كنا نظنهم يوماً (يُفعاً جِهالاً) حتى اكتشفنا فجأةً -وعلى حين غرة- أنهم مصدر أساسي للحكمة والكياسة والأخلاق النبيلة، بما عبَّروا عنهُ بتضحياتهم التي ابتدروها ببذل الأرواح وختموها بالعزيمة والإصرار والثبات على مبدأ منازلة الطاغوت إلى يومنا هذا. منهم من استشهد ومن أُصيب بعاهة مُستديمة ومن اختفى قسرياً ولا يُعرف عنه خبر، ومنهم أيضاً من ينتظر، وما بدَّلوا تبديلا.

يقول شيخنا (المُندس) لهؤلاء الذين علَمونا نحنُ (الكبار) أن المُستحيل يتحقَّق بالصبر والتضحيات، إن ثورتهم معطوبة وأهدافها وهمية، وإن من وصفوهُ بالطاغية المُتجبِّر كان أهلاً للاحترام والتقدير بما يدفع (الموجوعين من أبناء هذا الشعب الصابر) للإبقاء عليه ليستمر في جزّ رقابهم ويتمادى في إهانة آبائهم ويمنع مضيِّهُم إلى الأمام مثل سائر شعوب الأرض، لأنهُ -وشرُ البلية ما يُضحك- كان (مركزاً) يتوافق حولهُ السودانيون. هل نطرح السؤال التراجيدي الذي سيخطر على بال أبسط الناس فكراً وكياسة: ولماذا خرجت ضدهُ الملايين تطلب الموت الزؤام دون وجوده على سُدة الحكم؟! الإجابة المنطقية التي لا بديل لها: أن نُقر بلا جدال أن كل من أمَّوا ثورة ديسمبر المجيدة كانوا مُجرَّد مجانين وفاقدي أهلية.

نحن المُنتمون إلى أجيالٍ سابقة لجيل اليوم الذي أدى رسالته تجاه الوطن بالتضحيات الجسام وما زال، علينا أن (نتحزَّم) لمؤازرتهم والوقوف خلفهم وِفق أقل تقدير لما يبذلون من كفاح، أو أن (نستحي) ونتركهم يتأمَّلون (صمتنا الحكيم)، يكفينا أن معظمنا كان من الصامتين على انقلاب 89 حتى تفاقم وترعرع وتنامى (سرطاناً) قضى على الأخضر واليابس ومازال يفعل حتى يومنا هذا. وإن قلنا لهؤلاء شيئاً فليكن في إطار تقديس وتعظيم شعارات ومبادئ ثورتهم التي بذلوا فيها الأرواح والغالي والنفيس. كان من واجب هذا (الكوز المُندس) أن يقول لأولئك الشباب الذين -على ما اعتقد- احترموا لحيته البيضاء بصمتهم أمامهُ، إن البشير وطُغمته إذا فتحنا صفحة جديدة في تاريخ السودان المُعاصر وسميناها (الوفاق السوداني) لكُتب عليها بأُحرفٍ دامية ما يجب أن يُقال عن انفصال الجنوب، وما أدراك ما انفصال الجنوب. ولكتبنا عليها فظاعات التنافر والتناحُر العرقي والجهوي والسياسي في دارفور والنيل والأزرق وجبال النوبة وشرق السودان، وما تبع ذلك من خسائر في الأنفُس والثمرات. وسنخُط على ذات الصفحة المشؤومة ما نالتهُ المعارضة السياسية في عهد البشير المشؤوم من اغتيالات واعتقالات وتشريد وتكميم للأفواه ومضايقات لقطع سُبل العيش الكريم. ثم ما عملت عليه مؤامرات الحركة الإسلامية بصحبة البشير في تفكيك الأحزاب وشرذمتها عبر مُناهضة أسباب وحدتها و(توافقها)، فتناثر حزب الأمة القومي إلى أربعة أحزاب والاتحادي الديمقراطي إلى ثلاثة أحزاب ومثلهما في ذات المضمار أحزاب أخرى.

عمر البشير في إطار (الوفاق الدولي) الذي تحتاجهُ كل البلدان النامية، عزل السودان عُزلةً دولية لم يشهدها منذ استقلالهُ، فأصبح لا يجرؤ هو شخصياً على الخروج من الخرطوم إلا نحو أربعة اتجاهات معلومة ثلاثة منها في الخليج العربي. وعندما فعلها مرة وسافر إلى الكنغو عاد كالمجرمين مختبئاً على سطح مروحية عسكرية بلا مقاعد. عمر البشير الذي لم ينجح في استدامة (الوفاق) بينهُ وبين شيخهِ الترابي الذي أتى به إلى سُدة الحُكم، بل أودعه السجن ومعه ثلة من (إخوان الأمس) وأعداء المرحلة، ثم أطلقوا على انفراط عقد (الوفاق) بينهم اسم الدلع المُزركش (مفاصلة)، والتي في حقيقة الأمر كانت (مُقاتلة) لا تخفي على عين حصيف في معركة التنازع على الجاه والسلطة و(الاستمتاع) باغتيال آمال وتطلُّعات الشعب السوداني نحو الحرية والسلام والعدالة. البشير بنفسه اعترف في أُخريات خطاباته عن (الوفاق المجتمعي السوداني) بأنه (أزهق أرواح الأبرياء في دارفور دون مُبرِّر وسبب مُقنع)، وعلى الرأس الشهود والأشهاد… اللهم إنا لا نسألك رد القضاء ولكن نسألك اللُطف فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى