الرأي

ورشة شرق السودان .. تأملات في مأزق البجا الأكبر!

محمد جميل احمد
من الأهمية بمكان، فيما نحن نتأمل في آفاق مخرجات ورشة شرق السودان (التي تجري فعالياتها في الخرطوم هذه الأيام من 12 فبراير إلى 15 منه، كإحدى الورش الخمسة التي اعتمدتها العملية السياسية الجارية بعد توقيع الاتفاق الإطاري) أن نقرر حقيقة مهمة جداً في تقديرنا، وهي حقيقة ترتبت عن غيابها نتائج سلبية واضحة في مصير سكان شرق السودان بصفة عامة – والبجا بصفة خاصة- حتى اليوم، ونعني بذلك وبوضوح شديد؛ أن المشروع السياسي الذي سمي بــ”المحمية البريطانية” والذي كان بمثابة فرصة نادرة لاستدراك جاد من قبل الانجليز – قبيل خروجهم من السودان – يهدف إلى تسوية مسألة إدارة السلطة والثروة بالتساوي بين المكونات السودانية. وكانت فحوى مشروع ” المحمية البريطانية للشرق” تتمثل في : أن ما نالته نخب أهل الوسط والشمال في السودان من حظوظ التعليم والسلطة والثروة سينعكس تأثيره سلباً على مستقبل إدارة البلاد حيال القوميات السودانية الأخرى، مثل قومية البجا في شرق السودان، حال منح الاستقلال للسودانيين، دون تسوية الفوارق التنموية بينهم، وأن وضع شرق السودان كمحمية بريطانية لمدة عشرة أعوام تحت التاج البريطاني من أجل ترفيع المستوى التنموي والتعليمي للمنطقة بخلق كوادر عبر جرعات مكثفة في التنمية والتعليم والإدارة والتدريب إلى درجات تؤهلهم للحاق بمستوى أحوال مواطنيهم في الشمال والوسط، ثم ضمه للسودان بعد ذلك، هو الوضع الأمثل لمستقبل البجا.
لكن باعتراض زعماء البجا – آنذاك في أربعينيات القرن العشرين – على مشروع “المحمية البريطانية” – بجهل وحسن نية – يمكن القول أن ذلك المشروع فيما لو تم انجازه، لكان هو الفرصة الحقيقية الوحيدة والجادة لتأسيس بنية تنموية حقيقية تنتشل البجا من مأزق الوضع السياسي والاجتماعي المتأخر الذي لايزال تعبيرهم عنه هو الفيصل في تعبيرات مكوناتهم السياسية في الشرق كما نراها اليوم، سواءً أكان ذلك في تعبيرات ما سمي بالمجلس الأعلى لنظارات البجا، بشقيه، أو في الأحزاب الكثير تحت اسم مؤتمر البجا – وهي أكثر من 8 أحزاب – أو فيما سمي بحزب التواصل، وهو أكثر من حزب.
فواقع الحال الذي أصبح عليه التعبير السياسي للمكونات البجاوية اليوم – بكافة أحزابهم وتنظيماتهم – وما شاب ذلك التعبير من عجز عن الاستجابة لتحديات واقع سياسي يتجاوز قدرات تلك المكونات، حالياً، في شرق السودان يقطع بوضوح في تقديرنا إلى ضرورة إدراج القضايا السياسية لشرق السودان ضمن خطط سياسات عليا لدولة مدنية قوية (نأمل– بتحفظ – أن تسفر عنها نتيجة العملية السياسية الجارية الآن).
هكذا قولاً واحداً؛ نرى ذلك – ولدينا كافة الحيثيات التي تؤكد ما ذهبنا إليه – فمنذ اجهاض مشروع “المحمية البريطانية” أدركت نخب البجا المستنيرة في العام 1958 – وفقط بعد سنتين من استقلال السودان- فداحة الاستغلال الذي تم لحقوقهم فقاموا في ذلك العام بتأسيس ” مؤتمر البجا ” (للمفارقة كان اسم ” مؤتمر ” الذي اختاره الخريجون السودانيون في العام 1938 اسماً لكيانهم السياسي ثم البجا في العام 1958 هو في الحقيقة استلهاماً وتأثراً بحزب المؤتمر الهندي الذي حقق به المهاتما غاندي نجاحاً سياسياً كبيراً للهند).
وكان من شدة احساس النخبة التي أسست حزب ” مؤتمر البجا ” في العام 1958من أمثال د. طه عثمان بليه، بالغبن أن تحفظوا حتى على منح رئيس وزراء السودان آنذاك عبد الله خليل فرصةً لإلقاء كلمة ترحيبية في المؤتمر (وكان رئيس الوزراء عبد الله خليل أكبر ضيف سياسي حضر فعاليات المؤتمر في مدينة بورتسودان 1958).
بالرغم من ذلك كله سنجد أن الجهة التي قضت على الأمل الذي أحياه مؤتمر البجا في نفوس عامة أهل الإقليم الشرقي هي الطائفية الدينية والسياسية وعلى يد زعماء القبائل البجاوية أنفسهم للأسف، بسبب التخلف والجهل .
وهكذا ما ان انقضى عقد ستينيات القرن الماضي حتى كان مؤتمر البجا قد فقد زخمه الكبير في العام 1958. أما الضربة الثانية لقيادات مؤتمر البجا السياسية المستنيرة بعد قيادته لكفاح مسلح منذ العام 1994 ضد نظام البشير، فقد حدثت حين تم استبدال وإقصاء بعض القيادات السياسية لمؤتمر البجا في النصف الثاني من التسعينات وتم تعويم موسى محمد أحمد ليكون قائداً لحزب مؤتمر البجا ومن ثم توقيع اتفاق أسمرا في العام 2006 مع نظام البشير، وكانت تلك الاتفاقية بمثابة تصفية ثانية لقضايا البجا السياسية حيث انقسم الحزب اليوم إلى أكثر من 8 فصيل!
أهمية هذا السرد التاريخي للحراك السياسي للبجا وما آل إليه أمر ذلك الحراك اليوم تكمن في أنها ستمنحنا قدرةً على رؤية المصائر المحتملة لتعبيرات المكونات السياسية للبجا حالياً والتي نقطع بأنها تعبيرات مأزومة ولن تفضي بحالها الذي هي عليه اليوم إلى أي انفراجة سياسية في الواقع السياسي لشرق السودان.

ترك

فحين نرى اليوم مكونات سياسيوية برز بعض قادتها على سطح السياسية في السنوات الثلاثة الماضية للبجا بشرق السودان؛ مثل ناظر قبيلة الهدندوة ورئيس المجلس الأعلى لنظارات البجا بقيادة الناظر محمد الأمين ترك، ورئيس الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة الأمين داؤود، اليوم مصطفةً مع تحالف ما يسمى بـ”الكتلة الديمقراطية” سندرك بوضوح الاستغلال السياسي الذي يتم لموقف هذين الكيانين وتجييره لمواقف سياسية في خدمة أجندة سياسية لحركات أخرى مثل “حركة جيش تحرير السودان بقيادة مني مناوي، و”حركة العدل والمساواة” بقيادة جبريل ابراهيم.
صحيح أن هناك اليوم مكونات سياسية أخرى للبجا كأحزاب صغيرة تشارك في ورشة شرق السودان ضمن الأطراف الموقعة على الاتفاق الإطاري، لكن في تقديرنا أن الضعف الذي يشمل تعبيرات المكونات السياسية للبجا اليوم يعبر عن هوية واحدة تتفاوت في النوع والدرجة فقط.
في المقلب الآخر ، وكما أسلفنا في أكثر من مقال، بهذه الصحيفة، تعاني النخبة السياسية السودانية تاريخياً وحتى اليوم – وهي في جملتها نخبة مركزية مناطقية –من أزمة تعبير عن هويتها السياسية بما يجعلها غير مدركةٍ – حتى بعد الثورة – لطبيعة الأثر المدمر للإهمال والتهميش الذي مارسته نخبة المركز منذ استقلال السودان، وذكرنا لذلك مثالاً بارزاً في موقف هذه النخبة من قضية شرق السودان – رغم خطورتها – عندما أفردت قوى الحرية والتغيير – المركزي في النسخة الأولى من الاعلان السياسي للاتفاق الإطاري سطراً ونصف السطر لقضية شرق السودان، لولا التدارك الذي عمدت اليه تحت ضغط من رئيس بعثة اليونيتامس فولكر بيرتس، حتى صير إلى تعديل الاهتمام بشرق السودان بأن خصصت له ورشة ضمن القضايا السياسية الخمس لمظاهر الأزمة السودانية بعد ثورة 19 ديسمبر 2018.وهي الورشة التي تجري فعالياتها هذه الأيام.
تكتسب العملية السياسية الجارية الآن في السودان جديتها من جهود المجتمع الدولي وضغوطه، وعلى رأسه: الرباعية الدولية(أمريكا – بريطانيا – السعودية – الإمارات) وتعكس استجابة المجتمع السياسي السوداني ومكوناته الحزبية، إلى جانب المكون العسكري – ظاهرياً على الأقل – تفاعلاً ايجابياً مع تلك الجهود الدولية الرامية لاستعادة سلطة دولة مدنية جادة لاستئناف المرحلة الانتقالية واستكمال مشروع الدولة على ضوء مبادئ ثورة 19 ديسمبر في الحرية والعدالة والسلام. لكن توقعاتنا بإمكانية جدية ونجاح النخبة السياسية المأزومة – بفعل عوامل كثيرة يطول شرحها – ستظل مترددة في توقعاتها حتى يثبت العكس.
وفيما تبدو الفرصة التي يطرحها الاتفاق الإطاري للقوى السياسية السودانية بمثابة فرصة جادة، وقد تكون الأخيرة، نرى أنه قد حان الوقت لكي تضطلع القوى السياسية بكافة مكوناتها بالدور الأخلاقي والوطني بالأساس في الاستجابة للتفاعل إيجابياً وبجدية وحساسية وطنية عالية للاستعداد لممارسة سياسات دولة عادلة حيال كافة المكونات في إدارة المستقبل المنظور للبلاد حال نجاح العملية السياسية الجارية الآن في السودان.
إن هذه الفرصة الأخيرة ممثلةً في العملية السياسية الجارية الآن في محاولة من المجتمع الدولي لانتشال السودان من مصير مجهول يكتنف مستقبله؛ يبدو حتى الآن لا تنعكس في أي صدى ايجابي في ردود فعل ما يسمى بتحالف ” الكتلة الديمقراطية” (التي ينضوي تحتها بعض مكونات الأجسام السياسوية للبجا وتضم أسماء معروفة مثل الناظر ترك والأمين داؤود) وما نأمله حتى الآن هو أن تكون هناك استجابة، ولو متأخرة، من بعض الأطراف الوازنة في تحالف “الكتلة الديمقراطية” لصوت العقل والسياسة والمصالح التي يعبر عنها هذا الاتفاق الإطاري برعاية المجتمع الدولي. ونقصد بذلك بعض أكبر الأجسام الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام في تلك “الكتلة”؛ مثل حركتي جبريل ومناوي، فأن تأتي أخيراً خير من أن لا تأتي أبداً، لأن البديل لذلك التعنت الذي تبديه الكتلة الديمقراطية في امتناع بعض أبرز مكوناتها – كحكرتي جبريل ومناوي – عن التوقيع على الاتفاق الإطاري، حتى الآن، لن يكون معارضةً ديمقراطية سلمية جادة للاتفاق الإطاري، بأي حال من الأحوال، فما نعرفه من بعض تصريحات قادة تلك الكتلة عن شكل معارضتهم للاتفاق الإطاري، حال لم يوقعوا فيه مستقبلاً، وما نعرفه من وجود لفلول نظام البشير المندسين بين مكونات تلك الكتلة، يمكن أن يرسم لنا سيناريو واضحاً للخطر الذي قد يهدد بنسف الاستقرار في السودان برمته وادخاله في مستقبل من الفوضى والحروب – لا سمح الله –

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى