هيغل، كيركغارد والسخرية المعاصرة ميشال فوسيل ..
ترجمة نائلة منصور
مقدمة
السخرية والفكاهة والضحك خرق وتجرؤ، العلوم اللغوية تعرف ذلك حق المعرفة، مبادئ غرايس الشهيرة في علم التداولية (البراغماتية) تظهر أن خرق المتصالح عليه في المجتمع والثقافة الإنسانية يفضي حتماً إلى الضحك.
مع الربيع العربي وتحرير الكلام، أخذ الضحك بعداً آخر قد يكون أفضل تمثيل له هو ظاهرة باسم يوسف وبرنامجه “البرنامج”. خرجت السخرية إلى الفضاء العام، وخرجت بصورة مؤثرة واسعة. في نفس الوقت، انكفأ مسرحيون ساخرون قدامى على أنفسهم غير محتملين “الخروقات” المستجدة في الفضاء العام، وجعلونا نتساءل ماذا كانت سريرة سخريتهم إذاً إن لم تكن البحث عن الجديد؟ أيريدون أن يظلوا حبيسي سخريتهم إلى اللانهاية في حالة عدمية مكرورة تثير الملل وتؤسس لـ “نظام ايديولوجي جديد” حصين على الخرق والسخرية ؟
بين النقد والعدمية أو التهكم الكلبي حدود الخرق اللغوي والسخرية تستحق النظر والتأمل.
فيما يأتي نص لميشيل فوسل نُشر ضمن ملف خاص عن السخرية، في دورية “اسبري” الفرنسية[1]. يستعرض فيه الكاتب مفهوم السخرية بين رؤية هيغل وكيركغارد ليستخلص في النهاية، كما فعل كيركغارد من قبل أن صورة الساخر الأصيل، المتواضع غير المتعالي، هي صورة سقراط، الذي وضع موضع المساءلة يقينيات النظام القائم في زمنه دون أن يدّعي انسحابه أو عدم اكتراثه بما يسود.
(نائلة منصور)
“مثلما تبتدئ الفلسفة بالشك، كذلك تبتدئ الحياة الكريمة، تلك التي نصفها بالإنسانية، بالسخرية.”
كيركغارد، مفهوم السخرية
يبدو عصرنا وكأنه يكرس الخطاب المزدوج: المحاكاة الساخرة (الباروديا)، المعارضة، الكاريكاتور، التقليد. غالباً ما يشدّد المنددون بالديمقراطية المعاصرة على هذا النوع من المسرحة، حيث يتوهم المجتمع بأنه يحتفظ بمسافة ما مع نفسه. وبسبب عجزنا عن صوغ نقدٍ للحاضر، نحمل هذا الأخير على تكرار نفسه حتى العبث. على الصعيد الإعلامي، يبدو أن تحليل المجتمع قد هجر حقل المعرفة ليلتقي الفكاهيين الساخرين الذين يكتفون في سعيهم للتسرية عن الجمهور بتكرار “واقع” لم يعد أحد يؤمن به.
من بين ما سبق من ممارسات إنشاء المسافة، تشكّل السخرية سلوكاً يدحض جانباً من الأحكام المتسرعة المتعلقة بالأزمة الحديثة للسلطة. والسخرية، في أكثر صيغها ألفةً، هي لعبة مع اللغة: هي إدلاء بنقيض ما نعتقده عبر محاكاة النحو المعتمد في الخطاب السائد. ليس الأمر كذباً إذ إن الساخر يريد أن يكشف سامعوه ما يرمي إليه. وذاك أن العبارة الساخرة تعطّل الحكم المنتظر بتأكيدها عكس ما يمكن لسواد الناس أن يلحظه. فيقال: “ياللطقس الجميل” في مواجهة طوفان من الأمطار، أو يقال: “السياسة هي البحث عن الخير العام” أمام هول حجم الفساد. أو: “يا للأيام الجميلة!” كعنوان لمسرحية صموئيل بكيت. ما الفرق بين هذه الطريقة في تمثل الحياة وبين التهكّم المعمم؟ السخرية لا تتحدث عن الواقع، وإنما تضع موضع المساءلة الخطاب الذي نستعمله غالباً دون التفكير فيه، لمقاربته. السخرية هي عكس نظرية المعرفة: نظرية المعرفة تسعى لتأسيس توافق بين تصوراتنا والمواضيع نفسها. السخرية تظهر أن الواقع لا يتطابق مع الكلام. لذلك، فهي تفيدنا عن خطابنا أكثر مما تفيدنا عما يوجد في الواقع. ليست صدفة على الإطلاق أن تفرض السخرية نفسها في مجتمعات كمجتمعاتنا، مشبعة بالتعليقات المدّعية الجدية والخبرات القطعية في ظاهرها والأحكام المؤسسة على علوم لا تتقبل الشك.
كان هيغل يلاحظ ما يلي حول السخرية: “وجهة النظر الذاتية المتفوقة هذه لا يمكن أن تظهر إلا في عصرٍ عالي الثقافة، في لحظة تختفي فيها جدية الإيمان وتنحصر ماهية الوعي في بطلان كل شيء”.[2]
تولد السخرية على الدوام من عدم الرضا عن الخطاب الرسمي الذي يستشعر الفرد أنه يخفي ما هو جوهري.
إن كانت تخص عصور “الثقافة” فذلك لأن هذه العصور يداخلها شك مستدام لا تعرفه الحضارات التي يسودها “الإيمان”. تنتصر السخرية حين لا يعود التبني الساذج لما يُقال اجتماعياً خياراً وارداً لأفراد باتوا يغلّبون الشعور بالخيبة والميل إلى الشبهة.
لا مجال إذاً للاختيار بين أطروحتين متقابلتين، الأولى تقضي بأن السخرية تكمن في الأشياء نفسها والثانية تقضي بأن السخرية موجودة في النظرة التي ننظرها إلى الأشياء. الواقع أن السخرية في جملتها موجودة في الكلام ولكن باعتبار أن الكلام يستهدف الواقع ويدعي استنفاده. حين نتحدث عن “المحافظين الشفوقين”[3] أو عن “اشتراكية العرض”، لا يعود مطلوباً أن نحسم أمرنا: هل السخرية في الأشياء أم هي في الرؤوس؟ هي تخترق أصلاً كلام المتخاطبين الذين يخلصون من سعيهم الحثيث لتوفيق ما لا يتوافق إلى الاعتراف بأن ذلك الكلام أجوف.
بهذا المعنى، تصبح السخرية النتيجة الحتمية لفائض الخطاب ولمشاعر الرتابة الناتجة عنه. وعلى ما لاحظ ميشيل دي سيرتو، حين يكثر كثيراً ما يعرض علينا للتصديق، لا يبقى هناك من “صدقية”[4]. السخرية تتغذى من تلك المسافة. والعناصر الكلامية التي يقدمها السياسيون يومياً هي الشكل المعاصر الأكثر بروزاً للتناقض الأدائي الذي تقبع فيه الخطابات الرسمية. يُدّعى إنتاج مادّة اعتقادية انطلاقاً من تكرار أفكار نمطية لم يعد يعتقد بها أحد.
تحمل السخرية الخطابة الاجتماعية على اللعب ضد نفسها. وهي، بهذا المعنى، تشكّل سلاحاً فعلياً للتسخيف. لذلك، فالسخرية لا تنتمي إلى نقد الإيديولوجيا، لأنه لنقد إيديولوجيا ما، يجب امتلاك العلم. إلا أن لضعف السخرية أيضاً ما يثير اهتمام الفكر بها: الساخر لا يمتلك معرفةً يطلّ منها على العالم بنظرة العارف. المساهمة الرئيسة للسخرية في مجال النقد هو ذلك التشكك الذي تحمله في كل ادّعاء غير مشروع للمعرفة الموضوعية.
ولا يجانب هيغل الصواب في تحذيره من “الغرور” المهدد لهذا السلوك التشكيكي. بما أن السخرية تشمل قبل كل شيء استخداماً معيناً للخطاب، فهي تخاطر بأن تُسجن الساخر الذي يلجأ إليها في لغته. نحن معتادون غاية الاعتياد هذا النوع من “الاسمانية” المقهقهة والتي تعتقد أنه يكفيها السخرية من أشكال الخطاب التي تتناول المجتمع حتى تخلّص ذمّتها مع هذا العالم.
ولكننا سنحاول إظهار أنه مازال من الممكن إعادة الاعتبار للسخرية على طريقة كيركغارد في مواجهة هيغل. إن كان هيغل يستهجن من الساخر، محقاً، أن يقع في ذات الفخ الذي نصبه وأن يماهي العالم بأكمله بالكذب فإنه من الممكن مع ذلك أن تتجاوز السخرية الأصيلة تحييد الواقع بفعل الكلام. الدفاع عن الكلام الساخر هو قبل كل شيء إنقاذ جانب اللبس في اللغة من المحاولات التي ترمي إلى جعلها أداة إخبار بسيطة. في وقتنا الحالي حيث تفرض متطلبات التواصل “الفعّال” و”السريع” نفسها في كل مكان، يشكّل ضبط النفس هذا احتياطاً نقدياً له من القيمة، على الأقل، ما للدعوات إلى الجدّية.
اللغة غير المسؤولة
السخرية هي قبل كل شيء غياب العمل. فلنتأمل ذلك الذي قد يضحّي بالعالم في سبيل “عبارة موفقة”. حين لا يعود الساخر قادراً على مقاومة إغراء اللمعان ولو للحظة، يسلم أمره للصيغ التي لا تعتبر البنيان الاجتماعي ومعه الخطاب المشرعن له شيئاً مذكوراً. الارستقراطي الذي لا يؤمن بالقيم الموروثة بحكم الولادة، والثوري الذي يصبح حذراً من الشعب والليبرالي الذي تخلّى عن حق التوافق الاعتباطي، هم كذلك وجوه حدّية للسخرية. كلامهم الخائب يناقض سياق صدوره. العبارة الموفقة والكلمة القارصة والصيغ التي يستعملونها لا تشكل عملاً لأنها تفيد بالضبط في إظهار هشاشة البنى الرمزية التي يقوم عليها التوافق الاجتماعي الأكثري. حين توحي الصيغة الساخرة بعكس ما تقوله جهاراً فإنها تنسف الثقة التي يقوم عليها الاستخدام العادي للغة.
من هنا، تشير السخرية إلى تقنية للزائل، نجدها في الويتز “Witz” التي رفعها الرومانسيون الألمان إلى مصّاف الفنون العليا. “النفس الإلهي للسخرية” الذي يتحدث عنه فريدريش شليغل، يخترق عبقرية اللغة لإظهار هشاشة النظام الاجتماعي القائم وللتحرر من العالم[5]. نلحظ من هذا المثال ما يمكن للسخرية أن تحمله من ارتجاعية. الرومانسية الألمانية كانت رداً على عصر الأنوار وعلى الثقة التي وضعها ذلك العصر، في نظرالرومنسيين الألمان، في قدرات اللغة الإنسانية على قول الحق والخير. ضمن هذا الإطار، فعل السخرية هو تلغيم المعتقدات التي تقول بشفافية العالم في الخطاب المعقلن. في اختزاله الواقع إلى “المفارقة”، يستثير الكاتب الساخر الشك في المعارف العلمية، وكذلك في اليقينيات التي يتشاركها الناس.
تتخلى السخرية عن النص لصالح الجملة أو الشذرة لأن هاتين لا تدّعيان ملاقاة العالم بقدر ما تظهران لاواقعيته. إلا أن الساخر ينحو مع ذلك باتجاه استثناء نفسه من ذلك الشك المعمم في اللغة. يبني هيغل نقده للرومانسية على هذا الادعاء بالذات، ادّعاء استقلال العبقرية. في غياب العمل، يرى الفيلسوف وسيلة للتملص من المؤسسات بتأكيده دون عناء يُذكر حرية الأنا، بالنسبة إلى المجتمع. حين أحاكي القاعدة ساخراً، فأنا أعرفها وأعترف بها، ولكن مع افتراض أنني “أبعد منها” وأنه “ليس الشيء ما هو في المرتبة الأولى بل أنا”[6]. يرى الساخر كل ما هو وضعي من علٍ: القوانين والآراء والعادات والمعتقدات. طريقته في تأكيد حريته هي إنكار جدّية ما يقدّره الآخرون. عليه فحرية السخرية هي حرية سلبية بالمطلق لأنها في الواقع تغطي احتقاراً لموضوعية القيم. السلاح الرئيس للرومانسية هو القوة المطلقة التي تمنحها للغة والتي ينبغي، بنظرها، أن تكفي لإقناع المتلقين بخواء ما هو قائم ومؤسس.
وعند الذين يرفضون السخرية، تبدو هذه الأخيرة استخداماً غير مسؤول للغة: في كل استخدام لها، يضع المتكلم نفسه خارج العالم الاجتماعي، ولنقل أنه يغسل يديه من أنواع الخطاب المحتمل تعاطيها في ذلك المجتمع. لقد أظهر هيغل كيف تفترض السخرية الرومانسية بطريقة واهمة أن الفاعل الاجتماعي يقف دائماً خارج سلسلة أفعاله. المسافة الساخرة هي تلك التي تفصل فرداً نقياً عن عالمٍ موصوم بالفساد، لا شيء ينفع معه سوى السخرية. من وجهة النظر هذه، تشبه السخرية جدلية متوقفة: تنفي “الواقع” (أي سداد أنواع الخطاب الذي تحمله المؤسسات) دون الإدلاء بمعنى جديد ومتماسك. لكن ألا نرى إلا ما هو مزدوج في اللغة، فإننا نخاطر بذلك بالاحتباس في نوع من التقديس لللاتعبير. في عالم يقود فيه كل شيء إلى خواء العدم، ليس الأمر أنه لا يوجد فعل يستحق المحاولة وحسب ولكن حتى الكلام الحق غير موجود. حينها لا يبقى للفرد الساخر النقي إلا أن يتأمل بإيمانٍ راسخٍ في كونه، هو على الأقل، “لن تنطلي عليه الخدعة”.
حتى يومنا هذا، يتوجه معظم نقد السخرية إلى الانتشاء بالأنا الذي تتيحه هذه الأخيرة. والساخر هو ذلك الشخص الذي لا يود سكنى العالم بل يستخدم اللغة للهروب من المكوث الطويل. حتى أنه يتوافق، أكثر مما كان عليه الأمر في زمن الجدال الهيغلي مع الرومانسيين، مع الفرد “المعولم” الذي لا يجد نفسه في أيٍ من الترتيبات التي يتيحها المجتمع ولكنه مع ذلك يريد أن يستفيد من كلٍ منها. هذا ومجتمعات المعلومات مزدوجة في موقفها من اللغة المشتركة: هي تمنحها حضوراً عمومياً لم تحصل عليه من قبل في التاريخ وفي نفس الوقت تفرض عليها مقيّدات جديدة لجهة الاختزال والسرعة. وهذان شرطان مسبقان للسخرية المعممة، لأننا محبوسون في الخطاب طوال الوقت ولكن فقط للتحرر من الجدية وبطئها. التلفزيون يتظاهر بأنه يسخر من نفسه، والساسة يحاولون المشاركة في التهكم حتى لا يقعوا ضحيته، وعلى التغريدات “tweets” أن تكثّف “حقيقة” مطلقة في مئة وأربعين حرفاً. انتصار الويتز هذا يتم بالتأكيد في أقل الشروط ملاءمة للشعر ولكنه يصل بحلم الرومانسيين إلى قمته: حلمهم بأن يضحكوا من كل شيء إلا من حرية فكرهم الخاص.
إن كان هناك راهنية ما للنقد الهيغلي، فهي تكمن في هذا المنحى الذي يأخذه الساخر ليقع في فخ لعبته (لعبة اللغة). قد تكون “الروح الحلوة” للعصر هي ذلك الوعي المتعالي الذي يستفيد من التراجع الإعلامي للخطاب ومن تكاثر الخبرات لينسحب راضياً إلى عزلته الخاصة. فالصيغة الحديثة للسخرية بحسب هيغل، هي الصيغة الفيختية (نسبة إلى الفيلسوف الألماني فيخته) “الأنا تساوي الأنا”، وهي طريقة ميّسرة لإقصاء النفس من هذا العالم باسم الأكاذيب التي تسوده. المتطلب الأساسي للسخرية هو ألا يكون المرء مغفّلاً في أي شيء. من المعروف أن الرومانسية الألمانية كانت ترفض التاريخ لأنها لم تكن تريد الارتباط يأي ماضٍ. ميلها إلى الحرية الذاتية كان يجعلها تلقي نظرة ساخرة إلى تقلبات العالم الحديث ومكتسبات الثورة الفرنسية. والواقع أن التقدمية هي ضحية مفضلة للسخرية، لأن هذه الأخيرة تتعامل مع الخطاب الذي تحمله الديمقراطية عن ذاتها والخطاب الذي يحمله العالم عن ذاته، بحرفيته. والوسيلة الأنجع للضحك من مدح الحاضر لنفسه هي في استعادة ذكر “الكلمات الكبيرة” التي يستخدمها ليقنع نفسه بشرعيته.
ومع ذلك، فهناك وجه آخر للفرضية التي تدعو إلى عدم الوثوق بأي شيء يُقال في الفضاء العام. لقد رأى هيغل جيداً أن السخرية الجذرية تفضي إلى نظريات المؤامرة. لقد كان الرومانسيون الألمان يقابلون أكاذيب التاريخ التقدمي لعصر الأنوار مع أسطورة العصور الوسطى التي كانت جديّة الإيمان تسودها. وذلك أن الساخر الرومانسي لا يفتأ يؤمن إيماناً مطلقاً بالحقيقة، ولذلك يؤسفه أنه لا يجدها في الخطاب العام لعصره. من هنا تأتي قناعته بأن الآخرين “يكذبون عليه” باستمرار وبأن اللغة فقدت قيمتها إلى حد عادت لا تصلح فيه إلا للمحاكاة الساخرة. لا يمكن لما سبق إلا أن يستدعي إلى الذاكرة بُنى معظم البرامج الإخبارية الحالية. يلي الكلامُ الساخر الكلام “الجدّي” للافتتاحية، فيلغي ببضع كلمات كل محاولات التعليق استخراج معنىً ما للأحداث. تماثل السخرية بين فحوى الرسائل الصادرة عن الفضاء العام وبين النقد الزائف. حين تصبح السخرية هي الاستخدام المهيمن للغة، فهي تشير بذلك إلى المرحلة الأخيرة التي يرتد فيها مجتمع القيم على ذاته.
ومع ذلك فإن نقد السخرية هذا باسم الجدية يطرح إشكالاً. إنه يرتكز على فرضية تعتقد بموضوعية الخير أو العدالة أو الحقيقة. ما يؤخذ على الساخر هو بالضبط ذلك التقليل من شأن هذه المفاهيم بوضعها بين مزدوجين. إلا أن ما يميّز السخرية عن التسخيف هو أنها لا تهاجم المُثل التي تعبر المجتمع بقدر ما تهاجم أنواع الخطاب التي تعلن أن تلك المُثل قد سبق وأصبحت محققة في المجتمع. على العكس، لا يساور هيغل شك في وجود وجهة نظر (وجهة نظر الفلسفة) تلج المؤسسات المجتمعية من خلالها إلى الشفافية، ومن هناك إلى الشرعية المطلقة. السخرية تشير من جهتها إلى سلوك ينفي وجود مثل وجهة النظر تلك، حيث تتطابق الكينونة والخير. بهذا المعنى قد تشكّل إحدى ممارسات السخرية مدخلاً إلى النقد وخاصة في مجتمعات تدعي اليقين بصدد ذاتها.
معرفة التحفظ
كما رأينا لتوّنا، تطرح السخرية على الخطاب الرسمي مسألة الثقة. بهذا المعنى، فهي توافق تماماً الحقبات، كما حقبتنا الحالية، التي تؤسس لللامصداقية، بالتعزيز الممنهج للتسخيف. ولكن نقد السخرية، في استنكاره لنقص جدية الحاضر، ينطلق من الانتصار الاجتماعي الذي تحققه السخرية. لفهم هذه الظاهرة، علينا أولاً أن نتخذ وجهة النظر حيث السخرية لا تزال “أقلية” في تضادها مع وزن اليقينيات المشتركة. حينئذ يتغير المشهد كلياً. لا يعود الساخر هو الممثل للمجتمع بل على العكس ذلك الذي لا يعود يفهم كيف يمكننا حفظ مسافة ما مع النظام الاجتماعي القائم وقيمه. على الأغلب يترافق رفض السخرية مع عنف ما: فذلك الذي لا يقبل باللعبة المزدوجة للغة يلجأ إلى القوة لإخراس الأصوات المعارضة.
لفهم السخرية من وجهة نظر نشأتها (وليس انتصارها في الرومانسية الحديثة) يستعيد كيركغارد صورة سقراط. بعكس هيغل، يذكر كيركغارد بأن السخرية لم تكن دوماً موقفاً مريحاً ولكنها مثلّت خطراً حيوياً لذلك الذي يتفانى في مواجهة الجدّية المعلنة للنظام القائم. الحكم بالموت على سقراط، هو انتقام أثينا من كلام ساخر هزّ قناعتها بأنها تجسد المدينة المثالية الكاملة. بهذا المعنى، فمن الممكن جداً أن تكتنز السخرية إمكانية كامنة للنقد لا تقدّر.
كيف نفهم ذلك؟ لقد مارس سقراط السخرية لأنه لم يكن يريد أن يبقى حبيس اللغة الجاهزة المتلقاة. في مقابل السفسطائين الذين كانوا يعلنون عن أنفسهم كخبراء في الحكمة، حمل شكّاً ساخراً كان يقودهم إلى مناقضة أنفسهم فيما يطلقون عليه (ومعهم كل مجتمع ذلك العصر) “فضيلة” أو “خير” أو “عدالة”. بفعله ذلك، كان يُدخل اللايقين في العقائد الأكثر رسوخاً للمدينة، ليس بمجابهتها بالفضيلة الأصيلة، بالخير الحق أو العدالة المنجزة، ولكن بجعل الخطاب الرسمي ينقلب على نفسه. إنها تلك الممارسة السلبية والمهينة بالذات التي لم تسامحه أثينا عليها:
استخدم سقراط السخرية لينتهي من الهلينية التي كان يسلك معها دائماً سلوك الساخر، كان جاهلاً، لا يعرف شيئاً. يبحث عن الإيضاحات عند الآخرين، ولكنه، باحترامه هذا للنظام القائم، كان يسقطه[7]
أي سخرية أبلغ من أن نؤكد التالي: “أنا أعرف تمام المعرفة أني لا أعرف شيئاً؟” من خلالها، يلعب سقراط دور الذي يريد التعلّم من الآخرين ودور الذي يأخذ على محمل الجد خطاب مدّعي المعرفة، ولكن بسرعة ينكشف عجزهم عن تبرير يقينياتهم. السخرية الأصيلة الحقة هي تلك التي تترك الآخر يتكلم ليصل إلى اللحظة التي يتكشف فيها خطابه عن خوائه. هي تأخذ على محمل الجدّ كل حرف يقوله الرأي السائد لتظهر أنه لا شيء هناك سوى الكلمات وليس من معارف قطعية حول ما هو صحيح. أما الخطاب “الجدّي” فهو ذلك الذي يدّعي قول الحق وصنع القانون. الجهل الذي يجهر به سقراط هو إذاً “اللاشيء” الذي يتيح له تهديم الكلام السلطوي. الساخر يدّعي أنه لا يعرف شيئاً ولكنه متأكد من شيءٍ واحدٍ على الأقل: وهو أن الخبراء في الحقيقة والفضيلة لا يعرفون عنهما أكثر مما يعرف. ولكن بما أنهم يجهلون إدقاعهم، فهم يستطيعون أن يمرروا يقينياتهم كحقائق. عملية السخرية هي رفض كل ما يقدم نفسه كأطروحة. وفرضيتها الأساسية هي أن الحقيقة المعترف بها كونياً وغير المخضعة لأية مساءلة يرجّح كثيراً أن تكون مجرد خدعة.
وجّه كيركغارد لهيغل نفس النقد الذي وجهّه لأفلاطون، كلاهما (ومعهما كل الميتافيزيقا الغربية) اعتبرا أن سقراط يدين العالم باسم معرفة مهيمنة. إلا أن سقراط الحقيقي، سقراط ما قبل أفلاطون، كان ساخراً لأنه تماماً لا يدحض الأيديولوجيات باسم مثال (للحقيقي والعادل والخيّر) يمتلكه هو وحده، ولكن اعتباراً من تصور غير دغمائي للغة. كان سقراط لا يزال ينتمي إلى المجتمع السياسي الذي جعل مهمته أن يصل به إلى الخراب. لذلك فهو لم يكن يعارض القديم باسم الجديد ولكن بأن يقود القديم إلى أن يناقض نفسه. موضع السخرية هو ذلك المكان المعلق بين اثنين، هي تقع بين القيم التي تجابهها وبين القيم التي لم تحصل عليها بعد. عندما تنسى السخرية نفسها، عندما تصبح جدية، أو عندما يتحول النقد الجدلي إلى موقفٍ جديد، تضيع الوظيفة النقدية لتصبح سيرورة دغمائية. تصبح عادةً لمن يريد أن يعطي انطباعاً باستحواذه على خبرة حياتية ومعرفة بالعالم. عندها، وعندها فقط، يصبح التسخيف سلاح الأقوياء في وجه جهل الضعفاء.
الساخر الأصيل هو في العالم “أكثر خفة من العالم”[8]. لا يمكننا حتى أن نقول عنه أنه شكاك، لأن التشكك هو أصلاً أطروحة عن الحقيقة. قد يصح أكثر أن نعرّف السخرية “كلعبة شديدة الخفة مع اللا شيء”[9]. بالتأكيد يشوب تلك الرغبة بألا يتحدث المرء مثل الآخرين شيءٌ من الغرور. ولكن ما ترغب به السخرية قبل كل شيء هو الإنعتاق من اللغة المشرعنة السائدة. هكذا، يصبح لهذه الممارسة فضيلة إظهار أن الحاضر لا يوافق المثال، أي الفكرة التي يصنعها الحاضر عن نفسه. الديمقراطية الأثينية، وهذه أحد العناصر النادرة المشتركة فيها مع ديمقراطيتنا، كانت تدّعي أنها وصلت إلى الشفافية. لقد كان عصر “المراثي” لمجد المدينة. في مواجهة مدح الذات العمومي، لا تؤكد سخرية سقراط أي شيء، ولكنها تكتفي بإدخال الشك حول قدرة الخطابة على تغطية الواقع[10].
كل لبس السخرية يأتي من أنها تشير إلى معرفة احتياط. وذلك بمعنيي كلمة “احتياط”. من جهة تشير إلى أن الساخر يعرف أكثر بكثير مما يودّ قوله. بحمله الخطاب الجديّ على مناقضة نفسه، هو يجعل نفسه عضواً في “سلك ماسونية روحية”[11]، يعرف مفتاح السر ويحتفظ بحق احتكاره لنفسه. ولكن كيركغارد يظهر أن الاحتياط المتعالي هذا يوافق السخرية الحديثة أكثر من السخرية المتواضعة، سخرية سقراط. وذاك لأن سخرية هذا الأخير يجب أن تُفهم وفق نموذج الشكّ وليس وفق نموذج الاحتقار لقيم الحاضر: بينما يدّعي مخاطبو الساخر أنهم يستحوذون على العلم الذي يبرر الوضع القائم، يمارس هو أخلاقية النشاز والاختلاف. ولاتخاذ هذا الوضع معنى باعتبار أن أكثر الممارسات شيوعاً للهيمنة الوضعية هي “تحييد” التناقضات باسم “الوقائع”. إلا أنّ الوقائع لا تتكلم، بل تفرض نفسها بوضوح أخرس، يبرر برأي الخبراء، سياسات التقدم هنا أو إجراءات التقشف هناك. الفضيلة الكبرى للسخرية هي أنها تذّكر بأن تلك “الوقائع” يصنعها الخطاب وأنه ينبغي مساءلة ذلك الخطاب. ليس التهكم هو الأكثر أهمية ولكن تلك المساءلة المستمرة لما يدّعي الإيجابية ولا يهدف على العموم سوى إلى حماية النظام القائم من أي اعتراض ممكن.
إذن، هناك شيءٌ يشبه التربية عبر السخرية. يعرّف كيركغارد هدفها بدقة حين يكتب أن استخدام اللغة غير المباشر هذا (أي السخرية) يحصّن الأفراد ضد “عبادة الظواهر”[12]. ولكن الأكثر أهمية أن السخرية الواعية لنفسها لا تجابه الظواهر الإيديولوجية أو الإعلامية بمعرفةٍ للماهية الاجتماعية. هي تشكك بالأحكام القطعية المتعلقة بالعلم أو بالسياسة أو اختزال العلم بالسياسة. نفهم حينئذ لماذا لا يوجد إلا القليل جداً من السخرية في تنديد “العلماء” بـ “مجتمع الفرجة”، وهو تنديد يضع العارف مرة أخرى خارج الكهف. على عكس تلك الروح الجدّية التي تتخذ أحياناً من التسخيف قناعاً لها، تقلق السخرية كل المواقف المبنية على الدغمائية.
باستخدامه اللغة ضد ادّعاءات الأطروحة، يكرّس الساخر التشظي الأول للمعنى. هذا الاحتياط ليس نسبوياً وهو بعيد عن أن يكون عدمياً، لسبب بسيط هو أن السخرية لا تقع في أرض الحقيقة ولكن في أرض اللغة. بينما تُقلق، تدعو إلى الابتسام لأنها تذكّر بأنه، تحت أناقة الكلمات التي تُلفظ بهدف الإقناع، تكمن قوة عارية. إن كان كيركغارد حساساً تجاه قيمة السخرية، فذلك لأن تجربته الوجودية والفلسفية التي انطبعت بازدواجية “الأب” الذي لم يكن يفتأ يطلق أطروحات لا يؤمن بها في العمق[13]. الساخر هو، على وجه التحديد، ذلك الذي لا يريد أن يصبح أباً أو قائداً. ليس لديه فكرة عن وضعٍ جديد يجابه به ذلك القائم فعلاً. ولكنّه يعي تماماً أن هناك بوناً شاسعاً بين التطلعات للمثالية وبين لبس وغموض الحاضر. هناك دائماً قليل من الحزن في السخرية الأصيلة لأنها تشكك بموقفها هي بقدر ما تشكك بالموقف الذي تعارضه.
هذه السخرية بالذات تستحق أن تُسمع. لم نعد نبرر التدابير السياسية بمقياس المثالية ولكن تأتي في المقام الأول نتائج العلوم الاقتصادية ومشتقاتها. فضيلة السخرية تبقى هي نفسها: عدم الوثوق بخطاب الهيمنة الذي يخفي نية السيطرة تحت قناع الموضوعية. مازال اللعب باللغة، الوسيلة الأفضل للتذكير بما هو ملتبس في التجربة الاجتماعية، بعيداً عن اليقينيات العلمية.
هذا التذكير بالملتبس لا يمت بصلة كبيرة إلى ضحك “الفكاهيين” الرضيّ، الذي يتهكم عبر الإذاعة وفي الصالونات بما امتنع عن نقده. هذا التذكير لا يدّعي كذلك أنه يقع خارج العالم، في موضع من يرى أن الحقيقة تقع دائماً خارج اللغة. السخرية هي بالأحرى طريقة للعب بحرية مع كلمات بليت بالاستخدام. من هنا فهي تذكّر بطريقة سلبية بأن التواصل بين البشر لا يمكن اختزاله إلى معلومة. يدخل إلى الخطاب الاجتماعي قدرٌ من الخطابة ليس من الضروري تفكيكه دائماُ، ولكن على الأقل ينبغي أن نمتلك الوعي الكافي لنبدأ من جديد لعبة اللغة. في التراث الديني، تتجلى سخرية الله في العجائب التي يجترحها: عندما يبدأ خالق العالم من جديد بنقضه لوضع طبيعي أراده هو نفسه. على مستوى الفرد، تلك الطريقة التي تجعله موجوداً في مكانٍ آخر مختلف عن المكان الذي ينتظره فيه معظم الناس هي أيضاً وسيلة للتدليل على ما هو مصطنع وطارئ في “الوقائع” التي تُقدّم على أنها معيارية. مقابل التناوب الزائف ما بين الخطاب الواثق الجديّ ومجرّد الهزء، يمكن للسخرية أنّ تشكّل بداية الحكمة.
الهوامش
[1] “Hegel, Kierkegaard et l’ironie contemporaine”, Esprit, Mai 2013,pp.70 – 80
[2] هيغل، مبادئ فلسفة الحق
[3] تيار سياسي يستخدم قيماً وأفكاراً محافظة بهدف تحقيق العدل الاجتماعي. (المترجمة)
[4] انظر ميشال دي سيرتو، اختراع اليومي.
[5] انظر فيليب لاكو-لابارت وجان لوك نانسي، المطلق الأدبي، نظرية أدبالرومانسية الألمانية.
[6] هيغل، مبادئ فلسفة الحق.
[7] سورين كيركغارد، مفهوم السخرية.
[8] سورين كيركغارد، مفهوم السخرية.
[9] المرجع السابق.
[10] في مينكسين، يسخر سقراط من ذائقة الأثينيين للمرثيات.بالنسبة لخطيب حقيقي مثل بيريكليس، هناك مئة دوماغوجي لمديح “الروح العظيمة” لجمهورهم.
[11] سورين كيركغارد، مفهوم السخرية.
[12] كيركغارد، مفهوم السخرية.
[13] انظر كتاب دافيد بريزيس الجميل جداً، كيركغارد وأوجه الأبوة. باريس، 1999.