قضايا فكرية

هل يمكن قيام الليبرالية الجديدة… في بلد متخلف؟

محمد عابد الجابري :
رأينا في المقال السابق كيف أن مفهوم الـ”كوفرنانس” يحيل، من وجهة نظر الداعين إلى الأخذ به في مجال السياسة والحكم في العالم العربي إلى: “عملية ممارسة السلطة بالمعنى الشامل للكلمة، فهو يضم ليس فقط الحكومة التي تتألف من مؤسسات وفاعلين مكلفين بممارسة السلطة، بل يشمل أيضا عناصر مماثلة تنتمي إلى القطاع الخاص والمجتمع المدني… و”الكوفيرنانس” الصالح يتميز بخصائص أساسية مثل الشفافية والمسؤولية والفعالية والمشاركة العامة وحكم القانون. إنه الحرص بدون هوادة على أن تسود هذه الخصائص الأساسية المحيط السياسي والاقتصادي والاجتماعي”. المرجعية المباشرة في هذا التصور لـ “الكوفيرنانس” هي النظرية الاقتصادية المعروفة بـ “الليبرالية الجديدة” Neo-liberalism. وقد أثارت هذه النظرية، وتثير، جدلا واسعا بين الاقتصاديين حول مدى صدقها وصلاحيتها، مما لا شأن لنا به هنا.
ما نريده نحن من الإشارة إليها هنا هو التذكير بأنها هي نفسها النظرية التي يراد لها أن تطبق بصورة أو أخرى في العالم العربي بتوصية من صندوق النقد الدولي والبنك العالمي والتي تشكل الخوصصة والانفتاح أبرز مظاهرها. والهدف من ندوتنا هو : تقويم عملية تطبيق هذه النظرية ونتائجها في العالم العربي بالمقارنة مع “أنماط الدولة” التي عرفتها الأقطار العربية في العقود الأخيرة. ومعلوم أن هذه الأنماط صنفان:
1) صنف يستوحي أو يطبق “النظام الرأسمالي”، أساس الليبرالية الجديدة هذه، إما منذ البداية (الاستقلال) كالمغرب ودول الخليج… وإما منذ تدشين اختيار “الانفتاح” في الثمانينات من القرن الماضي كمصر.
2) وصنف ظل يستوحي أو يطبق “النظام الاشتراكي” منذ فترة ازدهار الفكر الاشتراكي في العالم العربي (الستينات من القرن الماضي بصفة خاصة)، كالجزائر ثم سورية والعراق وليبيا…
يتعلق الأمر إذن بتجربتين مختلفتين تستند كل منهما إلى نظريتين متباينتين بل متناقضتين في كثير من أسسهما وتطلعاتهما. والمهمة التي يمكن أن أدعي إمكانية القيام بها هنا تقع خارج المجال التطبيقي وخارج البحث الميداني، فذلك ما ليس من اختصاصي. ومع ذلك، فإذا نحن أخذنا بعين الاعتبار الحالة العامة في العالم العربي، كما تصفها الأدبيات الاقتصادية والسياسية الراهنة، جاز القول إن أيا من التجربتين لم تحقق الأهداف التنموية المرجوة منها، وإذن يجب البحث في أسباب فشلهما معا.
يمكن أن يقال إن “التجارب الاشتراكية” قد فشلت أيضا في مواطنها، وهذا صحيح بالنسبة للاتحاد السوفيتي والمعسكر الشيوعي على العموم،  ولكنه لا ينسحب على التجارب الأخرى التي سلكت منهجا آخر في تطبيق النظرية الاشتراكية كالدول الإسكندنافية، كما لا ينطبق على إنجازات الأحزاب الاشتراكية في البلدان الأوروبية الأخرى، في مجال الخدمات الاجتماعية كالتعليم والصحة والضمان الاجتماعي وتعويضات البطالة وغير ذلك مما يندرج في أهداف الاشتراكية. نحن لا نريد أن نصل إلى نتيجة تقرر أن الفشل ليس هو فشل النظرية بل فشل التطبيق، فهذا كلام عام. ما نريد طرحه هنا شيء آخر يفصح عنه السؤال التالي: هل من الممكن تطبيق نظرية، نبعتْ من وضع معين، في وضع آخر مختلف؟
هذا السؤال، طرح في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، بصيغة : “هل يمكن الانتقال إلى الاشتراكية في بلد متخلف؟”. ونحن نعتقد أنه لا شيء يمنع من طرح هذا السؤال نفسه اليوم بصدد “الليبرالية الجديدة”، فنقول: “هل يمكن الانتقال إلى الليبرالية الجديدة في بلد متخلف؟”. وما يجعل طرح هذا السؤال مشروعا هو أن الأمر يتعلق ببنيتين إيديولوجيتين، متشابهتين من حيث التركيب، وإن كانتا متناقضتين من حيث الاتجاه كما هو الحال في الأزواج التالية: الاستقلال الوطني/العولمة، الاستقلال الاقتصادي/الاندماج في السوق، تدخل الدولة للقضاء على الاستغلال/قيام المجتمع المدني بمحاربة الفقر. الكوفيرنانس/ الدولة الوطنية …
من النظر إلى هذه الأزواج يتبين أن “الكوفيرنانس” يقع بديلا عن “الدولة”، و”محاربة الفقر” مكان “الاستغلال” وهكذا. وبما أن الإيديولوجيا الوطنية أسبق زمنا من الإيديولوجية الليبرالية الجديدة في العالم العربي خلال المرحلة موضوع الحديث هنا، (الخمسينات/الثمانينات من القرن الماضي)، فإن “محاسبة الدولة” في العالم العربي، سواء كانت من هذا النمط أو ذاك، على ما أنجزته في “مجال التنمية الاجتماعية والاقتصادية والحد من الفقر” الخ، معناه في الحقيقة محاكمة إنجازاتها بواسطة وعود الثانية! والمشكلة الأساسية في هذه المحاكمة ليست في الاختيار الإيديولوجي الذي يمكن التعبير عنه بهذا السؤال: من يحق له أن يحاكم من؟ بل المشكلة في الحقيقة سابقة لمثل هذا السؤال، إنها نفس المشكلة التي حللناها في بداية هذه المداخلة عندما كنا بصدد مناقشة الطريقة التي تتم بها الترجمة عندنا في معظم الأحيان، كما هو الحال في ترجمة لفظ governance  بـ “الحكم”. أقصد بذلك الترجمة/النقل من المعجم بدل الرجوع إلى المرجعيات الخاصة باللفظ الذي يراد ترجمته واللفظ الذي يراد وضعه كمقابل له. إن نقل البنيات الإيديولوجية من مرجعياتها الأصلية إلى فضاء آخر مباين له، اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتاريخيا، لا يختلف في شيء عن نقل لفظة/مصطلح من لغة إلى أخرى. إن الأمر يتطلب اعتبار خصوصية الطرفين كليهما. ولكي أوضح فكرتي أكثر أطرح الأسئلة التالية: ما علاقة البنيتين الإيديولوجيتين المذكورتين بالعالم العربي؟ هل خرجت إحداهما، أو كلتاهما، من جوف الوضع العربي؟ هل كانت الأرض العربية حبلى بهما؟
الجواب معروف! لقد وردت –أو استوردت- عناصر الفكر الوطني الحديث والإيديولوجية القومية والاشتراكية إلى العالم العربي، ابتداء من منتصف الخمسينات بكيفية خاصة، فتبنى بعض أقطاره بعض عناصرها لبعض الوقت… ثم تلا ذلك تسويق أفكار الليبرالية الجديدة، وفي كلتا الحالتين واجه العالم العربي ويواجه مشكلة التعامل مع هذا “الوارد”. إنها مشكلة عملية معقدة تفرعت عنها عدة مشاكل عملية ونظرية!
لنذكر ببعض المعطيات التاريخية.
معروف أنه، انطلاقا من تحليل النظام الاقتصادي الرأسمالي كما كان في القرن التاسع عشر، استنتج كارل ماركس (ويجب أن لا ننسي أنه محلل اقتصادي قبل كل شيء)، أن تناقضات هذا النظام ستؤدي في النهاية –عبر صراع الطبقة العالمة مع الطبقة المالكة لرأس المال- إلى قيام ثورات اجتماعية في الأقطار الأكثر تصنيعا، وهي أوروبا في ذلك الوقت وعلى رأسها ألمانيا، لتطيح بالنظام الرأسمالي وتقيم مكانه النظام الاشتراكي. فكان من شروط قيام الثورة الاشتراكية عنده –الثورة التي كان يرى أنها ستقضي على الاستغلال والفقر- هو تطور قوى الإنتاج الصناعية والتكنولوجية إلى أعلى مستوى في أوروبا كلها، الشيء الذي سيزيد من حجم الطبقة العاملة الأوربية ويعمق من وعيها بوضعيتها، فتصبح بذلك البلدان الأوربية  كلها –أو الرئيسة منها على الأقل- تعيش “الوضع الثوري” من خلال “اتحاد الطبقة العاملة” فيها داخل حركة ثورية “عالمية” واحدة، غايتها القضاء على الطبقات المستغلة وبالتالي على الاستغلال والفقر، وصولا إلى “تلاشي الدولة” التي لن تعود الحاجة إليها ها قائمة في “مجتمع لا-طبقي”. المهم أن قيام الاشتراكية يتوقف في نظر ماركس وصديقه إنجليز على توفر شرطين أساسين: بلوغ أوربا أعلى درجة من التصنيع من جهة، واتحاد العمال في الأقطار الأوروبية كلها من جهة أخرى. وكان هذا الشرطان يوفران الأداة والحماية: فبالتصنيع الراقي المتقدم وشموله للأقطار الأوروبية قاطبة يزداد حجم الطبقة العاملة ويتعمق وعيها ونضالها وبالتالي تنفجر تناقضات الرأسمالية. وباتحاد العمال على صعيد أوروبا بل على الصعيد “العالمي” تتوفر الحماية لمسلسل إقامة الاشتراكية : الحماية الداخلية والخارجية، من خصمها النظام الرأسمالي الذي سيكون حينئذ في حالة احتضار..!
ليس من مهمتنا هنا مناقشة هذه النظرية، فهي ككل نظرية إنما تستمد مصداقيتها من كونها تعبر عن الواقع الملموس أو عن مظهر أساسي من مظاهره، ولا أحد يستطيع أن ينكر أن الماركسية كانت كذلك بالفعل في أوروبا النصف الثاني من القرن التاسع عشر. أما نجاح هذه النظرية أو تلك فيتوقف أكثر على قدرتها على ملاءمة أدواتها المنهجية ورؤاها الاستشرافية مع تطور الواقع وتغير مجرى التاريخ. وهذا ما لم يفعله دعاة الماركسية بعد ماركس، بل فعلوا شيئا آخر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى