قضايا فكرية

هل أنتجت الثورة المصرية يساراً جديداً؟..بقلم : عصام الخفاجي

عصام الخفاجي..

على رغم بطولات كثيرين من قادة اليسار المصري، فإنه لم ينجح في التحول إلى حركة جماهيرية منذ نشوئه في أوائل القرن السابق إلا في حالات عابرة مثل تظاهرات 1946 التي قادها الشيوعيون واليسار الوفدي ضد حكومة صدقي باشا، ومن ثم حركات الطلبة في أواخر الستينات واوائل السبعينات، وهي حركات ظلت ذات طابع طالبي ولم تنتقل إلى أوساط جماهيرية أخرى.

يعرف مؤرخو تاريخ مصر الحديث وحركاتها السياسية أن من بين الأسباب الرئيسة لعزلة اليسار المصري كون قادته من أبناء الطبقات الشديدة الثراء، بل الباشوات، الذين تبنوا قضايا الفقراء، لكن نبلهم لم يكن كافياً لمد جسور بينهم وبين عامة الناس. حدّثني القائد الشيوعي الراحل أحمد صادق سعد عن أن عبارة «ولد وفي فمه ملعقة ذهب» لم تكن مجازية في حالة ولادته، بل أن أبويه وضعا فعلاً ملعقة ذهب في فمه. وانضاف إلى ذلك كون كثير من أولئك القادة كانوا من أصول أجنبية تنتمي إلى أقليات عاجزة عن فهم واقع المجتمع المصري. وهنا أيضاً أشير إلى رواية سمعتها من صديق يساري أثق في صدقيته عن حوار جرى بينه وبين واحد من هؤلاء المناضلين الذين انخرطوا في حركة اليسار منذ ستين عاماً. كان الإثنان يتناقشان عن أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 في أميركا وخرافة أن العرب كانوا وراء الحدث، فأكّد له ذلك المناضل عدم صحة تلك الخرافة لأن «العرب لا يمتلكون عقلاً متطوراً كهذا»!

ومع أن حركات الإسلام السياسي تعرضت لقمع مشابه لما تعرّض له اليسار، إلا أن الأوائل نجحوا في إقامة منظومة قيم عدا أفكار الدين الإسلامي تربطهم بجمهورهم وتعايشوا معهم على رغم الثروات الهائلة التي كونوها من مصادر عدة بعضها مشبوه.

بعد مجيء النظام الناصري الذي افتتح عهده بإعدام القائدين العماليين البقري وخميس، خرج قادة اليسار المصري من سجون أبو زعبل والقلعة مثخني الجراح ومات بعضهم تحت التعذيب مثل شهدي عطية الشافعي ليروا أن بطولاتهم لم تلاق أي صدى بين عامة الناس. كان الشعب ملتفاً حول النظام مسحوراً بإنجازاته. ولم يغير في الأمر أن جيلاً جديداً من أبناء الفئات غير الميسورة تسلّم قيادة حركة اليسار. وأمام هذا الإحساس بالشلل والعزلة لم يجد كثيرون مجالاً غير الإنخراط في مؤسسات النظام: ترأس لطفي الخولي تحرير مجلة الطليعة، وعمل محمود أمين العالم محاضراً لكوادر التنظيم الطليعي في الاتحاد الإشتراكي العربي، الحزب الرسمي والوحيد في ظل نظام عبد الناصر، وانخرط آخرون في مؤسسات أخرى، معرّضين أنفسهم لنعوت بيع أنفسهم للنظام فيما وجد آخرون الأعذار لهم إذ كان الشعب يرى في عبد الناصر أسطورة وطنية لا يعارضها إلا الخونة.

بوسع المرء تعداد ما لا يقل عن أربعة أحزاب شيوعية تشي بتمزقه، وهو كان ممزقاً أصلاً. فلم يكن مستغرباً موت الحركة الشيوعية منذ الثمانينات، بل إن كثيراً من اليساريين صاروا وهم يحاولون استعادة مواقعهم يرفعون شعارات ويتبنون شعارات تحاول العمل على أرضية الإسلام السياسي مثل كراهية الغرب والدفاع عن الإستبداد بحجة إن الأنظمة المستبدة تعادي الإمبريالية.

ومع أن كثيراً من اليساريين أدركوا حقيقة موت اليسار المصري القديم وضرورة الدفاع عن القيم الديموقراطية، فإن حلولهم دارت حول تأسيس منظمات مجتمع مدني لا جدال حول نبل القيم التي تبنت. فماذا كانت النتيجة؟ بعض، لا كل، قادة تلك المنظمات توافدت زرافات ووحداناً على القذافي وصدام حسين وغيرهم لتدعم «نضالهم ضد الإمبريالية». وأفراد كنت أعرفهم في أيام نظامهم نقلوا مساكنهم إلى الزمالك والمعادي. في أواخر الثمانينات كنت في واحد من المؤتمرات التي لا حصر لها عن حقوق الإنسان التي لا تُعد في القاهرة. وأنا في طريقي إلى الجلسة، نظرت إلى أسعار غرفة الفندق لليلة واحدة. قلت لصديقي الكبير سمير أمين، وكان يلعب، عن جدارة، دوراً محورياً في ذلك المؤتمر: هل انتبهت إلى أن سعر الليلة في الفندق الذي أنزلونا فيه يتجاوز متوسط الدخل السنوي للمواطن المصري؟

اليسار المصري الذي لعب دوراً قيادياً في الثورة المصرية يمثل قطيعة مع اليسار المصري القديم، ليس فقط بسبب أعــمار قادته، إذ يندر أن تجد شاباً في قيادات اليسار «القديم» بل لأسباب جوهرية أخرى.

خذ مثلاً كيف يتعرّف اليسار في أنظار هؤلاء الشباب: الديموقراطية والتعددية، العدالة الإجتماعية، التعاطي مع الغرب بندّية من دون خوف منه، المساواة بين جميع المواطنين، الدولة المدنية أو العلمانية. لقد ولدوا وتربّوا في ظل نظام معاد لكل تلك القيم: نظام يتحدث عن التعددية مكرساً بقاء حزبه متحكماً في مفاصل الدولة، يتعامل مع الغرب بخضوع مذل، يفتح الباب أمام لصوص المال العام، يصرّح بالمساواة بين الجميع لكنه يبقي ديبلوماسياً بارزاً هو بطرس بطرس غالي وكيلاً لوزير الخارجية بسبب دينه.

وما هي مصادر شعبية اليسار المصري الجديد؟

المعطيات المتوافرة لدي، وهي غير كاملة بالتأكيد، تشير إلى أن قادة الشباب متعلمون من أبناء الطبقات المتواضعة أو الوسطى، تخرجوا باستثناء واحد، في جامعات مصرية، سافروا إلى الغرب وتعاطوا مع مجتمعاته: حامد سعيد قائد حركة العدالة والحرية التي يشير البعض إلى أنها كانت نواة الثورة، خريج كلية هندسة حلوان وابن عامل نسيج، عمره 25 سنة. محمد سامي القيادي في حركة 6 أكتوبر إبن ميكانيكي سيارات وخريج كلية التجارة في جامعة عين شمس. شادي الغزالي حرب إبن أخ أسامة الغزالي حرب قائد حركة الشباب في حزب الجبهة الشعبية، جراح تدرب في لندن وعمره 32 سنة. محمد عباس من قادة الشباب في حركة الأخوان المسلمين، خريج كلية إدارة الأعمال في جماعة القاهرة، عمره 26 سنة، وائل غنيم الذي أطلق الدعوة للثورة عبر الإنترنت خريج جامعة القاهرة، تربّى مع والديه في الخليج مما يعني أنه ينتمي إلى طبقة وسطى، وتبقى الأسماء الشهيرة التي كل ما يتوافر لي من معلومات عنها أنها كانت تدرس في مدارس أجنبية في مصر.

هل يكفي ما سبق للقول إن اليسار المصري «الجديد» مختلف عمن سبقه من جهة، وسيكون أساساً لتيار جماهيري ليس مطلوباً أن يتزعم الحركة الشعبية بل أن يلعب دوراً مؤثراً ونافذاً في الحياة السياسية من جهة أخرى؟

لا أعرف! فما أكثر الحركات الجماهيرية التي غرقت في إغراءات السلطة والنفوذ الذي تتمتع به إثر ذلك. وما أكثر من بدأوا من أصول متواضعة وخضعوا لاحقاً لأغنية الراحل الشيخ إمام: يعيش التنابله في حي الزمالك/ وحي الزمالك مسالك مسالك.

لأني لا أخفي انتمائي لليسار العصري وتضامني مع يسار مصر الجديد، أضع يدي على قلبي!

كاتب عراقي

نقلاً عن الحياة

مقالات ذات صلة

‫3 تعليقات

  1. لماذ لا يريح السيد عصام الخفاجي الشيوعي العراقي السابق ومستشار قوى الاجتياح الامريكي الذي تم الاسغناء عن خدماته، نفسه من تسيم القارئ العربي، وينصرف للعلاج من داء الشم عله يستعيد زوجته وابنه. ان الشعوب العربيةستجد طريقها الى الحرية والديموقراطية والرخاء عندمايتخلى مثقفيهاعن ارتباطاتهم المشبوهةوينخرطوا في صفوف الجماهير التي سئمت منظري الشرفات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى