نقد العقلنة كتشيؤ أو نقد الحداثة الملتبسة: (1 من 3)
من العقلانية الأحادية إلى وحدة العقلانية المركبة والتعددية
د. هشام عمر النور
علاقة النظرية النقدية وما بعد الحداثة وما بعد البنيوية بالحداثة في صورتها الأولى تطرح ـــــــــ بالنسبة لنا ــــــــــ فكرة أن هنالك حداثة تقليدية وحداثة جديدة. وهي فكرة يعززها هابرماس بتحديده لأربعة قضايا تميّز الفكر في القرن العشرين، وبالذات الفلسفة، عن التقاليد المبكرة للحداثة وتمثل قطيعة معها. ويجمل هابرماس هذه القضايا في: أولاً، التفكير ما بعد الميتافيزيقي: فقد تراجع في الوضعية المنطقية مفهوم النظرية، الذي كان يسعى ليس لمعرفة العالم الإنساني فقط وإنما الطبيعة أيضاً وبنياتهما الداخلية، وترك للعقلانية الإجرائية لعمليات العلم مهمة تحديد إذا ما كانت جملة ما لها قيمة الحقيقة أم لا. وكذلك الأمر مع هوسرل وهوركهايمر الشابين ومؤخراً البنيويين فقد أخضعوا، كل بطريقته، التفكير الفلسفي لإدعاء العلوم الطبيعية بوضعها النموذجي. والآن نفكّر بطريقة أكثر تسامحاً فيما نعتبره علماً، خاصةً بعد توماس كوهن وكتابه “بنية الثورات العلمية”. ثانياً، المنعطف اللغوي: فبينما كانت العلامات اللغوية تعتبر مجرد أدوات للتمثيل العقلي أصبح الآن مجال المعنى الرمزي مجالاً مستقلاً. وحلت علاقة اللغة بالعالم محل علاقة الذات بالموضوع. والعمليات المكونة للعالم انتقلت من الذاتية المتعالية إلى البنيات النحوية. وحلت عمليات إعادة البناء التي يقوم بها اللغوي محل ذلك النوع من الاستبطان الذي لا يمكن أن يفحصه الآخرون. ثالثاً، تعيّن العقل: فبإسم المتناهي والزماني والتاريخاني تم تجريد العقل من خصائصه الكلاسيكية؛ وأصبح الوعي المتعالي متعيناً في ممارسات عالم الحياة وفي المتضمنات التاريخية. رابعاً، أولوية الممارسة على النظرية: فقد تم قلب العلاقة الكلاسيكية بين النظرية والممارسة. وأصبح أساس المعرفة النظرية في الممارسة ما قبل العلمية، وفي تفاعلنا مع الأشياء والأشخاص. وهكذا تجتمع النظرية النقدية واتجاهات ما بعد الحداثة وما بعد البنيوية في تجاوزها النقدي لمشروع الحداثة وإن كان في إتجاهين مختلفين وبنتائج مختلفة إن لم تكن متعارضة.
أحد أهم نتائج النظرية النقدية أن نموذج فلسفة اللغة في جانبه التداولي مع هابرماس أدّى إلى طرح علاقة جديدة بديلة لعلاقة الذات والموضوع في النموذج السابق وهي التذات intersubjectivity ، أي العلاقة ما بين الذوات. مما أدى إلى استبدال العقلانية الأداتية التي كانت سائدة مع نموذج علاقة الذات والموضوع بالعقلانية التواصلية التي تعبر عن العلاقة ما بين الذوات. فصارت هذه العلاقة هي الأساس للوجود والمعرفة والقيم، ولكن دون أن تستبدل نهائياً علاقة الذات والموضوع أو العلاقة الذاتية subjectivity وإنما جعلتهما جزءاً منها، بل وجزءاً خاضعاً لها. ومع هابرماس صرنا لا نتحدث عن ذات مفردة مستقلة بالمعنى التقليدي بل صار للمسئولية والإستقلال معنيين جديدين. ففي العقلانية الأداتية يكون الأفراد مسئولين حين يتصرفون وفقاً للعقلانية الغائية، التعبير الآخر عن العقلانية الأداتية. فنجاح هؤلاء الأفراد في أفعالهم التي يتدخلون بها في بيئتهم لتحقيق غاية معينة يشير إلى قدرتهم على الاختيار بين بدائل عديدة، كما يشير إلى سيطرتهم على شروط بيئتهم. بينما في العقلانية التواصلية يكون هؤلاء الأفراد مسئولين حين يوجهون أفعالهم ــــــــ كأعضاء في مجتمع تواصلي ـــــــــ إلى مزاعم صحة متفق عليها تواصلياً. ويرتبط بهذين المفهومين المختلفين من “المسئولية” مفهومان مختلفان من “الإستقلال”. فكلما زادت درجة تحقق العقلانية الأداتية كلما زاد تحقق الإستقلال من المحددات التي تفرضها البيئة على الأفراد الذين يقومون بأفعال تحقق أهدافاً بعينها. وكلما زادت درجة تحقق العقلانية التواصلية كلما تحقق اتساعاً أكثر في مدى التنسيق غير القسري للأفعال والحلول الإجماعية للنزاعات. هذه العقلانية التواصلية تطرح، كما هو واضح، عقلانية من نوع جديد، عقلانية تتمتع بمزايا وخواص جديدة تجعلها مختلفة عن سابقتها. فهي عقلانية مركبة وتعددية لا تقوم فيها حقائق مطلقة (أو على الأصح حقائقها المطلقة قليلة جداً ولا تعتمد عليها المعرفة الإنسانية) ولا تعتمد على منهج واحد. وتقوم على الفعل الذي يسعى إلى الوصول للفهم مما يجعل التنسيق بين أفعال الأفراد ممكناً، وهو أمر نموذجه يقوم على الإتفاق غير القسري الذي يتم عن طريق المحاججة argumentation ، ويؤدي إلى ظهور ثلاثة أشكال من عوالم الحياة بسبب اختلاف المعايير ومزاعم الصحة والمناهج؛ هي: العالم الموضوعي المشترك والعالم الاجتماعي المشترك والعالم الذاتي والذي تنتمي عناصره إلى التجربة الفردية ولكن يتم التعبير عنها بطريقة مفهومة للآخرين. وهذا يعني أن لكل واحد من هذه العوالم معاييره ومزاعم صحته ومناهجه وعقلانيته وفعل يرتبط به. وهذا ما نعنيه بالضبط بالعقلانية المركبة والتعددية.
وما كان للنظرية النقدية أن تصل إلى هذه العقلانية المركبة والتعددية لولا ماكس فيبر فهو أول من أشار إلى تمايز ثلاثة مجالات ثقافية تطابق الثلاثة عوالم التي أشرنا إليها، بل وجعل من هذا التمايز جوهر عقلنة المجتمع، وبالتالي حداثته. ومشكلة فيبر أنه لم يتصور عقلانية أخرى غير العقلانية الغائية، فهي التي سادت في جميع مجالاته الثقافية وأودت بالحداثة وعقلانيتها إلى نقيض ما تريده، فبدلاً من التحرر انتهت إلى قفص حديدي ــــــــ كما قال فيبر.
يمكننا أن نلخص مشروع الحداثة عند فيبر في العقلانية الغائية. ورغم أنه يميّز بين فئتين من الأفعال، فهو يميز السلوك الأخلاقي عن سائر السلوك العقلي، إلاّ أنه يرى أن عقلانية واحدة تسود كل السلوك الإنساني في طور حداثته. وهي عقلانية قانونها العلمي ومهمة العقل فيها حساب العلاقة بين الوسائل والغايات، وأن الفئتين من الأفعال اللتان تمتازان بالعقلانية تستخدمان الوسائل الملائمة لتحقيق أهدافهما، أي أنهما يستخدمان نفس العقلانية ولكنهما يختلفان في الأهداف؛ فبينما تسعى إحداهما لتحقيق أهداف عقلية مختارة، تسعى الثانية لتحقيق أهداف أخلاقية وإشباع قيم مطلقة. ولذلك فإن تشخيص أزمة الحداثة عند فيبر والتي سنتناولها فيما بعد، والتي اعتمد عليها هابرماس لتجاوز العقلانية الغائية إلى العقلانية التواصلية، يردها إلى مهمة الأختيار المعياري وتدبير وسائل السلوك العقلاني. وهي مهمة بالغة الصعوبة وتفوق طاقة البشر ولذلك يمكن أن تؤدي بهم إلى اللا عقلانية كما حدث لمشروع الحداثة.
إن الإخفاق الرئيسي في تصور فيبر عن عقلنة المجتمع وانتقاله للحداثة هو أن فيبر رغم أنه قد وظّف مفهوماً مركباً للعقلانية إلاّ أن هذا المفهوم ظل غامضاً مما جعل فيبر ينقاد لفكرة ضيقة هي العقلانية الغائية. فكل مركبات العقلانية التي أشرنا إليها عند فيبر تتبع نموذجاً بنيوياً واحداً للفعل هو الفعل العقلاني الغائي أو الفعل العقلاني الأداتي، أي الفعل الذي يتأسس على العقلانية القائمة على اختيار الأهداف واختيار الوسائل التي تحققها. وهذه العقلانية يجمعها فيبر مع العقلانية القيمية، وهي العقلانية التي تلبي الشروط المعيارية وتقوم بالتوحيد والتنظيم وتكمن وراء تفضيل فعلٍ ما، لتكونان معاً العقلانية العملية في كليتها، وتعميمها هو الذي يشكل سلوك الحياة العقلاني ــــــــــ المنهجي، الذي نتج عن العقلنة الأخلاقية للرؤية الدينية للعالم. وهو السلوك الذي يقوم عليه مشروع الحداثة في مجالاته كلها. لقد فرض فيبر الفعل العقلاني الغائي أو الأداتي كنموذج بنيوي تتبعه كل مركبات العقلانية بينما هو ليس إطاراً بنيوياً أو صورياً أو شكلياً بل هو ينتمي إلى مضمون عمليات التدخل في الطبيعة الخارجية، ووفقاً له تنجح هذه العمليات أو تفشل. ولهذا فإن هذا الفعل العقلاني لا يلاءم إلاّ مركب العقلانية المعرفية ــــــــ الأداتية وتطبيقه على مركبات العقلانية الأخرى يؤدي إلى أن تصير مجالاتها وعوالمها نسخ أخرى من العالم الخارجي الموضوعي. إن عقلنة المجتمع تعني عند فيبر انتشار الفعل العقلاني الغائي أو الأداتي وتحويل المجالات الأخرى، والتي هي مجالات فعل تواصلي بالأساس، إلى أنظمة ثانوية للفعل العقلاني الغائي. وإذا تذكرنا أن هذه العوالم والمجالات الأخرى هي العالم الاجتماعي والعالم الذاتي فإن هذا يعني تحويل الناس والعلاقات القائمة بينهم إلى موضوعات أو أشياء أو وسائل وتحويل العلاقات بينهم إلى العلاقات القائمة بين هذه الأشياء، أي ما أصطلحنا عليه بالتشيؤ reification. هذا التشيؤ reification يبدو منسجماً مع فلسفة الذات أو الوعي التي حصرت نظرها في الصلة بالموضوع؛ بينما نقل التحول إلى فلسفة اللغة عند هابرماس النظر إلى الأفعال بين الذوات، نتج عنه تمييزاً أساسياً بين العقلانية الغائية والعقلانية التواصلية بحيث لا يصح أن تحل إحداهما محل الأخرى وبحيث لا يرد الفعل الموجه للحصول على فهم إلى النشاط الغائي أو العكس. فالنشاط الغائي والفعل الموجه للحصول على فهم نوعان أوليّان من الفعل لا يمكن ردهما إلى بعضهما البعض. والفعل الاجتماعي أو التفاعل مركب من هذين النوعين من الفعل. وعندما يغلب على المركب النشاط الغائي يصير الفعل فعلاً استراتيجياً، وعندما يغلب عليه الفعل الموجه للحصول على الفهم يصير فعلاً تواصلياً. والمصير الذي انتهت إليه الحداثة هو تعميمها للفعل الاستراتيجي بحيث تحولت مجالات الفعل التواصلي ــــــــ تماماً كما تصور فيبرـــــــــ إلى مجرد أنظمة ثانوية للفعل العقلاني الغائي، فانتقلت سيطرة الإنسان على الطبيعة إلى السيطرة على الإنسان نفسه وأصبح العلم الطبيعي نموذجاً لسائر العلوم الأخرى، الإنسانية والاجتماعية. وهذا ما توصّل إليه فيبر عندما صاغ تشاؤمه من تطور الحداثة في مفهومي “فقدان المعنى” و “فقدان الحرية” واللذان استلهمهما فيما بعد لوكاش في مفهوم التشيؤ الذي وسم به المجتمع الرأسمالي.
لقد شخّص فيبر مجتمع عصره، أي المجتمع العقلاني، تشخيصاً نقدياً واستنتج من ذلك أنه مجتمع يعاني فيه الإنسان من “فقدان المعني” و “فقدان الحرية”. ويرى فيبر أن هنالك إتجاهين في عمليات إزالة السحر وعقلنة المجتمع أدّيا إلى هذه المعاناة. الإتجاه الأول، تمايز مجالات القيم الثقافية المستقلة والذي كان ضرورياً لبدايات عمليات عقلنة المجتمع إلاّ أنه أدّى بعد ذلك إلى “فقدان المعنى”. والإتجاه الثاني، الإستقلال المضطرد للأنظمة الثانوية للفعل العقلاني الغائي والذي هو أحد خصائص تطور المجتمع العقلاني إلاّ أنه أدّى إلى “فقدان الحرية”. وكما هو واضح فإن فيبر يستخلص نظرية “فقدان المعنى” من عملية العقلنة الثقافية؛ بينما يستخلص نظرية “فقدان الحرية” من عمليات العقلنة الاجتماعية.
فمع تمايز مجالات القيم الثقاقية المستقلة تم إدراك المنطق الداخلي لكل منها ومن ثم التمكّن من عقلنة النظام الرمزي لكل منها وفقاً لأحد المقاييس المجردة للقيمة، مثل الحقيقة أو الصواب المعياري أو الجمال أو الصدق. إلاّ أن هذه العملية قد أدت من جهة أخرى إلى تفكك رؤية العالم الدينية الميتافيزيقية التي كانت تمنح المعنى للحياة الإنسانية. ونشأ صراع بين مجالات القيم الثقافية المستقلة لم يكن في الإمكان حسمه لغياب أي موقف متعالي إلهي أو كوني تخضع له مجالات القيم هذه. ولم يعد هنالك ما يوحّد هذه المجالات في نظام أو رؤية واحدة، وصارت بذلك الحياة الإنسانية تفتقد إلى المعنى، بل وتخضع لنزاع الأفعال طالما أن الإختلافات بين مزاعم الصلاحية على المستوى الثقافي قد أصبحت على المستوى الاجتماعي توتر بين توجهات الأفعال التي تحولت إلى مؤسسات. هذا الصراع مدمر للمعنى إلى الحد الذي جعل فيبر يصفه بأنه تعددية إلهية جديدة polytheism أو بلغتنا “شرك جديد”.
من الجهة الثانية فإن فيبر يعالج “فقدان الحرية” في مجال نظرية الفعل. فبعد أن كانت الأحكام الأخلاقية والإرادة المستقلة للأفراد محددة بمبادئ قيمية هي التي تقوم بمهمة توجيه وإرشاد الأفعال العقلانية الغائية، شهدت هذه الأفعال إستقلالاً مضطرداً وتحويلاً لمجالاتها إلى أنظمة ثانوية تابعة لها إلى الحد الذي أصبحت فيه هذه الأفعال العقلانية الغائية في هذه الأنظمة، مثل الإقتصاد والإدارة، لا تحكمها الأحكام الأخلاقية وإرادة الأفراد إنما تنظمها هذه الأنظمة نفسها (أي تنتظم بيروقراطياً) وفقاً لدوافع نفعية عامة. وهكذا أصبح الأفراد لا يتحكمون في أفعالهم في الأنظمة الثانوية المختلفة وإنما تتحكم فيها البيروقراطية وهذا ما جعل فيبر ينعت مجتمع الحداثة العقلاني بعبارته الشهيرة بأنه “قفص حديدي”. وليست هنالك من عبارة يمكن أن تؤدي معنى “فقدان الحرية” بطريقة أكثر دقة من عبارة “القفص الحديدي” لوصف ما انتهى إليه مشروع الحداثة الذي تم بعقلنة المجتمع طبقاً لسيادة نموذج الفعل العقلاني الغائي على أساس من فلسفة الوعي وعلاقة الذات بالموضوع.
لا يتفق هابرماس مع هذه الروح التشاؤمية. فهو يرى أن فيبر قد ارتكب خطأً فادحاً في استنتاجه الأول الخاص بـ”فقدان المعنى”. فالتمايز الذي تم بين المشروع العلمي والقانوني والجمالي، الذي هو تمايز بين الأنظمة الثقافية للفعل، تتطور فيه المعرفة الثقافية تحت أحد الجوانب الكلية للصلاحية، ولا يقود بأي حال من الأحوال إلى نزاع بين أنظمة حياة لا مجال لإلتقاءها، فمرجعيتها مجالات قيم ثقافية متمايزة ومستقلة. والخطأ الفادح الذي وقع فيه فيبر هو عدم تفرقته بين هذه الأنظمة الثقافية للفعل والأنظمة الاجتماعية للفعل، مثل الإقتصاد والدولة، والأنظمة الأخيرة تتكون حول قيم عينية محددة، مثل الثروة والسلطة، وفقط مع هذا التحول المؤسسي لأمور قيمية مختلفة تنشأ علاقات تنافس بين اتجاهات لا عقلانية للأفعال. أما عمليات العقلنة التي ترتبط بمركبات العقلانية العامة الثلاثة فهي تتضمن بنيات معرفية مختلفة ولذلك لا ينشأ بينها نزاع، ولكن قد تطرح تساؤلات حول الكيفية التي يتم بها الانتقال من مركب عقلانية إلى مركب عقلانية آخر، والأهم هو السؤال حول قابلية هذه المركبات للوحدة بشكلٍ ما على الرغم من تمايزها واختلافها، لأنه إذا ثبت عدم وجود ما يمكن أن يوحدها فهذا يعني أن “فقدان المعنى” سيظل قائماً. ويجيب هابرماس على السؤال الأخير بأن ما يوفر الوحدة العقلانية لتعددية مجالات القيم الثقافية المعقلنة بفضل منطق كل منها الداخلي هو المستوى الصوري للمعالجة الحجاجية argumentative لمزاعم الصلاحية. فمزاعم الصلاحية تختلف من المزاعم التجريبية لأنه يمكن تجويدها عن طريق الحجج (أو الأسباب). ويوجد ما هو عام ومشترك بين هذه الحجج أو الأسباب وهو قدرتها على توفير دافع عقلاني يقوم عليه الاختبار الجماعي لمزاعم الصلاحية المفترضة. وهذا يعني أن الوحدة القائمة بين مركبات العقلانية الثلاثة العامة هي وحدة تقوم على العقلانية الإجرائية، ولذلك فإن نظرية الخطاب هي التي ستعين أين تتكون هذه الوحدة الحجاجية. ونظرية الخطاب عند هابرماس تقيّم الأفعال التواصلية في ضوء الإجراءات الحجاجية لتؤكد بطريقة مباشرة أو غير مباشرة قيمة دعاوي الحقيقة والصواب المعياري والصدق الذاتي في هذه الأفعال. ولذلك فهي لا تخرج من تعريف الخطاب ككلية علاقات ذات تسلسل دلالي تشكل إطاراً متماسكاً لما يجب أن يقال وما يجب أن يفعل. وهو ما يستعيد به هابرماس وحدة التعدد الذي صار السمة الأساسية للحداثة، إذا كان عقلاً أو ذاتاً أو غيرهما. هذه العلاقة المتوترة بين التمايز والتكامل تشكل مركز مشروع الحداثة؛ وتحدد ما يجعل المجتمع الحديث مختلفاً عن المجتمع التقليدي، فهو مختلف لأنه وحدة متمايزة.