الرأي

نازل وين..!

واحدة من تداعيات ما آل إليه أمر التفكك الإجتماعي بالسودان، جراء الإختناقات الإقتصادية التي تعاني منها معظم الأسر، والتأثر الثقافي بالمحيط الإقليمي والعالمي بفضل ثورة الإتصالات وإنتشار ويُسر وصول المعلومات عبر وسائط النشر الإلكتروني، أن مشهداً مُهماً من مشاهد التآلف والتعاضُد الأُسري قد إختفى من الوجود أو كاد أن يكون، وهو المشهد الإجتماعي الذي طالما ألفناه والمُتمثِّل في فضيلة إيواء الأسرة المُمتدة لبعضها البعض على مستوى الإعاشة والسكن، وذلك حسب الظرف ومتطلبات الزمان والمكان، فقبل عدد ليس بكثيرٍ من السنوات لم يكن من له خال أوعم أو قريب من الدرجة الأولى يفكر في السكن في فندق أو مكان آخر غير بيت ذويه من الأقرباء إن إضطرته الظروف الوجود في العاصمة أو أي مدينة أخرى غير مدينته التي يقطنها، وقد شهدتُ بأم عيني معظم البيوت السودانية في العاصمة والمدن الإقليمية المتفرِّقة وهي تعُج بطلاب العلم والعلاج وإكمال المعاملات والوثائق الإدارية، كان ذلك في الماضي أمراً إعتيادياً وطبيعياً، أما وقد بدأ تأثير إتجاه المجتمع المدني في العاصمة وغيرها من المدن الكبرى لتكريس (فردية ووحدوية) الوجود الإجتماعي، بات من الطبيعي أن يتبدَّل حال الكثير من التوجهات المتعلقة بالإيواء المؤقت لمجموعة كبيرة من القادمين والقادمات من خارج السودان وأقاليمه المختلفة، فأن يرسل المغتربين بناتهم وأبناءهم للسودان لظرف التعليم أوا, غيره من المسببات، لا يجد الأقربون منهم غضاضة في أن يقوموا بإيجار شقة أو سكن مستقل، رغم ما يشوب ذلك من مخاطر أمنية وأخلاقية بدأت تظهر على سطح التفاعلات اليومية للشارع السوداني ، أقول ذلك وكثير من الناس يستغربون وجود فتيات في سن المراهقة أو الشباب وهن يجُبن أماكن ومتاجر ومطاعم وفي أوقات مسائية لم يكن في السابق أحدنا يصدق إمكانية وجودهن فيها، وللحقيقة فإن معظم أولئك الفتيات هن من صاحبات السكن الخاص والذي في أغلب الأحيان تحكمهُ الشروط التجارية المتعلقة بعقود الإيجار وهي دائماً بالطبع خالية من الضوابط لأنها في نهاية الأمر تتعلَّق بمبدأ الحرية الشخصية، وفي ذلك يتبيَّن للمُتمَّعِن أن مجموعة مهمة من قيِّم التعاضد والتآلف الإجتماعي في طريقها للإندثار أو بالفعل إندثرت، من منا قبل ثلاثين عاماً من الآن كان يمتلك الجُرأة التي تجعلهُ يؤجِّر شقة لثلاث من بناته وبيوت أعمامهن وعماتهن وغيرهم من الأقرباء مفتوحة، لعمري في ذلك الزمان كان ذلك يُعتبر طعناً مباشراً في سمعة الأسرة بأكملها، أصبحنا نقابل أقرب الأقربين من مدينة أخرى في الشارع ولا نهتم بسؤاله السؤال المعهود سابقاً (نازل وين؟)، صعوبات الحياة المعيشية المتواترة وتعقيداتها المتواصلة التي لا تنتهي في المدن و حتى البوادي التي أصبحت تلهث نحو التمدن ، جعلت من تقبل أشكال التفكُك الإجتماعي واقعاً مقبولاً ولو على مضض في نفوس المنتمين للأسرة الممتدة الواحدة، هذا فضلاً عن ورود الثقافات المختلفة و خصوصاً ذات الإنتماء الغربي والتي تتلخَّص مجمل توجهاتها حول تقديس فكرة الفردية والإستقلال الذاتي، مما يتيح مساحات كبرى لتوسُّع ظاهرة إنحلال قيود التعاضد الإجتماعي التي كانت سابقاً إجبارية ولا فكاك منها، إلا أنها في ذات الوقت كانت تشكِّل حمايةً طبيعية وتلقائية لموروثاتنا وتقاليدنا الإجتماعية التي طالما إشتهرنا بها بين الأمم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى