مولد الحداثة..بقلم : كريستيان دولاكومباني.ترجمة : ترجمة: حسن احجيج
كريستيان دولاكومباني..
ترجمة: حسن احجيج..
قريبا سينتهي القرن العشرون بعد سنوات من الفظاعات المختلفة في البوسنة ورواندا وأماكن أخرى من العالم.
سوف يحصل هذا القرن من قائمة جوائز التاريخ على الجائزة الكبرى في الرعب عن جدارة واستحقاق. وسيكون البحث عبثا: إذ لم يشهد أي عصر آخر اقتراف مثل هذا القدر من الجرائم على مستوى كوكبنا. إنها جرائم جماهيرية تم تنظيمها علىنحو عقلاني وبرباطة جأش، جرائم ناتجة عن انحراف فكري يتعذر سبره –انحراف سيظل اسم أوشفيتس رمزا أبديا له.
* ومع ذلك، كانت انطلاقة هذا القرن جيدة قبل أن يتحول إلى مأساة. إذ كانت هناك بدايات تنبئ بالخير، وكانت تلك البدايات دوافع حقيقية إلى التفاؤل بالنسبة لأوروبا التي بلغت أوج قوتها بين سنتي 1880 و1914.
ألم تعش أوروبا خلال الثلاثين سنة التي سبقت الحرب العالمية الأولى عصرا ذهبيا حقيقيا؟ ذلك أنها كانت تهيمن على بقية العالم عسكريا واقتصاديا. وكانت تعتقد أنها تشهد عهد انتصار الفكر الأنواري بفضل تقدم التكنولوجيا والطب والتربية. وفي نفس الوقت، دخلت بفضل طليعتها من المفكرين والمبدعين عهدا جديدا هو عهد “الحداثة” الذي أعلنت عن مجيئه التغيرات العميقة التي مست النظام الثقافي. ولتقييم أهمية هذه التغيرات، يتعين علينا أن نتذكر أن الإنتاجات الفنية والمعرفية لم تكن تعبر منذ عصر النهضة إلى نهاية القرن التاسع عشر مجرد بناءات ذهنية، وإنما كتمثلات وفية للواقع الذي يسبقها في الوجود. كانت الآلية التي تتولد وفقها هذه التمثلات بدون شك موضوعا لتحليلات متنوعة جدا كانت تعترض أحيانا على السمة “الطبيعية” لهذه التمثلات. لكن مثل هذه النزعات الشكية تظل مع ذلك معزولة. أما مجمل الذي تساءلوا حول تمثلاثنا، فإنهم يرون أن علاماتنا صادقة ولغاتنا حقيقية وعقلنا متوافق جدا مع العالم.
هذه العقائد التي سادت لمدة طويلة بدأت تفقد تدريجيا هيمنتها انطلاق من سنة 1880. لقد ارتبطت هذه العقائد بفكرة عن الكون لم تتغير منذ ثلاثة قرون، ووجدت هذه الفكرة وتلك العقائد نفسها أخيرا موضوعة في محط تساؤل. وظهرت مجموعة من الأسئلة كانت قد ظلت مكبوتة حتى ذلك الحين: هل لعلاماتنا أساس خارج ذهننا؟ هل القوانين التي تنظم هذه العلامات هي القوانين الممكنة الوحيدة؟ هل من المؤكد أنها تعكس شيئا آخر غير اختيارات ذاتية أو معايير ثقافية؟ وبدأ كثير من الفنانين والعلماء والفلاسفة يشككون فيها لأسباب عديدة. لكن إذا كان كثير منهم يرى أن تطلع لغاتنا إلى قول الحقيقة ليس إلا وهما، فإنهم بالمقابل شغفوا بالعلامات نفسها التي تربح على مستوى السرية ما تفقده على مستوى الشفافية. وينطبق نفس الشيء على آلية التمثل التي أصبحت في سنوات قليلة موضوع تأملات تدميرية.
يتعلق الأمر، إن شئنا “بأزمة”. لكنها أزمة معيشة كإغناء، وإلى حد بعيد كتحرر. ذلك أنه إذا لم يكن منطق التمثل في معناه الكلاسيكي سوى بناء ذهنيا وليس تعبيرا عن بنية “طبيعية” وثابتة، فإنه من الممكن وجود أنماط بنائية أخرى، ويمكن تصور استعمالات أخرى للعلامات وإقامة قواعد لعب أخرى. ويجب على هذه القواعد أن تمكن بدورها من سبر غور مناطق جديدة. وذلك بقدر التعطش إلى التوسع في كل الميادين الذي استولى على أوروبا.
هذه بعض الانشغالات التي تمكن من أن نعين إنبثاق ثقافة “حديثة” حيثما رأيناها تزدهر بين سنتي 1880 و1914.
تتجلى هذه الانشغالات مثلا لدى شعراء تلك السنوات. إن ريلكه وأبو لينير وسوبا وتراكل وسوندرار وبيسوا وأنجريتي ومايكوفسكي ليسوا فقط متقاربين من حيث السن. بل هم يشتركون في التعامل مع اللغة بحرية لم يكن أحد يجرؤ آنذاك على التفكير بها. صحيح أن الكلمات تقاوم. إذ لا يمكن التلاعب بها بدون المجازفة بالدلالة. ومع ذلك قبل بعضهم، أمثال “التطليعين” الروس، بمثل هذه المخاطرة. وسرعان ما ستنتهي محاولاتهم بابتكار خليبنكوف للغة غربية، هي اللغة “العابرة للذهن”.
كثرت في نهاية القرن 19 التجارب في عالم الأصوات لأنه يخضع لقوانين أقل إكراها من تلك التي يخضع لها عالم الكلمات. حيث نجح فاغنر وموسو رجسكي وديبوسي في التخلص من قيد التناغم الذي تحكم في الموسيقى الغربية منذ باخ. وانتهى الأمر به إلى التكسر على يد أرنولد شونبيرغ. ويشكل عمله “بيارو القمري” (1912) أول عمل لانغمي، وكان بمثابة نقطة انطلاق كل موسيقى تستعمل نظام الإثني عشر صوتا.
لكن لغة الرسم هي التي تعرضت أكثر من غيرها لتغيرات مذهلة. والسبب المباشر في ظهور هذه التغيرات هو ازدهار التصوير الفوتوغرافي.
إذ ما جدوى الوقوف عند إعادة إنتاج المظاهر، بينما أصبح في تلك اللحظة من الممكن القيام بهذه المهمة بواسطة وسائل ميكانيكية تماما؟ ولما كان الرسامون واعين بكون مثل هذا “التقدم” يرغمهم على أن يصيغوا لأنفسهم مشروعية جديدة، فإنهم قرروا إذن البحث في ذواتهم عن قوانين ستتحكم منذئذ في عملهم بدل الاستسلام للقوانين التي تفرضها عليهم العين.
بدأ تاريخ الرسم الحديث، كمغامرة فلسفية حقيقية، مع رد فعل كل من سيزان وفان غوخ وغوغان ضد الواقعية البصرية التي يجعلها الانطباعيون من جهة، ومع الحركة الرمزية من جهة أخرى. لقد فتح الأوائل الباب على إعادة بناء ذهنية للواقع، سيمنهجها المتوحشون (1905) والتكعيبيون (1908). أما فيما يخص أنصار الرمزية، سواء عبروا عن انتمائهم لمورو أو ريدون أوكليمت، فإنهم اختاروا التنكر للعالم المحسوس وهدفوا إلى تصوير عالمهم الذهني الخاص الذي يخترقه القلق الديني. وسينشأ الرسم التجريدي أو غير التصويري عن هذه القطيعة الروحية تحت تأثير كل من كاندينسكي وكوبكا، ثم مالفيتش وموندريان بعد ذلك.
لنتفاهم أولا. إذا كانت لوحة مالفيتش “مربع أسود على خلفية سوداء” (1915) تنتمي للرسم “اللاموضوعي”، فإنها لا تفتقد إلى قيمة تصويرية. بل إنها فقط ترجع إلى مطلق روحي بدل الرجوع إلى موضوع مرئي. وبعد ثلاث سنوات من ذلك، سجلت لوحة “مربع أبيض على خلفية بيضاء” (1918) نهاية هذا المسار المساراتي. وعندما بلغ الرسم هدفه الأسمى، اعتقد بأنه وصل إلى نهايته، ووضع مالفيتش ريشاته.
وتشهد عودة مالفيتش إلى الرسم سنوات بعد اعتزاله لإنجاز لوحات تصويرية غريبة ذات إغراء “بدائي” على أنه لا يمكن تقرير موت الرسم بمرسوم، ولا موت الفلسفة أيضا.
إن ظهور الحداثة بالنسبة للعلماء، لا تترجمه فقط الطفرة الجذرية التي مست الصورة التي يحملونها عن العالم، بل يترجمه أيضا السؤال الجديد الذي طرح حول أساس العلوم، وكذا ابتكار فروع معرفية تتمحور حول تحليل التصوير.
وكانت الرياضيات هي أول ما مسته عملية التذويب التي بدأت في السبعينات من القرن الماضي، حيث انخرط علماء الرياضيات في مشروع شجاع هو التفكير في لغتهم الخاصة، وذلك عندما لاحظوا أن مفاهيم الرئيسية، وخصوصا مفاهيم علم الحساب، تفتقد إلى الصرامة. ويرتبط مشروع إعادة التفكير هذه بالازدهار الفريد للمنطق الذي يميل إلى أن يصبح العلم الأكثر “جوهرية” من بين العلوم الأخرى.
ودشنت العلوم الفيزيائية والكيماوية بدورها مرحلة غليانها في السنوات الأخيرة من القرن الماضي، حيث تلاحقت عدة اكتشافات أساسية: إذ صاغ بلانك مفهوم “كوانطوم”؛ وتوطدت أخيرا الفرضية القديمة المتمثلة في البنية الذرية للمادة؛ وصاغ إنشتاين نظرية النسبية (1905). لقد فجرت هذه النظرية الأخيرة الفكرة الموروثة عن نيوتن والمتمثلة في المكان والزمان المطلقين، ولذلك كانت نظرية ثورية بالنسبة للتمثل العلمي للعالم كما كان الابتكار الملازم للتجريد ثورة بالنسبة للتصوير الرسمي.
نتجت الميكانيكا “الكوانطية” عن البحوث التي أجريت حول بنية الذرة، وعرفت في السنوات اللاحقة نموا سريعا. وانتهت هذه الميكانيكا، بصيغتها المهيمنة التي دافع عنها بوهر وسهلت انتشارها نظرية علاقة التغير لدى هينزبرغ (1927)، إلى وضع الحتمية الكلاسيكية محط تساؤل؛ ونازع في هذا التساؤل كل من إنشتاين وشرودنجر وبروغلي الذين ما زالت اعتراضاتهم إلى اليوم محط نقاش ضروس حول مستقبل الفيزياء.
ولم يكن التجديد في مجال البيولوجيا أقل شأنا من غيره في المجالات الأخرى. فمن جهة، عملت النظرية الدارونية حول التطور على إدخال الطبيعة في التاريخ. ومن جهة أخرى، خبا لهيب الصراع الدائر بين النزعة الميكانيكية والحيوية، تاركا مكانه لمقارنة تطورا مهما، بينما فتحت أعمال باستور الطريق للطب الحديث، وأعمال ماندل لعلم الجينات أونظرية الوراثة.
وأخيرا جاء دور العلوم الاجتماعية. لقد ظل اهتمام هذه الأخيرة منصبا لمدة طويلة على دراسة المكان والزمان البشريين (التاريخ والجغرافيا والاقتصاد وعلم الاجتماع)، لكنها انطلاقا من سنة 1880، ستغتني بثلاث تخصصات جديدة عرضت لظاهرة التمثل من زوايا مختلفة.
فعلى مسافة من الفيلولوجيا الكلاسيكية، المنشغلة بالتطور التاريخي للغات أكثر مما هي منشغلة بوظافتها الداخلية، قدم عالم اللغوي السويسري دو سوسير (1913-1857) مبادئ علم لغوي جديد –وسوف لن تمارس أفكاره كل تأثيرها إلا بعد نصف قرن من ذلك.
وستنمو الاثنولوجيا من جهتها في حضن الغزوات الاستعمارية، مساهمة بنفس الآن في تقويض إيديولوجيا المركزية العرقية التي تلهم تلك الغزوات. وبالفعل، كلما اكتشفت الاثنولوجيا غنى العادات والتمثلات “ماقبل منطقية” (ليفي-برول)، كلما انقادت إلى الاعتراض على “التفوق” المزعوم للحضارة الأوربية وإلى تقييم الوحدة العميقة للحدث الرمزي، أي الجنس البشري، وذلك بغض النظر عن “غرابة” المجتمعات بدون كتابة.
وفيما يخص التحليل النفسي -وهي كلمة صاغها سنة 1896 الطبيب النمساوي سيغموند فرويد (1856-1939)- فإنه وإن كان لا يشكل علما بالمعنى المعتاد للكلمة، كما سيوضح ذلك كارل بوبر، لا يمكن اختزاله لا في نوع من الميتافيزيقا الجديدة ولا في شعبة من علم النفس أو الطب النفسي. واللاشعور الفرويدي ليس مدلولا رومانسيا ولا مقولة لوصف الأمراض، وإنما هو “هيئة” كونية يبدو أن ظهورها لازم ظهور اللغة والرمزي عموما. ويتوقف استكشافه على ممارسة نوع من فك الرموز، سواء من خلال العَرَض العصابي (دراسات الهستيريا، بالاشتراك مع جوزيف بروير،1895)، أو من خلال الحلم أو فلتة اللسان أو النكتة لدى الإنسان “السوي”. وهذا ما جهد فرويد –الذي يبدو أنه لم يكن على علم بالبحوث التي كان يقوم بها معاصره سوسير –من أجل توضيحه في أعماله الثلاثة “تأويل الأحلام” (1900) و”علم النفس المرضي للحياة اليومية” (1901) و”النكتة في علاقاتها باللاشعور” (1905). وتشترك هذه الأعمال الثلاثة في كونها تحمل نفس التصور عن “المشهد” النفسي كمكان لـ”مسرحية” يكون اللاشعور هو مؤلفها الخفي.
الأفكار الفلسفية كان هادفا وبطيئا. ومع ذلك، إذا كانت التحولات الفلسفية بين سنتي 1880 و1914 أقل إثارة من غيرها في المجالات الأخرى، فإنها لم تكن أقل عمقا. ترتبط هذه التحولات بظهور انشغال علماء الرياضيات بالأسس التي تقوم عليها هذه الأخيرة، ذلك أن صلابة باقي الأنشطة المعرفية الأخرى تتوقف على صلابة الرياضيات. فلكي تنمو المعرفة في أمان، يجب أن تصاغ المبادئ الرياضية الأساسية في لغة دقيقة وصارمة وخالية من كل فرضية مسبقة، حدسية أو اختيارية أو ميتافيزيقية. بيد أن الوضع لم يكن كذلك سنة 1880.
ففي هذه الفترة، ظلت الطريقة التي تدرك بها هذه اللغة سجينة مذهب لا يرضي مجمل علماء الرياضيات. وهذا المذهب، الذي كانت تدافع عليه مدرسة ماربورغ بقيادة الفيلسوف الكانطي الجديد هيرمان كوهن (1842-1918)، يعود فيجزئه الأساسي إلى النظام الذي عرضه قبل قرن من الزمان إيمانويل كانط في كتابه نقد العقل الخالص (1781).
ما هي “النزعة النقدية” عند كانط؟ إنها نظرية متعلقة بالأسس التي تقوم عليها “قدرتنا المعرفية” وحدودها. وترتكز على وصف وتصنيف –قابلين للمناقشة- لأحكامنا.
يرى كانط أن كل حكم هو فعل عقلي يقيم علاقة بين محمول وموضوع. ويعبر عنه بجملة تصاغ على نحو (س هي ص). ويمكن أن يكون هذا الحكم تحليليا أو تركيبيا. ففي الحكم التحليلي، يكون المحمول متضمنا في تعريف الموضوع. مثلا: “كل الأجسام ممتدة”. فالقول بأن الامتداد يشكل جوهر كل جسم هو حكم يمكن من توضيح المعرفة، لكنه لا يغنيها. وبالتالي لا تحقق المعرفة نموا حقيقيا إلا بفضل الأحكام التركيبية.
وتنقسم هذه الأخيرة إلى نوعين: أحكام قبلية وأحكام بعدية. ففي الحكم التركيبي البعدي، يجب أن يأتي الدليل على العلاقة بين المحمول والموضوع من الخارج. مثلا: “كل الأجسام ثقيلة” -مادام الثقل، على خلاف الامتداد، لا ينتمي إلى جوهر الأجسام. وبالمقابل، فإن تلك العلاقة تمثل في الحكم التركيبي القبلي طابعا ضروريا وأبديا. إذ أنها تستند على “تجربة فكرية” مستقلة عن كل واقع، وباختصار إنها تقوم على حدس خالص وليس على حدس اختياري. مثلا: “7-5=12″؛ أو: الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطة وأخرى”.
يفسر كانط في في الجزء الأول من النقد، الذي يحمل عنوان “الجمالية المتعالية”، أن كل هذه الافتراضات الرياضية هي أحكام تركيبية قبلية. والحدس الخالص في الهندسة ينتمي إلى النظام المكاني: يدرك عقلي وجود علاقة بين النقط والخطوط والمساحات الموجودة في فضاء ذهني. وفي الحساب، ينتمي الحدس الخالص إلى النظام الزمني: يماثل عقلي عملية جمع كيفما كانت بتتابع أرقام يحدث في الزمن شأنه شأن التفكير تماما.
وبالمقابل، فإن كل افتراضات الفيزياء والعلوم الطبيعية عموما تشكل أحكاما تركيبية بعدية. ولذلك تظل دوما قابلة للمراجعة.
ومع ذلك، تقتسم الافتراضات الرياضية والفيزيائية خاصية مشتركة: وهي كونها تفترض أن كل تجربة هي معطاة في الحدس. وسواء كان الحدس خالصا أو اختباريا، فإنه لم يكن أن تعطى فيه أية معرفة بدون اللجوء إلى التجربة وبدون حدوث لقاء بين مفهوم وحدس. يقول كانط في هذا السياق: “الأفكار بدون محتوى تظل فارغة، والحدوس بدون مفهوم تظل عمياء”(1).
يتعين على العقل إذن ألا يتجاوز حقل التجربة بأي حال من الأحوال. إذ لا معرفة إلا بما هو معروض في هذا الحقل؛ وبعبارة أخرى، لا معرفة إلا بـ”الظواهر”. فلا أحد يستطيع أن يعرف الأشياء “في ذاتها”، أي بمعزل عن الطريقة التي تظهر لنا بها: تلك هي أطروحة كانط الأولى.
ومع ذلك، ليس للتجربة الكلمة الأخيرة، ذلك أن شروط إمكانها ليست نفسها إختبارية. لقد رأينا أن حدوسنا تصاغ في أشكال قبلية -المكان والزمان- تنتمي لبنيتنا الإدراكية. كما أنكل مفاهيمنا تصدر عن اثني عشر “مقولة” عامة تنتمي إلى بنية فهمنا. وباختصار، الذات العارفة هي ذات “متعالية” وسابقة على كل تجربة ممكنة، بحيث تظل موضوعية العالم مستقلة عن الشروط التي تنتج فيها: وتلك هي أطروحة كانط الثانية.
إن هاتين الأطروحتين متكاملتان. فالأولى تنقدنا من الدوغمائية التي لا يمكن لعقل مستسلم لذاته إلا أن يسقط فيها (لايبنز). وتنقدنا الثانية من النزعة الشكية التي يمكن للاختبارية المعممة أن تسقطنا فيها. وهكذا يمكن لكانط أن يشعر بالرضى بعد أن وضع المعرفة في منأى عن الخطرين اللذين يتهددانها. لقد استطاع أن ينتزع الفلسفة من “ساحة المعركة” (Kampfplatz) حيث كانت تسجنها الميتافيزيقيات المتصارعة، كما استطاع أن يدخلها في “الطريق الآمنة للعلم”(2). ومنذئذ، لم تعد مهمة الفلسفة تتمثل في تكويم النظريات المتضاربة، العقيمة والاعتباطية، بل أصبحت تتمثل في مصاحبة العمل العلمي من خلال التشبت بتسليط الضوء على المفاهيم العلمية. وبعبارة أخرى، أصبحت مهمة الفلسفة هي التحقق مما إذا كان هذا العمل يجري في الإطار الذي وضعه كتاب النقد.
إن النسق الكانطي، المتمثل في فلسفة العلم كفلسفة حذرة يشكل بصورة ما أوج الفكر الأنواري. فعندما نتفحص عن قرب نظريته في المعرفة، نلاحظ أنها تتضمن بعض الصعوبات. ولكن وعلى الرغم من هذه الصعوبات، فإن العقلانية الكانطية ستجسد نموذجا سيتبناه لأزيد من مائة سنة كل من سيعتقد ككانط أن مهمة الفلسفة هي التأسيس للعلم، وأنه يمكن لهذه المهمة نفسها أن تتم بطريقة علمية.
يعرف الجميع اليوم أن هاذين المعتقدين وهميين. لكن لن يؤكد ذلك أي فيلسوف بشكل واضح قبل فتجنشتاين (1921) وهايدغر (1927). ذلك أن الحركة المناهضة للكانطية التي تفجرت انطلاقا من سنة 1880 لم تكن موجهة ضد هذه الأفكار الكبرى أكثر مما كانت موجهة ضد طريقة تشغيلها على يد كانط. وبعبارة أخرى، لقد كانت تلك الحركة موجهة ضد الدور الذي تسنده نظرية الرياضيات للحدس.
وكان أكبر المناهضين لهذا التصور الكانطي بين سنتي 1880 و1914 هما فريجه وهوسرل. فالأول رفض الحدس كليا. بينما احتفظ به الثاني ومنحه معنى ودورا مختلفين. لكن الحقيقة أن الاعتراض بدأ قبلهما بشكل خفي سنة 1810، أي بعد ست سنوات من وفاة كانط. وظهر هذا الاعتراض في الإمبراطورية الهنغارية، المنطقة الثقافية الواسعة التي صعب على الفكر الكانطي ذي الأصل “البروسي” أن يتجذر فيها.
إن أول ناقد لكانط -وبالتالي الرائد الأول لـ”الحداثة” الفلسفية- هو بيرنهارت بولزانو (1781-1848). ولد بولزانو في براغ، وهو رجل دين كاثوليكي يُدَرِّسُ “علوم الدين” بجامعة شارل. كما أنه ذو عقل موسوعي يعلن انتماءه للفكر اللايبنتزي، أولا نظرا لأنه عالم رياضيات متألق، صاغ نظريات أساسية للتحليل، هذه الشعبة من الرياضيات التي ترجع إلى لايبنتز. وثانيا، نظرا لاهتمامه بالمنطق –هذا التخصص الذي ظهر في القديم بفضل أرسطو والمدرسة الرواقية، والذي فتح له رايمون لول Lulleولايبنتز آفاقا جديدة لم يفهمها معاصروهما.
لقد رغب رايمون ليل (1233-1316) في هداية اليهود والمسلمين إلى الإيمان “الحقيقي” بواسطة قوة الاستدلال الجيد فقط، لذلك تصور “فنا عظيما” (ars combinatoria) قادرا على حل أي معضلة نظرية- كما هو الشأن بالنسبة للسيمياء التي منحت للبشر نوعا من السلطة المطلقة على المادة. ولم يتوج هذا الجهاد المنطقي- اللاهوتي بالنجاح، بل جنى خيبات الأمل فحسب. وبعد أربعة قرون من ذلك، جاء ديكارت ليتهكم بدوره على تأملات ليل وينزع عنها كل مصداقية.
كان لايبنز حذرا أكثر من سابقيه، لذلك بذل قصاراه لتحسين “الفن” الذي اقترحه لول. لقد أراد هذا الديبلوماسي المحنك والمسيحي المسكوني أن يساهم بدوره في توحيد الجنس البشري من خلال تيسير وحدة المعارف. لكن كيف يمكن الربط بين الفروع المعرفية المنفصلة عن بعضها البعض؟ يمكن الربط بينها بترجمتها في لغة كونية تكون في متناول الجميع: وهي لغة الرياضيات.
لذلك بذل لايبنز جهوده للحفاظ على نوع من الكتابة الصورية، مكون من عدد قليل من العلامات الأصلية القادرة على أن تسجل كل المفاهيم المفكر فيها تبعا لقواعد تركيبية. وللحصول على إجابة على أي سؤال بمجرد إجراء عملية حسابية بسيطة، يكفي تطبيق بعض العمليات الحسابية على هذه الرمزية التعاقدية. ولم ير معاصرو لايبنز في هذه البحوث التي ظلت مجهولة لمدة طويلة إلا نتيجة لنزوع غريب نحو الحلم. حيث كان كانط يجهلها، فضلا عن اعتباره للمنطق عموما مجرد فرع معرفي لا جدوى من ورائه ولم يحقق أي تقدم منذ أرسطو. وهذا هو السبب الأول الذي دفع ببولزانو اللايبنتزي إلى رفض كانط.
ويتمثل السبب الثاني في كون بولزانو، المؤمن بفضائل المنطق، يعتقد أن الاستعمال الجيد للمنطق يمكنه أن يقدم لمشكلة أساس الرياضيات حلا مرضيا أكثر من الحل الذي قدمه كانط. هذه هي الأطروحة التي يناقشها بتفصيل في كتابه مساهمة في تأسيس الرياضيات على أفضل الأسس(1810). وعلى الرغم من أن هذا الكتاب مرّ خفية في عصره، فإنه أول كتاب عارض في آن واحد مدلول الحكم التركيبي القبلي ومدلول الحدس الخالص –الذي يعتبره بولزانو “صعبأ” ومتناقضا. فالحدس دوما اختباري، سواء كان مكانيا أو زمانيا. ويمكنه أن يقوم بدور تكميلي ذي سمة تربوية، شأنه شأن اللجوء إلى الشكل في البرهنات الهندسية. لكن لا يمكن للمرء أن يستخرج منه أية نظرية جديرة بهذا الاسم.فإذا أراد الباحث -كما أراد كانط- تأسيس الرياضيات على أسس صلبة، فيتعين إدراك هذه الأسس بطريقة منطقية خالصة بعد تطهيرها من كل عنصر حدسي.
وعموما، إن رغبة بولزانو في النجاح حيثما فشل كانط هي التي قادته إلى رفض مذهب “الجمالية المتعالية”. وعلى الرغم من الوضعية الهامشية التي وضعه فيها اختياره هذا، تابع بولزانو نشاطه ونشر في جو من اللامبالاة النسبية عملا هائلا هو نظرية العلم(1937)، ثم ظهر بعد وفاته كتاب مفارقات حول اللامتناهي(1851).
لقد جسد هذا الكتاب الأخير مقدما البحوث اللاحقة لعالم الرياضيات ريشارد ديديكان (1831-1916) التي أجراها حول طبيعة الأعداد اللاعقلانية، كما جسد مقدما ابتكار نظرية المجموعات (1872) على يد عالم آخر سيعلن بدوره مناهضته للكانطية، وهو جورج كانتور (1845-1916).
وفيما يخص كتاب نظرية العلم، فإنه أعاد صلته بطموح لاينبتر إلى تأسيس رياضيات كونية، أي بمشروع توحيد المعرفة بواسطة قواعد منطقية خالصة. لقد أقحم أيضا مدلولا جديدا، هو مدلول “التمثل في ذاته”، وذلك بهدف توضيح ضرورة إجراء تمييز بين المحتوى المفهومي لتمثل ما من جهة، والصور الذهنية القادرة على التعبير عنه من جهة أخرى. لقد طور عموما الأطروحة ذات الإيحاء الأفلاطوني والتي لا يمكن بمقتضاها اختزال القوانين المنطقية، المزودة بـ”حقيقة في ذاتها” مستقلة عن ذاتيتنا، في العمليات التي تصاحب صياغتها في عقلنا.
هكذا يظهر بولزانوا كرائد لـ”المنطقية” (Logicisme) –أي لواقعية الكيانات المنطقية- التي ستظهر من جديد في نهاية القرن التاسع عشر لدى كل من فريجه وهوسيرل. وسوف لن يعود الإشعاع لأعمال بولزانوا إلا بعد وفاته. وستمس هذه الأعمال بعض الفلاسفة الذين سوف لن يدخرون وسعا في نقد كانط، مع أنهم سوف لن يفعلوا –كل بطريقة- غير استعادة الإيعاز الكانط: إقحام الفلسفة في “الطريق الآمنة للعلم”.
كان تأثير بولزانو محسوسا أكثر في كل من النمسا وبولونيا. حيث ظهر هذا التأثير مثلا لدى الدومينيكي فرانز برينتانو (1838-1917) الذي ولد في ألمانيا ودرس في فيينا، وكذا لدى أليكسيوس مينونغ (1853-1920) الذي قضى مجمل مساره المهني في غراز (Graz) بعد أن تتلمذ على برينتانو. ولقد عمق مينونغ وبرينتانو التفكير البولزاني في بنية الفكر، وخصوصا في العلاقة التي تربط بين الفعل الذهني والموضوع الذي يستهدفه. وألحا معا على ضرورة تجنيب المحتوى المنطقي لمفاهيمنا كل تأويل ذاتي. وستلهم أعمالهما كلا من فريجه وهوسيرل.
وسيعمل تلميذ آخر لبرينتانو على نشر الأطروحات البولزانية في بلاده، وهو البولوني كازيمير تواردوفسكي (1866-1938) الذي ألف كتابا حول محتوى وموضوع التمثلات (1894). لقد كون طوال سنوات تدريسه لجامعة Lwow-بين 1895 و1930- جيلا من المناطقة المهووسين بانتزاع نظرية العلم من كل اختزال سيكلوجي أو اختباري. وسيؤسس هؤلاء المناطقة –ليسنييفسكي، تراسكي، كوتاربينسكي- بعد الحرب العالمية الأولى مدرسة فارسوفيا التي ستغذي بحوثها أعمال كل من كارناب وبوبر وكوين.
وفي غضون ذلك، استطاع المنطق، الذي لم يتطور منذ لايبنتز، أن يحقق تقدما ملموسا بفضل ثلاثة علماء: الإيرلندي جورج بول، والأمريكي شارل بيرس، والألماني غوتلوب فريجه، وستقدم أعمالهم -وخصوصا عمل فريجه الذي يعتبر الانطلاقة الحقيقية للفلسفة الحديثة- إجابات جديدة على لغز أسس الرياضات. وستثير، بموازاة أعمال نيتشه، اهتماما جديدا بمسألة اللغة.
ومع ذلك، لن يتم القضاء على “أزمة” التمثل. لكنها على الأقل ستمكن الفلسفة من التحرر من الكانطية، ثم من اكتشاف أن تتبعها لمشروع كانط عبر سبل أخرى سيقودها إلى الطريق المسدود. وهو اكتشاف سيعمل بمعية عوامل أخرى على إجبار مفكري القرن العشرين على إعادة التساؤل حول التصور الكلاسيكي للعقل الذي يمثله ديكارت وفلاسفة الأنوار.
الهوامش
(1) Kant, Gritique de la raison pure, trad. Fr., Paris, 1968, p.77.
(2) Ibid, Préface de la seconde édition (1787), p. 20.
(3) Ibid, Préface de la seconde édition, p. 15.
* ) هذه الترجمة لمقدمة كتاب كريستيان دولاكومباني، تاريخ الفلسفة في القرن العشرين. وهو كتاب قيد الترجمة.
un grand merci pour vos efforts
[email protected]
th fb thfb