الرأي

مهنة التضحية

فَقَالَ لَهُمْ: «عَلَى كُلِّ حَال تَقُولُونَ لِي هذَا الْمَثَلَ: أَيُّهَا الطَّبِيبُ اشْفِ نَفْسَكَ! » (لوقا 4: 23)

التضحية من أجل المهنة لها أهداف ومعاني مختلفة، قد تكون التضحية من أجل الحصول على راتب أفضل وبالتالي مستقبل مضمون، أو من أجل تحقيق مكانة، ومرتبة اجتماعية مرموقة، أي أهمية إنعكاس نتيجة النجاح في العمل على الحياة الشخصية. أما ما يسمى بالمهنة المضحية فنادرا ما تتميز مهنة ما بصفة التضحية، في دول العالم الثالث والعالم العربي، غالبا من يمتهن التدريس يعتبر شخص مضحي بالرفاهية، إلا أن وضع الأطباء هي أكثر تطلبا لمبدأ التضحية، وبدون تقديم أدلة أو براهين. في كتابه “ملامح من المجتمع السوداني” ذكر (حسن نجيلة) عن فرحة السودانيين بأول فوج من خريجي كلية الطب في عام 1927 كانوا سبعة أطباء. ساهم البريطانيون والسودانيين من رجال الأعمال في تحقيق مشروع المدرسة، وقدمت جمعية الخريجين مسرحيات، من أجل التبرع بعائدها المادي (لمدرسة الطب). عندما بدأ الأطباء عملهم في مطلع عام 1928 كانت طليعة فاتحة بروح ورسالة جديدة، تعففوا أن يأخذوا مليما من أي مريض، يزورون المرضى في منازلهم، ويرفضون أي أجر على ما فعلوا، كان الفقير يجد عندهم مثل ما يجد الغني، أكثر من رعاية وعناية. فحققوا وصية الشاعر (عبد الله عبد الرحمن) في قصيدة ألقاها في أول احتفال بتخرجهم موصيا فيها الفوج الأول من الأطباء: يا أساة البلاد من كل جرح… ان سمحتم فلي إليكم وصية… مهنة الطب ما لها من مثيل… هي احدى الوظائف العلوية… راجعوا الكتب ولا تهملوها… ولتحيلوا على الزمان رقية… وابسموا للعليل في كل وقت…. فابتسام الطبيب يحي الشهية… جرعة من مزيج ضحك تؤدي …. فعلها في قناتنا الهضمية… وأوصى الشاعر الأطباء في قصيدته عن خطورة الشهرة والمال قائلا: قد يضر الطبيب مهما تعالى… شهرة بابتزازه المالية. خففوا من مواطنيكم مصاباً… والفتى من يراح للقومية. قدم الفوج الأول من الأطباء راحتهم من أجل تخفيف آلام السودانيين. يقال من الشائع الاطباء يعتمدون على أنفسهم: غالبًا ما يحاول الأطباء إصلاح الأشياء بأنفسهم، حتى عندما تكون المساعدة الخارجية هي الأفضل. ذلك لأنهم يعتبرون حياة الأخرين، مسؤولية على ضمائرهم لذا لا يبرحون من مكانة العطاء والجهوزية، هذا الشعور في إلغاء الذات من أجل راحة الأخر، يضعهم في منزلة التضحية مقابل راحتهم مما قد يهملون صحتهم.
في مسرحية يونانية قديمة بعنوان “السلطة والقوة” للكاتب المسرحي (إسخيلوس 525 – 456 ق.م) كان الطبيب المبدع الذي يسعى من أجل شفاء الناس نفسيا وجسديا، عكس فشله في معالجة معاناته الخاصة، أحزنه ذلك جدا رغم ابتكاراته من أجل الآخرين مقابل اهمال نفسه جعله يصرح قائلاً: “أنا حزين – هذه هي الفنون التي ابتكرتها للبشرية، ومع ذلك ليس لديّ وسيلة ماكرة لتخلصني من معاناتي الحالية”. فترد عليه جوقة من فرقة المسرحية قائلة: “لقد عانيت من الحزن والإذلال، لقد فقدت ذكائك وضللت، ومثل طبيب غير ماهر، مريض، تفقد القلب، ولا تستطيع اكتشاف العلاجات التي تعالج نفسك”. هذا ما دفع سقراط إلى تقديم نصيحة للطبيب، ازاء اجتهادههم أن يستفيدوا من امكانياتهم في علاج الأخرين لعلاج أنفسهم، بالتخلي عن الاهتمامات الأرضية والتمسك بالحياة في العالم الروحي. منها اشتهر القول وصار مثلا وعبرة، ليستخدمها السيد المسيح مقللا من تقديرات أهل بلدته قائلا: عَلَى كُلِّ حَال تَقُولُونَ لِي هذَا الْمَثَلَ «أَيُّهَا الطَّبِيبُ اشْفِ نَفْسَكَ!». وهي عبارة تهكم يقصد بها توبيخ وإهانة ساخرة، من خلال الادلاء بملاحظة استفزازية، غير لطيفة بطريقة الهَمْز واللَّمْز، لأثارة الاستهزاء، أو تحدي مهين، يوجه لنقاط ضعف، أخفاق، أو تهم باطلة، قد تكون لها معاني عنصرية وطبقية. أو تقلل من شأن ما يقوم به شخص ما، أو لبسه، أسلوبه، وشكله. ما قصده السيد المسيح في اسقاط فهم أهل بلدته هو أن: عليهم أن يعتنوا بعيوبهم وليس فقط تصحيح أخطاء الآخرين. لأن تقديرهم عنه في الشفاء وصنع المعجزات كان سطحيا جدا. هكذا يعامل أطباء اليوم لا يجدون مقابل تضحياتهم إلا الإهمال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى