ثقافة ومنوعات

منمنمات.. وردي، حجاج أدول .. عذوبة نيلية وعبق يترقرق على النهر

يحيى فضل الله

“أشرعة المراكب فراشات بيضاء حالمة ترفرف على صدر النيل المجرى الأسطوري، الحوش الرملي الواسع مزدحم، سوق مكتظ، وعاء مليء بالعجين، قرص حديد على ثلاثة أحجار تحيط بالحطب المشتعل، المطبخ في أقصى الحوش، الجدة ترقص حول البقرة مترنمة بأغنية الذبيحة.

محمد وردي

أطباق الخزف على الجدار الخارجي تعكس أتون أشعة الشمس وطعنات عين الحسود، قرى متناثرة على شاطئ النيل تعلن أن ليلة العرس قد بدأت، تغطس الشمس تماماً خلف جبال الشط الغربي تسحب وراءها في هدوء الشفق الأحمر المنعكس على أطراف أسطح الدور وشواشي الشجر والنخيل الرشيق، رجال ونساء وأطفال أكثرهم على الحمير والبعض مشاة والقليل على الجمال الشاهقة.
الوقت بداية الفيضان، آجمات من نبات الحلفا تشكلت من كثافتها في هيئات مخيفة، مركب يكاد يطير مع تيار النيل المتدفق شمالاً، النساء الجالسات على ظهور المراكب يرسلن الزغاريد من وسط النيل، أقلية من الرجال والشباب الصغير تفرقت جماعات في بيوت معينة والبعض منهم تظلل الأشجار المتطرفة والبعض افترش الرمال الناعمة اللامعة على بعد نسبي بحيث يخفيهم الظلام ولا يخيفهم، يدخنون البانجو ويشربون العرقي.
أربعة رجال سود شداد في رشاقة النخيل، أصولهم أفريقية جنوبية واضحة في يد كل منهم دف رحب مشدود ساخن الجلد، الرجال في جلاليب وعمائم بيضاء والنساء يرتدين الأثواب السودانية حريرية فضفاضة بألوان الطيف الفاقعة، الجبال من بعيد تبدو كخيالات لدنة تثاقلت فارتاحت على الأرض.
أدغال النخيل وأشجار السنط والكافور، أشجار البرتقال والليمون وكروم العنب، كلها في غموض مستحب غافلة في نعاس يحرسها النيل الطويل، نصف القمر ينحدر من برجه، برودة خفيفة محببة هبطت على الناس كغلالات رقيقة تمسح عرقهم وتهدئ الأجساد.
يتصاعد صوت المؤذن من المئذنة الصغيرة حلواً ينساب مع تنفس الفجر الرطب، الرجال يغطسون في النيل رغم خطورته فيستحمون ويتوضؤون، نصف القمر يتوارى بلونه الشاحب، نور ما بعد الفجر ينساب من لا مكان ينعش بنسماته الرطبة كل المكان”.

حجاج أدول

هذه الصور التعبيرية ذات التفاصيل العذبة ألتقطها من قصة (غزلية القمر) للكاتب النوبي المصري حجاج أدول، ألتقطها وأنمنمها كسيناريو بديع يحتفي بتفاصيل المكان والزمان دون أن أتقيد بمواضعها في نسيج هذه القصة كمدخل يعلن عن قدرة هذا الكاتب على تفجير اللغة، وعلى امتصاصها الدرامي لهذه المشاهد ذات الخصوصية.
الكاتب المسرحي والقصصي حجاج أدول صدرت له هذه الكتب: (ليالي المسك العتيقة) مجموعة قصصية، (بكات الدم) مجموعة قصصية، (ثنائية الكشر) رواية، (ناس النهر) مسرحية، (النزلاية) مسرحية، (النوبة تتنفس تحت الماء) آراء وحوارات.

“إلى مطرب أهرامات الكرمل
وجنادل النيل الستة
إلى فنان أفريقيا الأبنوسية
والخمرية
إلى عاشق شعوبها والمحبوب منهم
الفنان محمد وردي
حباً وتقديراً”

هكذا أهدى الكاتب القصصي والمسرحي النوبي المصري حجاج أدول مجموعته القصصية الموسومة بـ (غزلية القمر) إلى الفنان الموسيقار محمد وردي، صدرت هذه المجموعة في العام 1996م عن دار الحضارة للنشر. وهذا الكتاب القصصي يضم ثلاث قصص طويلة، الأولى بعنوان (هوجة أم حلمة .. من وحي مصر العثمانية)، هكذا كتب حجاج أدول مانحاً هذه القصة هذه المرجعية التاريخية. أما القصتان فهما من وحي بلاد النوبة، القصة الثانية بعنوان (زواج هجلة ميرغني)، والقصة الثالثة بعنوان (غزلية القمر). غلاف الكتاب والرسوم الداخلية للفنان التشكيلي المتميز حسان علي أحمد والذي تزينت بلوحاته العديد من الإصدارات السودانية في الداخل والخارج.
يصف الأديب الروائي المصري محمد مستجاب لغة حجاج أدول بأنها “لغة تتوهج بالانفعال والخشونة والمرونة، تحمل الوجد والحزن والحب والأغنيات بصفتها وسيلة جمالية تضيء شعاب النوبة القديمة”.
أما الدكتور محمود الربيعي فيصف السرد عند حجاج أدول بأنه “حين يسرد يخيل إليك أحياناً أنه يجدل ديباجة من الحرير، ويخيل إليك أحياناً أخرى أنه يحكي مباشرة من أفواه الناس. وهو حين يصف يخيل إليك أحياناً أنه يحمل كاميرا يتنقل على سطح المناظر بطريقة أفقية متلاحقة، ويخيل إليك أحياناً أخرى أنه مبحر في التيارات السفلية تيارات الشعور، يفحص الأصداف واللآلئ في بطء من خلال مجهر مضيء”.

الكاتب حجاج أدول لصيق بالثقافة السودانية، متابع لتجلياتها الإبداعية المختلفة، لاسيما أنه ينتمي إلى عوالم النوبة، وهي عوالم مشتركة التفاصيل بين مصر والسودان. حجاج أدول يحتفي بهذا الانتماء من خلال كتاباته وأحلامه الثقافية والفنية، روايته (ثنائية الكشر) وجدت بين سطورها مقطعاً من أغنية الراحل المقيم مصطفى سيد أحمد (عم عبدالرحيم والموت مرتين) للشاعر محمد الحسن سالم حميد.
في الإسكندرية حيث يقيم هذا الكاتب وعلى شارع (النبي دانيال)، يتواجد هناك المركز أو النادي النوبي حيث تعقد ندوة أسبوعية ثقافية. استضافتني هذه الندوة ومعي الصديق الشاعر والكاتب المسرحي خطاب حسن أحمد، والموضوع مشروع مصطفى سيد أحمد الغنائي. كان ذلك في صيف 1997م، هناك وجدتني في عالم يخصني، شباب من المصريين يرددون أغنيات مصطفى سيد أحمد، يسألون عن قصائد بعينها.
هناك تعرفت على حجاج أدول الذي هو أحد أعمدة هذا المنتدي الأسبوعي، الشاعر الإسكندراني خالد حجازي سمعت أنه هاجر خارج مصر، كتب مرثية لمصطفى سيد أحمد وأعلن أنه يحبه أكثر منا جميعاً.
محافل السودان الثقافية في القاهرة يداوم حجاج أدول على حضورها، وآخرها حيث التقيت به هناك في (ندوة الثقافة والتنمية) التي أقامها مركز الدراسات السودانية بدار الأوبرا في القاهرة. مسرحيته (ناس النهر) من إخراج الأستاذ ناصر عبد المنعم تمثل مصر في مهرجان القاهرة التجريبي الدولي، وتعرض قبل ذلك على مسرح الطليعة وبين ممثليها الأخت مهجة عبد الرحمن التي زاملتني في قسم المسرح في السنة الأولى ثم عادت إلى مصر وشاركت في عدد من الأفلام، أهمها فيلم (البيه البواب) للممثل المتميز الراحل المقيم أحمد زكي.

(غزلية القمر)، القصة التي حملت اسمها هذه المجموعة تحتفي في تفاصيلها بالفنان محمد وردي، فهو شخصية محورية في هذه القصة التي تتنوع تفاصيلها من خلال حفلة عرس في إحدى قرى النوبة (الجزيرة).

“المركب تتهادي، تأكدوا أنها مركب وردي، رنات الطنبورة بارعة، إنها طنبورة منيب رفيق وردي. اقتربت المركب فبانت عمامة وردي فوق العمائم، فوردي هو الطويل النحيل. وثب إلى البر فأخذوه بالأحضان، امتطوا المطايا وأسرعوا فرساناً إلى الساحة المنيرة.
هللت الأصوات وجلجلت له زغاريد النساء والأبكار( للي للي للي للي )، ثم صاح الجمع بالصلاة على المصطفى (صلاة عليك يا مهمد). ينطلق خلفها الدوي الحي للبارود من البنادق ذات الروحين (ديي ديي ديي ديي …..”.

نثر الكاتب حجاج أدول بحرفية عالية شخصياته القصصية من خلال هذا الاحتفال، وتتمركز هذه القصة على أغنية (القمر بوبا). وينثر الكاتب أيضاً كلمات هذه الأغنية في جسد القصة التي أخذت عنوانها من الأغنية نفسها (غزلية القمر بوبا).
دعوني أنقل مدخل الكاتب لهذه القصة.

“واي أنا المرضان من عصر
جابولي حكيم من مصر
قاللي يا زول مرضك كتر
سببه كان أم شلاخاً خدر”

مطرب النوبة المبدع محمد وردي بأغنيته الساحرة (القمر بوبا) يزيد الشباب اشتعالاً وشبقاً، يجنن الصبايا ويخبل الصبيات. وكلما نبح الدم الساخن في الصبي غنى معه هذه الأغنية، وكلما سخن الحشا في جوف الصبية غنت معه نفس الأغنية.

“القمر بوبا على التقيل
بوبا عليك عليك تقيل
القمر بوبا”

الآباء والأمهات يأكلهم القلق، يلومون وردي. أما كفانا متاعب شمسنا؟ مبكراً تسخن خلايا أولادنا فتأتي إلينا أنت لتحك الكبريت في أبدانهم المولولة، فيتقلبوا مثل كيزان الذرة التي تشوى على الجمر الأحمر المشتعل، سامحك الله
يا وردي يا ابن فلانة.

(يا وردي يا ابن فلانة)، هذه الجملة فيها حميمية نوبية صافية، وقد تضرب في تاريخ بعيد من حيث إن عادة ما يسمى الذكور بأسماء أمهاتهم. عادة قديمة يبدو أن وراءها تلك المكانة التي كانت تجدها المرأة في المجتمع النوبي، ودوننا الحاكمات الكنداكات. وفي هذه القصة (غزلية القمر) نجد أن شخصيات أساسية يتم تعريفها باسم الأم مثل (سليم نفيسة)، و(بكري زهرة )، و( شريف جراكوسة).
يوظف الكاتب وردي وأغنيته (القمر بوبا) في نسيج هذه القصة المحتشدة بالتفاصيل الاحتفالية، وأغنية (القمر بوبا) أظن أنها من تراث الشايقية أعاد صياغة كلماتها الشاعر الراحل إسماعيل حسن ويغنيها بعذوبته المألوفة الفنان محمد وردي.
يقول الكاتب في سياق القصة:
“ولما بزغ نجم المطرب المبدع محمد وردي وغنى أغنية التراث العتيقة القمر بوبا مجدداً فيها مضيفاً على فنها من فنه وصوته، غنتها معه بلاد النوبة كلها سودانية ومصرية”.

“الصغيرون أم الجنا
يا كريم ربي تسلما
تبعد الشر من حلتا
جيد لي أمها الولدتا
الفي جبل عرفات وضعتا
تسلم البطن الجابتا
دي ترباية حبوبتا
الصفار سابق خضرتا
معذورة أمها كان دستا
وهلاك الناس كان شافتا
معذباني أنا ود حلتا
يا قمر بوبا”

أذكر في العام 1984م، وفي عمارات النصر بمدينة الجيزة في القاهرة؛ كنت أشاهد سهرة بعنوان (نجم على الهواء) مع الممثل المصري صاحب الأدوار المعقدة محيي إسماعيل. كان يتحدث عن تأثيرات فنية عليه في زمن الطفولة، فذكر هذه الأغنية (القمر بوبا) وقال: “هي أغنية للفنان النوبي محمد وردي”.
عرفت وقتها أن الأغنية يمكنها أن تفعل ما تعجز عنه الكثير من نظريات التواصل.
على كل، هذا هو الكاتب حجاج أدول يحتفي بهذا الفنان العظيم من خلال قصته (غزلية القمر).

“يا وردي أنت الموهوب المحبوب تغني لنا مرة بلسان النوبة، لسان عشائر الفيجكات والمتوكين وقبائل السكوت والمحس، ومرة بلسان العرب لغة الضاد. فأنت يا وردي وردة نبتت على ضفاف النوبة الأربع ضفاف النيلين الأبيض والأزرق.
طرحت عبقاً مع رقرقة النهر على حواف جزائر المجرى الرزين، فاح عطرها على القرى عند التقاء النيلين في المقرن وجزيرة توتي، وأخذت لكنتها الطرية الطيبة في حلفا وأرجيم، فطرحت على العلالي, في قصر أبريم , سمت مع شموخ قرية أبي سمبل التي جمعت بالذهبية النوبية نبرة تاري، وتهادت على سهول توماس والمالكي، وتسكرت بنخيل عنيبة، وتعطرت بكروم ونجوع الجنينة وأمبركاب. تضمخت من ورود سو- هيل و جندل سو – وين، فاحلوت بحلاوة اسم قريتي توشكا وأدندان وحتى مقامات صوتك الصعبة من مقامات جنادل وسط النيل القوية المبللة.
حلقت يا وردي في سماء صفانا يلاحقك منيب عاشق الطنبورة، ويسرع خلفك منير الولد النحبل النجيب”.
هي تلك العذوبة النوبية بين الفنان محمد وردي والكاتب حجاج أدول، أعرف أن هذا الفنان المبدع محمد وردي له مقام آخر غير فن الغناء لدى أهالي النوبة. فهو شاعر عظيم وكبير من شعراء هذه اللغة، اللغة النوبية. أذكر أنني وبصلاتي مع مثقفين نوبيين مصريين عرفت أن الفنان الموسيقار العظيم محمد عثمان وردي شاعر نوبي كبير، ويعتبر حسب قول الكاتب حجاج أدول من الشعراء النوبيين الذين حافظوا على ذاكرة اللغة النوبية.
وفي جلسة جمعتني بوردي في منزله بالمعادي جوار مركز سيد درويش، قلت له:
“يا أستاذ، أنا عرفت إنك من شعراء اللغة النوبية المهمين جداً. فياريت لو اترجمت قصائدك النوبية للعربي عشان نحن نعرفك في الجانب المهم ده”.

فاستعان علي وردي بتهكميته المعروفة وقال لي: “طيب النوبة عارفين. إنت مالك؟”. لم أكتف بتهكمية وردي، لكنني ظللت أحرض مركز الدراسات النوبية في القاهرة على ترجمة أشعار الشاعر النوبي محمد عثمان وردي إلى العربية, وليته أنجز هذا الفعل الثقافي المهم وذلك تكثيفاً لاهتمام المركز باللغة النوبية، لاسيما أن الشعر هو ذاكرة اللغة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى