ملخص كتاب الباحث الفرنسي فيليب برينو : العبقرية والجنون في الرسم والموسيقى والأدب
هل يمكن تفسير الأزمات الهلوسية التي كان يمرّ بها رامبو عندما كتب رائعتيه : فصل في الجحيم، والإشراقات؟ وما سرّ الحالات العُصابية-الاكتئابية التي كان يمرّ بها غوته من وقت لآخر ؟ والقلق الهائل الذي كان يعاني منه كيركيغارد او كافكا او ريلكه ما معناه؟ وما رأيكم بولع كوليردج او بودلير او كوكتو بالمخدّرات؟ وما تفسير ذلك الطيش أو الانفعالات المزاجية الغريبة لميكيل أنجيلو؟ وكيف نفسّر الميول الانتحارية لدى غوغان وفان غوخ وفيرجينيا وولف وآخرين عديدين؟ وانهيار عقل نيتشه وهو في أوج إبداعه وعبقريته هل له من تعليل؟ وماذا عن جنون غي دو موباسان وهو في ذروة شبابه وعطائه أيضا؟ وقل الأمر ذاته عن الشيزوفرينيا الهائلة لانطونان آرتو، أو الاكتئاب النفسي العميق لبيتهوفين وبيساوا وفتغنشتاين…؟ وماذا عن الهذيانات الرائعة لجان جاك روسو؟ أو نوبات الصرع المرعبة لدوستيوفسكي؟ الخ،الخ..
يمكن أن نطيل إلى ما لانهاية هذه اللائحة الخطيرة التي تشمل عشرات الكتاب والفنانين والفلاسفة والرسامين. وقد آن الأوان لفتح هذا الملفّ الحسّاس جدّا. فمن الواضح أنّ العبقرية لدى هذه الشخصيات الاستثنائية تجاورت مع الجنون. ومن الواضح أيضا أنّ النشوة الإبداعية للخلاقين الكبار تختلط أحيانا بالاكتئاب النفسيّ والحزن العميق.
في هذا الكتاب يستعرض الباحث الفرنسي فيليب برينو قدر هذه الشخصيات الكبرى ويطرح السؤال المركزي التالي : هل يستمدّ الإبداع غذاءه أو نسغه دائما من الجنون الداخلي والعذاب الكبير؟ وهل تمرّ العبقرية بالضرورة بمراحل من الإحباط النفسي أو الاكتئاب العميق الذي لا تفسير له؟ بمعنى آخر : هل ضريبتها غالية الثمن إلى مثل هذا الحدّ؟ وفي هذه الحالة ألا ينبغي أن نحسد أنفسنا على أننا لسنا عباقرة؟ ومتى سيتوصّل الطب النفسي إلى إضاءة مجاهيل الإبداع وسرّ العبقرية؟
ولكن هل سيتوصّل يوما ما؟ الكثيرون يشكّون في ذلك، ويعتقدون بأنّ العبقرية هي سرّ الأسرار وإذا ما اكتشف سرّها بطل مفعولها أو بطلت أن تكون عبقرية. إنّها المجهول الأعظم والخط الأحمر الذي لا ينبغي أن يقترب منه أحد. فالعباقرة هم وحدهم الذين يشتركون مع الخالق في صفة واحدة : متعة الخلق وكيمياء الإبداع :
(نشارك الله، جلّ الله، قدرته
ولا نضيق بها خلقا وإتقانا
(بدوي الجبل)
حول كلّ هذه التساؤلات وسواها يتمحور هذا الكتاب الممتع المليء بالطرائف والغرائب وكذلك التحليلات المعمّقة عن حياة المبدعين الكبار.
مؤلفه : فيليب برينو كاتب وطبيب نفسانيّ وأستاذ في جامعة السوربون. باريس الخامسة.
يقول لنا الكتاب ما معناه : معظم العباقرة يعانون من اضطرابات نفسية حادّة، وأحياناً ينتقلون من النقيض إلى النقيض دون أيّ تمهيد أو سابق إنذار. أحياناً تجيئهم لحظات إبداعية خرقة فيرتفعون إلى أعلى علّيين، وأحياناً يغطسون في نوع من الإعياء العصبيّ أو الاكتئاب النفسيّ الذي لا تفسير له فينزلون إلى أسفل سافلين. نضرب على ذلك مثلا الشاعر الفرنسي جيرار دو نيرفال الذي كان يكتب روائعه الخالدة بين إقامتين في مستشفى المجانين أو المصحّ العقلي لكي نكون أكثر تهذيباً. وكان مرضه من نوع هذيان الهوس والكآبة العميقة. أي أحياناً تزداد حماسته وتتهيّج طاقاته الإبداعية، وأحياناً أخرى تنطفئ فينقبض ويكتئب ويصبح عاجزاً عن كتابة حرف واحد أو التواصل مع أيّ شخص. وهذا ما يدعى بالجنون الدوريّ، أي الجنون الذي يجيء من وقت لآخر، وبحسب فصول السنة أو شهورها. ثمّ انفجر جنونه بشكل كامل بعد عودته من رحلة إلى إيطاليا وبلجيكا. ودخل في نوع من الهذيان الصوفيّ الممزوج بالباطنية مزجاً خفيفاً. وتحوّل إلى عالم روحانيات أو مُناجٍ للأرواح : أي أصبح يسمع أصواتاً آتية من العالم الآخر. بعدئذ تحوّل هذيانه إلى نوع من جنون العظمة. وراح يعتقد أنّه من نسل أباطرة الرومان، وأنّ له قصوراً في الريف الفرنسي، هو الذي كان لا يمتلك حتى سقيفة يأوي إليها في باريس (كان يسكن عند عمّته). ورغم هذيانه وجنونه، إلا أنّه استطاع أن يكتب في أواخر حياته قصة رائعة ومرعبة في الوقت ذاته هي : أوريليا. وقد تحدّث فيها عن جنونه، ونزوله إلى الطبقات السفلية للجحيم، والعذاب النفسي الذي لا يطاق. ولكنه تحدث أيضا عن الرؤيا الخارقة التي رآها في المنام حيث تجلّت له أوريليا كأجمل ما تكون وقالت له بأنّها تحبّه وهدّأت من روعه وجنونه. إنّها رواية خيالية شعرية يختلط فيها الواقع بما فوق الواقع والعالم الأرضيّ بما وراءه. وذلك لأنّه لا توجد قطيعة ما بين العالمين على عكس ما نتوهّم. هناك جسور أو علاقات سرية خفية تصل بين العالم المرئي والعالم اللامرئي الذي يكمن مباشرة خلفه. ومن هذا العالم الآخر كانت أوريليا تتجلّى له وتناديه بكلّ لهفة ومحبة قائلة : “أنا أمّك، أنا كلّ النساء اللواتي أحببتهنّ على مدار حياتك..فلا تخف. نحن معك”. وربّما كانت أوريليا مريم العذراء ذاتها. لقد كان جيرار دونيرفال إنساناً طيّباً، ولا ريب في أنّه من أصفى وأنقى الأصوات التي عرفها الشعر الفرنسي على مدار تاريخه كله. ولكنه كان مفجوعاً ككلّ الناس الحساسين الذين يعيشون تناقضاً داخلياً متفاقماً لا يمكن حلُّه.
في الماضي كان الناس يعتقدون بأنّ الجنون موجود كله في جهة، والعقل في جهة أخرى. ولا يمكن أن تكون هناك أيّ علاقة اختلاطية بينهما. فالإنسان العاقل –ناهيك عن العبقري- لا يمكن أن يعرف أي لحظة من لحظات الجنون. ولكن الطبّ الحديث اكتشف أنّ العبقرية ليست إلا أحد تجلّيات الجنون. أو قل إنّ العبقرية تقع في جهة التطرّف، مثلها في ذلك مثل الجنون. وبالتالي فمن العبث أن نطلب من الشخص العبقري أن يكون طبيعياً أو عادياً أو معتدلاً كبقية البشر. لكأنّنا عندئذ نقتل عبقريته أو نعتدي على أعزّ ما فيه : أي شذوذه، غرابته، خروجه على المألوف. من المعلوم أنّ ميشيل فوكو كان يردّد هذه العبارة وهو يبتسم : طوّروا غرابتكم الذاتية أيها الأصدقاء! غذّوا جنونكم الخاص ولا تخجلوا منه! كونوا من أنتم! حتى ولو كره الكارهون..لا تبالوا بالقيل والقال وأحكام المجتمع الامتثالي الضيق الصغير..فإذا ما خضعتم له في كلّ شاردة وواردة فإنّكم لن تبدعوا شيئا..
أيا يكن من أمر فالجميع مقتنعون على القول بأن العبقري شخص ممسوس: أي مسكون داخلياً من قبل شيطان أو هوس أو وسواس معيّن. فالكاتب الفرنسي المشهور ستندال يقول إنّ العبقريّ شخص مهووسٌ بأفكاره ومعذَّبٌ بها. ولهذا السبب فهو بحاجة إلى أن يمسك بالقلم ويعبر عن نفسه أكثر من غيره. وبالتالي فعندما تقرأ كاتباً ما ينبغي أن تتساءل : ما الشيء الذي يحرّكه؟ ما النابض الداخلي الذي يدفعه دفعا إلى الكتابة؟ لماذا لا يسكت؟
ويرى فيليب برينو الطبيب النفساني والعالم الأنتروبولوجي أنّ الاكتئاب النفسيّ صفة مرافقة لجميع المبدعين الكبار. فالإنسان الذي لا يعاني من أيّ عقدة نفسية أو من أيّ جرح داخلي ليس بحاجة لأن يكون كاتبا أو عبقرياً. فمثلاً نابليون كان قصيراً أكثر من اللزوم. وقد أراد التعويض عن ذلك ببطولاته في ساح الوغى وبانتصاراته المشهورة. ومن المعلوم أن أفلاطون وأرسطو وابيقور وموزار وسبينوزا وبلزاك كانوا قصيري القامة أيضاً. أمّا بروست وشوبان فكانت صحّتهما هشة، فعوّضا عن ذلك بالكتابة الإبداعية وبالموسيقى الرائعة. وكلّ عبقري يعاني من عقدة معيّنة. قد تختلف هذه العقدة من عبقريّ إلى آخر ولكنهم جميعاً مصابون بشيء ما. بيتهوفن كان أطرش. ويمكن القول بأنّ المعري نبغ لأنه كان أعمى، وكذلك طه حسين. كلّ ذي عاهة جبّار! وهذه العقدة تجرح كرامتهم الشخصية أو نرجسيتهم، فيحاولون التفوّق بشكل صارخ في مجال ما للتغطية عليها. يحاولون الانتقام لكرامتهم الجريحة. وهذا هو التفسير الذي يقدّمه التحليل النفسي عموما لسرّ الإبداع.
وهناك ملاحظة أخرى هي أنّ معظم العباقرة يبقون عزّاباً ولا يتزوجون. من المعلوم أنّ نيتشه كان يقول : الفيلسوف المتزوّج شخص مضحك ! الفيلسوف الحقيقيّ يتزوّج شيئا واحدا في حياته : فلسفته، حريته، عبقريته. هذا لا يمنعه بالطبع من أن تكون له علاقات غرامية من وقت لآخر ولكن خارج نطاق الزواج والعادات المملّة والاعتقال. نضرب عليهم مثلاً الأسماء الشهيرة التالية : ديكارت، لايبنتز، مالبرانش، كانط، شوبنهاور، سبينوزا، ميكيل آنجيلو، نيوتن، ليونارد دي فانتشي، فولتير، شاتوبريان، بيتهوفين، الخ…كلهم كانوا عزّابا. ولكن هناك استثناءات كبيرة أيضاً من أمثال هيغل، ماركس، فرويد…فأحيانا يساعد الزواج والاستقرار على تفتّح العبقرية. ويبدو أنّ العبقري يكون مهووساً بإبداعه إلى درجة أنّه ينسى نفسه، وينسى أن يتزوّج أو ينجب الأطفال. والواقع أنّ مؤلفاته هي أطفاله، ويحرض عليها حرص المرأة على طفلها…انه “يحبل” بها تماما كما تحبل المرأة بالطفل. وبالتالي فلا يستطيع أن ينجب مرّتين! أو أن يهتمّ بأسرتين وعائلتين. يكفي أن ينجب مرّة واحدة. فأزهار الشرّ لبودلير أهمّ من ألف إنجاب. لماذا؟ لأنّ جميع الناس يستطيعون أن ينجبوا الأطفال، ولكنّهم ليسوا بقادرين على كتابة أزهار الشرّ… كان بودلير يحبّ الاستفزاز وتحدّي العالم الخارجي من حوله باستمرار. وكل ذلك ناتج عن الشروخات العميقة التي أصيب بها في حياته. فلم يحصل على الاعتراف الكبير بشعره وموهبته في البداية ولا حتى في النهاية. شهرته انفجرت بعد موته، كالقنبلة الموقوتة، تماما كنيتشه. وظل تابعاً من الناحية المادية لأمّه التي كانت تعطيه الفلوس أو لا تعطيه بحسب رغبتها. وكانت تعامله كطفل حتى بعد أن أصبح رجلاً وتجاوز الثلاثين أو الأربعين. فقد اعتبروه قاصراً وغير قادر على تدبير أموره بنفسه، ولذلك وضعوا وصياً عليه. وكان ذلك يمثّل إهانة كبيرة وجرحاً لشخصيته. يضاف إلى ذلك زواج أمّه من شخص آخر بعد موت والده بفترة قصيرة. وهذه هي الضربة الأخطر التي لم يقم منها طيلة حياته. ولم يستطع أن يغفر لأمّه تلك الخيانة الكبرى. ولذلك راح يحتقر المجتمع والعلاقات السائدة ويغوص أكثر فأكثر في الهامشية، والتسكع، وتعاطي المخدرات، والشراب، والتردّد على العاهرات في شارع موفتار بباريس حيث أصيب بمرض الزهري القاتل…لم تعد له ثقة بالحياة ولا بنظام الأشياء. وعن هذه الهامشية المعذّبة السوداء والنزول إلى الأعماق السفلية نتج ديوان الحداثة الأوروبية : أزهار الشرّ. يحصل ذلك كما لو أنّ الحياة السعيدة والنجاح في المجتمع هما عدوّا الفنّ. ينبغي أن تحترق احتراقا لكي تستطيع أن تكتب صفحة واحدة لها معنى…
هل يتصل العبقري بعالم آخر غير الذي نعرفه؟ هل يتواصل مع أصوات غريبة أو يرى أشياء ما ورائية لا نراها نحن الناس العاديين؟ البعض يعتقد ذلك. فقد أثبت الطبيب النفساني “لولوت” Lelut في دراسة مشهورة بعنوان “شيطان سقراط” أن الرجل كان يسمع أصواتاً تناديه من دون أن يرى أحداً. ولذا كان يمرّ أحياناً بحالات هذيانية أو هوسية حقيقية. وكان يقول بأنه يسمع صوتاً داخلياً في نفسه، وهو الذي يمنعه من ارتكاب الأفعال السيئة. وهذا يعني أنّ الوازع الضميري لديه كان قوياً جداً، مما يدلّ على عظمته الأخلاقية. ليس غريباً أن يكون قد استحال عليه التراجع عما يعتقد أنّه الحقّ وقبل بتجرّع السمّ الزعاف دفاعاً عن الحقيقة. وهكذا ضرب المثل الأعلى على التضحية في سبيل الموقف الفكري. وهذه صفة غير موجودة إلا عند الكبار أو كبار الكبار من أمثال المسيح أو محمّد أو لوثر أو جان جاك روسو..والواقع أنّ الطبيب النفساني الشهير جان ايتيان ايسكيرول قد برهن في دراسة مهمّة على اشتراك محمد ولوثر وكاتون وباسكال وجان جاك روسو بنفس التركيبة النفسية، أو بنفس الهمّ الداخلي الذي فجّر في أعماقهم نار العبقرية.
وهناك ميزة أخرى للعباقرة عن بقية البشر هي : الحدس بالأشياء مسبقا، أو الإرهاص بها قبل أن تحصل. إنهم يمتلكون رادارا داخليا كشافا للمجاهيل وغياهب الظلمات. وهي خاصية لا يتملكها إلا الأنبياء والعباقرة الكبار من أمثال جان جاك روسو الذي تنبأ بالثورة الفرنسية قبل أن تحصل في نص واضح تماما ومدهش.
ويرى أديب ألمانيا الأكبر غوته أنّ الأعمال الاستثنائية التي ينجزها العباقرة ناتجة عن شخصيات هشّة من الناحية النفسية. وهذه الهشاشة النفسية أو أحياناً الجسدية تتيح لهم أن يحسّوا بمشاعر نادرة لا يعرفها بقية البشر. من هنا أهمية العصاب أو المرض النفسي. فله جوانب إيجابية وليس فقط سلبية. كما تتيح لهم أن يسمعوا الأصوات السماوية. ولكنّ هذه التركيبة النفسية الهشّة للشخص العبقري يمكن أن تُعكَّر أو تُجْرح بسهولة عندما تصطدم بالعالم الخارجي. كما تخضع لحالة مرضية –أو اهتزازية- دائمة. وقد اعترف غوته أكثر من مرّة بأنه مصاب نفسيا وذو ميول انتحارية قوية. ولكنه عالجها عن طريق الإبداع وجعل أبطال رواياته أو مسرحياته هم الذين ينتحرون وليس هو. انظر روايته : آلام فرتر شابا. وهذا يؤكد صحة نظرية فرويد القائلة بأنّ الإبداع العبقري هو علاج للحالات المتفاقمة أو للشخصيات المأزومة. لنستمع إلى عبارته الشهيرة عن دوستيوفسكي. أنقل بشكل تقريبي ومن الذاكرة : في ديستيوفسكي الشخص أو الإنسان يمكن أن تجد كلّ علل الأرض. ولكن أمام دوستيوفسكي المبدع الفنان لا تملك إلا ان تلقي سلاحك وتنحني!
وكان العالم النفساني الفرنسي جان دولي Jean Delay قد ألَّف كتاباً بعنوان: العُصاب والإبداع. وركّز دراسته على ثلاثة عباقرة هم : نيتشه، دوستيوفسكي، فلوبير. واستنتج أنّ الأزمة الداخلية الحادة التي مرّوا بها هي سبب إبداعهم. ولكنّ كلّ واحد ركّز على النقطة التي تهمّه. فبما أن نيتشه كان يعاني من ضعف جسدي وهشاشة مرضية وحساسية زائدة عن اللزوم فإنّه ركز على إرادة القوة والعظمة : أي على كلّ ما ينقصه في الواقع. أمّا دوستيوفسكي فكان مصاباً بعصاب خاص أو بعقدة نفسية معينة هي الإحساس الزائد عن الحدّ بالخطيئة والذنب. وكل ذلك بسبب قسوة والده عليه أثناء طفولته. ثمّ بسبب كرهه له لأنه كان يعذّب أمه. وقد وصل حقده عليه إلى درجة أنّه اشتهى موته في سرّه. ولذلك فعندما سمع بخبر مقتله على يد أحد العبيد المستخدمين شعر وكأنه هو المسؤول عن قتله. من هنا إحساسه بعقدة الذنب الرهيبة التي ظلّت تلاحقه. وكان أن ركّز في رواياته على موضوعات من نوع : الخضوع، الحقد، الانتقام، الغفران، الجريمة، العقاب… أمّا فلوبير فقد وجد حلاً لعصابه النفسي وانسحابه من العالم عن طريق الارتماء في أحضان الأدب والخيال الخلاق. فالأدب أصبح دينه وديدنه. وفي محرابه كان يتعبّد وينتج الروائع الأدبية.
إن الاختلال النفسي للشخصية هو الذي يجعل من المبدع شخصاً فاشلا في المجتمع وناجحاً على صعيد آخر. والواقع أنّ المبدعين الكبار هم أشخاص لا-امتثاليّين في معظم الأحيان، أي يشذّون عن القاعدة العامة للمجتمع، ويزعجون الوضع القائم. كان جان جينيه يقول : الطريف هو أني لا أستطيع أن أكتب بشكل جيّد إلا في السجن ! ومعلوم أنّه شذّ عن التيار العام للغرب المتعجرف عندما انتصر للحقّ وأيّد بقوة القضية الفلسطينية. أستثني هنا، من بين آخرين، شخصية عظيمة هي : الجنرال ديغول.
إن عدم القدرة على التأقلم مع المجتمع تدفع بالمبدع إلى تأكيد نفسه على صعيد آخر أو التفوق في مجال محدد من اجل التعويض عن النقص الفاجع الذي يشعر به ويسبب له أزمة داخلية حقيقية. على هذا النحو أصبح كافكا روائياً كبيراً، وبيتهوفن موسيقاراً لا مثيل له ونيتشه فيلسوفاً شديد العمق. كان اللورد بايرون وميكيل آنجيلو شخصين مريضين نفسياً وعاجزين عن التأقلم مع الحياة الاجتماعية. ولكن هذا لم يمنعهما من أن يصبحا مبدعين كبيرين، بل ربما كان هو الدافع إلى ذلك. فحياة بايرون الجنسية كانت مليئة بالفضائح التي أثارت عليه سخط المجتمع الإنجليزي المحافظ في عهد الملكة فيكتوريا. ولكنّه كان رغم ذلك مدافعاً عن الفقراء والمظلومين، وأحد كبار المتغنّين بالحرية. ثمّ سقط في عزّ الشباب وهو يدافع عن الحرية في بلاد اليونان..
في الواقع أن العبقري المبدع يحرص أولاً وقبل كلّ شيء على حريته الخاصة وكسر القيود التي تعترض أفكاره الانقلابية أو الثورية. أمّا ميكيل آنجيلو فكان يتمتّع على ما يبدو بشخصية قوية وميل للاستقلالية. وبما أنه كان عبقرياً فإننا نقبل منه تصرفات ما كنا نقبلها من غيره. فقد كان مغرورا، كارهاً للناس، عنيفاً، حسوداً، ميالاً للشجار والنزاع، ممزّقاً من الداخل. ولكنه كان أيضاً متواضعاً وكريماً. فكيف استطاع أن يجمع بين كل هذه المتناقضات؟ ولم يكن يقبل أي تلميذ موهوب لديه. وعندما كان يرسم فإنّه لم يكن يستطيع تحمّل حضور أيّ شخص في المكان حتى ولو كان البابا شخصياً…كان يريد أن يتفرغ كليا لإبداعه. في الواقع إنّ العقد النفسية قد تكون الحافز على الإبداع، ولكنها قد توقفه إذا ما كانت تدميرية أكثر من اللزوم. وكثيراً ما شهدنا أناساً موهوبين في البداية وواعدين، ولكنّ عقدهم النفسية قضت عليهم في نهاية المطاف. فتوقفوا عن العطاء. وهذا يعني أنّ العقدة النفسية سلاح ذو حدين : فإمّا أن تفتك بك فتكا ذريعا وتقتلك، وإما تنقلب على نفسها وتجعل منك عبقريا..
مشكور على هدا الموضوع الشيق والهام