الرأي

(مقال قراءة منهجية لكتاب (نظام التفاهة) للفيلسوف الكندي المعاصر ألان دونو “اعاده نشر”)

د. صبري محمد خليل* 

تنببيه: تم نشر هذا المقال فى الكثير من المواقع السودانية والعربية عام 2016. وهو محفوظ فى موقعى الرسمى (الموقع الرسمى للدكتور صبرى محمد خليل– دراسات ومقالات-) . وخلال هذه الفترة قام البعض بالنقل منه دون الاشارة اليه كمصدر. مع توظيفه – بعد تحريفه طبعا- للهجوم على اشخاص او مؤسسات او حتى نظم معينة، لخدمة اهداف خاصة او شخصي او حزبية… للناقل.لذا رايت اعادة نشره، حتى يتضح للقراء ان المقال يمثل قراءة منهجية ” معينة “للكتاب، تقدم تفسير ” معين” لما ورد فى الكتاب، مضمون هذا التفسير محاولة بيان الاسباب “الموضوعية” الكامنة وراء شيوع نظام التفاهة فى العالم. وبالتالى لا صلة له باى ربط “ذاتى” له باشخاص او افراد او هيئات او نظم…. معينة، لخدمة اغراض شخصية ” غير موضوعية “، لانه ربط بعيد كل البعد عن التحليل الاكاديمى– العلمى ” الموضوعى”. دون انكار حق الاخرين فى تقديم قراءة مغايرة للكتاب- منهجية او غير منهجية، ذاتيةاو موضوعية- بشرط توافر الامانة العلمية– والتى تتضمن الاشارة الى المصادر المنقول منها –

تعريف بالكتاب: “نظام التفاهة” (Mediocratie) هو كتاب صدر لأستاذ الفلسفة والعلوم السياسية الكندي ألان دونو، وسنعرض أولا للفكرة الاساسية للكتاب، استنادا إلى التلخيص الشامل والوافي لها ، والذي قدمه الأستاذ/ جان عزيز، ثم نقدم قراءة منهجية لهذه الفكرة.

سيطرة التافهون على العالم: يؤكد ألان دونو أن التافهين قد حسموا المعركة، من دون اجتياح الباستيل (إشارة إلى الثورة الفرنسية)، ولا حريق الرايخشتاغ ” البرلمان الالمانى ” (إشارة إلى صعود هتلر في ألمانيا)، ولا رصاصة واحدة من معركة «الفجر» (إشارة إلى المعركة الأسطورية بين بونتا و براكمار)، ربح التافهون الحرب، وسيطروا على عالمنا وباتوا يحكمونه.

حلول القابلية للتعليب محل التفكير العميق: ويعطي ألان دونو نصيحة فجّة لناس هذا العصر- من باب السخرية- (لا لزوم لهذه الكتب المعقدة. لا تكن فخوراً ولا روحانياً. فهذا يظهرك متكبراً. لا تقدم أي فكرة جيدة.

فستكون عرضة للنقد. لا تحمل نظرة ثاقبة، وسع مقلتيك، أرخ شفتيك، فكر بميوعة- اى مرونة وقابلية للتشكل- وكن كذلك. عليك أن تكون قابلاً للتعليب. لقد تغير الزمن. فالتافهون قد أمسكوا بالسلطة).

أسباب سيطرة التافهون على العالم: وحين يسأل عن أسباب هذا التحول، يعيد ذلك إلى عاملين اثنين، في السوسيولوجي والاقتصاد، كما في السياسة والشأن العام الدولي.

السبب الأول: تغير مفهوم العمل (تنميط العمل تشييئه): السبب الأول يعزوه دونو إلى تغير مفهوم العمل في المجتمعات. يقول إن «المهنة» صارت «وظيفة». صار شاغلها يتعامل معها كوسيلة للبقاء لا غير. يمكن أن تعمل عشر ساعات يومياً على وضع قطعة في سيارة، وأنت لا تجيد إصلاح عطل بسيط في سيارتك. يمكن أن تنتج غذاء لا تقدر على شرائه. أو تبيع كتباً ومجلات وأنت لا تقرأ منها سطراً. انحدر مفهوم العمل إلى «المتوسط». وصار أشخاصه «متوسطين»، بالمعنى السلبي للكلمة. صار العمل مجرد أنماط. شيء ما من رؤيوية شابلن في «الأزمنة الحديثة» أو فريتز لانغ في رائعة « مترو بوليس ».

السبب الثاني: السياسة(حكم التكنوقراط واستبدال الارادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية): السبب الثاني مرتبط وفق دونو بعالم السياسة ومجال الدولة والشأن العام. هنا بدأت سيطرة التافهين يقول، أو ولدت جذور حكم التفاهة مع عهد مارغريت تاتشر. يقول انه يومها جاء التكنوقراط إلى الحكم. استبدلوا السياسة بمفهوم «الحوكمة»، واستبدلوا الإرادة الشعبية بمفهوم «المقبولية المجتمعية»، والمواطن بمقولة «الشريك». في النهاية صار الشأن العام تقنية «إدارة»، لا منظومة قيم ومثل ومبادئ ومفاهيم عليا.

وصارت الدولة مجرد شركة خاصة. صارت المصلحة العامة مفهوماً مغلوطاً لمجموع المصالح الخاصة للأفراد. وصار السياسي تلك الصورة السخيفة لمجرد الناشط اللوبي لمصلحة «زمرته».

قاعدة النجاح أن «تلعب اللعبة»: يقول ألان دونو انه في ظل نظام التافهين تحول النجاح “أن تعلب لعبه: من هذين المنطلقين، تنميط العمل وتسليعه وتشييئه، وتفريغ السياسة والشأن العام، صارت التفاهة نظاماً كاملاً على مستوى العالم. وصارت قاعدة النجاح فيها أن «تلعب اللعبة». حتى المفردة معبرة جداً وذات دلالة. لم يعد الأمر شأناً إنسانياً ولا مسألة بشرية. هي مجرد «لعبة». حتى أن العبارة نفسها راجت في كل لغات عالم.

التفاهة: «أن تلعب اللعبة». وهي قاعدة غير مكتوبة ولا نص لها. لكن يعرفها الجميع: انتماء أعمى إلى جسم ما، يقوم على شكليات السهرات والغداءات والانتقامات. بعدها يصير الجسم فاسداً بشكل بنيوي قاطع. حتى أنه ينسى علة وجوده ومبادئ تأسيسه ولماذا كان أصلاً ولأية أهداف…

الخبير أفضل تجسيد لنظام التفاهة: يقول دونو ان الخبير أفضل تجسيد لنظام التفاهة، صورة «الخبير» هو ممثل «السلطة»، المستعد لبيع عقله لها. في مقابل «المثقف»، الذي يحمل الالتزام تجاه قيم ومثل. جامعات اليوم، التي تموّلها الشركات، صارت مصنعاً للخبراء، لا للمثقفين! حتى أن رئيس جامعة كبرى قال مرة ان «على العقول أن تتناسب مع حاجات الشركات». لا مكان للعقل النقدي ولا لحسه. أو كما قال رئيس إحدى الشبكات الإعلامية الغربية الضخمة، من أن وظيفته هي أن يبيع للمعلن، الجزء المتوفر من عقول مشاهديه المستهلكين. صار كل شيء، والأهم أن الإنسان صار لاكتفاء، أو حتى لإرضاء حاجات «السوق».

نظام فاشل بيئيا وظالم اجتماعيا: هكذا يرى دونو أنه تم خلق نظام حكم التافهين. نظام يضع ثمانين في المائة من أنظمة الأرض البيئية عرضة لأخطار نظام استهلاكهم. ويسمح لخمسين في المائة من خيرات كوكبنا بأن تكون حكراً على واحد في المائة من أثريائه. كل ذلك وفق نهج نزع السياسة عن الشأن العام وعن التزام الإنسان.

كيفية مواجهة نظام التافهين:

ا/ لا وصفة سحرية (استغلال الحرب على الإرهاب): وفى الاجابة على السؤال: كيف يمكن مواجهة نظام التافهين؟ يقول دونو: ما من وصفة سحرية.

الحرب على الإرهاب أدت خدمة لنظام التافهين. جعلت الشعوب تستسلم لإرادات مجموعات، أو حتى لأشخاص، كأنهم يملكون عناية فوقية. بدل أن تكون تلك الحرب فرصة لتستعيد الشعوب قرارها. إنه خطر «ثورة تخديرية» جديدة، غرضها تركيز حكم التفاهة.

ب/ مقاومة التجربة والإغراء واعادة معاني الكلمات إلى المفاهيم والتلازم بين الفكر والعمل: المطلوب أن نقاوم التجربة والإغراء وكل ما لا يشدنا إلى فوق. ألا نترك لغة الإدارة الفارغة تقودنا. بل المفاهيم الكبرى. أن نعيد معاني الكلمات إلى مفاهيم مثل المواطنة، الشعب، النزاع، الجدال، الحقوق الجمعية، الخدمة العامة والقطاع العام والخير العام…

وأن نعيد التلازم بين أن نفكر وأن نعمل. فلا فصل بينهما. الأساس أن نقاوم (جان عزيز: سياسة /العدد ٢٧٩٣/ الخميس ٢١ كانون الثاني ٢٠١٦- موقع الإخبار).

قراءة منهجية:

نظام التافهين هو مرحلة من مراحل تطور النظام الاقتتصادى الراسمالى: من العرض السابق يتضح لنا أن نظام التافهين وسيطرة التافهين على العالم هو مرحله من مراحل تطور النظام الاقتصادي الراسمالى كانت بدايتها عهد مارغريت تاتشر– رئيسة وزراء بريطانيا عن حزب المحافظين–وتميزت هذه المرحلة من مراحل النظام الراسمالى بحكم التكنوقراط واستبدال الارادة الشعبية بالمقبولية الاجتماعية وتنميط العمل تشييئه. ومن هذا التحليل يتضح لنا أن نظام التافهين ولد في الدول الغربية الراسماليه، ،ولكن يمكن أن نستخلص منه انه يشمل أيضا الدول النامية ودول العلم الثالث، التي تطبق النظام الاقتصادي الراسمالى تحت شعارات: الانفتاح الاقتصادي، الإصلاح الاقتصادي، الخصخصة، التحرير الاقتصادي، الليبرالية الجديدة… فهو نظام عالمي يشمل الدول المتقدمة والنامية على حد سواء.

موقف الراسمالية السلبي من الضوابط الاخلاقية للسوق سبب رئيسي لنظام

التافهين: وفيما يتعلق بأسباب ارتباط نظام التافهين بالنظام الراسمالى نرى أن السبب الاساسى هو موقف النظام الاقتصادي الراسمالى السلبي من الضوابط الاخلاقية والقانونية للسوق، فالراسمالية قائمة كنظام اقتصادي ليبرالي استنادا إلى فكرة القانون الطبيعي- على أن مصلحة المجتمع ككل ستتحقق حتما، من خلال محاولة كل فرد تحقيق مصالحه الخاصة، اى دون تدخل الدولة كممثل للمجتمع، وطبقا لهذا فان الموقف الليبرالي– الراسمالى من ضوابط السوق قائم– على المستوى النظري- على عدم فرض اى ضوابط أخلاقية أو قانونية على السوق، اتكالا على أن ثمة قانون طبيعي بنظم تلك السوق، ويحملها على وجه يجعلها تؤدى وظيفتها تلقائيا، فالنظام الاقتصادي الراسمالى يجعل الغاية من النشاط الاقتصادي هي الربح ومزيد من الربح، ولا يهتم كثيرا بأخلاقية او عدم أخلاقية الوسائل، ومن هنا يتيح هذا النظام الاقتصادي لمن لا يلتزمون بالقيم الاخلاقية في النشاط الاقتصادي، أمكانية التقدم، أكثر من غيرهم ممن يحاولون الالتزام بالقيم الاخلاقية في النشاط الاقتصادي. وفى ظل هذا النظام الاقتصادي تصبح الانانية والطمع والخداع “النصب والاحتيال” قيم ايجابية. هذا فضلا عن أن هذا النظام الاقتصادي يتيح لقلة من الرأسماليين السيطرة على الاقتصاد، ومن ثم السيطرة على الإعلام وتزييف الارادة الشعبية. غير انه يجب تقرير انه على المستوى التطبيقي اثبت واقع المجتمعات الراسمالية الغربية ذاته خطاْ هذا الموقف الراسمالى السلبي من الضوابط القانونية والاخلاقية للسوق، إذ قبل أن ينتهي القرن التاسع عشر حتى كانت ضرورة وضع ضوابط أخلاقية وقانونية مسلمة في كل المجتمعات الغربية، وان اختلفت في حدود هذه الضوابط ومداها، ذلك أن المنافسة الحرة في النظام الاقتصادي الراسمالى في المجتمعات الغربية قضت على حرية المنافسة لتنتهي إلى الاحتكار، اى أن التجربة أثبتت أن ترك كل فرد يفعل ما يشاء سينتهي إلى أن لا يستطيع الاغلبية فعل ما يريدون.

ارتباط نظام التافهين بالاستبداد: وتحليل ألان دون على موضوعيته لم يشير إلى ارتباط “نظام التافهين” بالاستبداد والنظم الاستبداية، فالاستبداد هو انفراد الحاكم بالسلطة دون الشعب، من خلال عدة أساليب- غير اخلاقية- أهمها تزييف الارادة الشعبية، لذا تلازمه ظاهرة النفاق، الذي يمكن تعريفه- منهجيا- بأنه: تزييف الواقع الاجتماعي ومشكلاته: بالكذب في الإخبار عن المعرفة بهذه المشاكل، وتزوير الحلول الممكنة لهذه المشاكل ،بالكذب في الأخبار عن الآراء التي تتضمن حلول هذه المشاكل، وإرباك العمل الاجتماعي، بالكذب في الأخبار عن المقدرة على العمل. ففي ظل الاستبداد يتقدم المنافقين، ويدعم هذا التقدم أن الانظمة الاستبدادية تستند إلى قاعدة الولاء وليس الكفاءة، والنفاق صفة مميزة لنظام التافهين، وقد أورد الإمام المناوى في معرض تفسيره للحديث النبوى ( إن أخوف ما أخاف على أمتي كلّ منافق عليم اللسان) ( أخرجه أحمد :1/22).. تعريفا ل”المنافق عليم اللسان”يقارب وصف ألن دونو للخبير كممثل للسلطة، مستعد لبيع عقله لها، حيث يقول (قوله: “عليم اللسان” أي: كثير علم اللسان، جاهل القلب والعمل، اتخذ العلم حرفة يتأكّل بها، ذا هيبة وأُبّهة، يتعزّز ويتعاظم بها، يدعو الناس إلى الله، ويفرّ هو منه، ويستقبح عيبَ غيره، ويفعل ما هو أقبح منه، ويظهر للناس التنسّكَ والتعبّد، ويسارر ربّه بالعظائم، إذا خلا به ذئب من الذئاب لكن عليه ثياب، فهذا هو الذي حذّر منه الشارع صلى الله عليه وسلم هنا حذرا من أن يخطفك بحلاوة لسانه، ويحرقك بنار عصيانه، ويقتلك بنتن باطنه وجنانه) ( فيض القدير :2/419) الاشارة إلى نظام التافهين في المنظور التنبؤي الاسلامى: وفيما نرى فقد وردت الاشارة إلى نظام التافهين في المنظور التنبؤي الاسلامى- من باب التحذير منه- في النصوص التي تتحدث عن”السنون الخداعة” التي” يصدق فيهن الكاذب ويكذب فيهن الصادق”والتي ينطق فيها”الرويبضة: اى الرجل التافه يتكلم في أمر العامة، كما في الحديث: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خَدَّاعَةٌ، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الأَمِينُ ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ ) ( رواه الحاكم في المستدرك : 4/465) ّ . قيلَ : يَا رَسُولَ اللهِ :

وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ ( المَرْؤُ التَّافِهُ يَتَكَلَّمُ فِي أَمْرِ العَامَّةِ)، وَقال الإمام ألشاطبي: قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التافه الحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ العَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ العَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ .

الاعتصام (2/ 681)، كما وردت الاشارة إلى نظام التافهين في المنظور التنبؤي الاسلامى في النصوص التي تتحدث عن اماره السفهاء وحكم المنافقين: فعن جابر بن عبد الله(رضي الله عنه) أن النبي (صلى الله عليه وسلم)| قال لكعب بن عجرة (أعاذك الله يا كعب من إمارة السفهاء) قال وما امارة السفهاء يا رسول الله، قال (أمراء يكونوا بعدي، لا يهتدون بهديي ولا يستنون بسنتي، فمن صدقهم بكذبهم، وأعانهم على ظلمهم فأولئك ليسوا مني ولست منهم، ولا يردون على حوضي. ومن لم يصدقهم بكذبهم، ولم يعنهم على ظلمهم، فأولئك مني وأنا منهم، و يردون على حوضي…) (رواه احمد والبزار) وقال الرسول (صلى الله عليه وسلم) ( لا تقوم الساعة حتى يقود كل قبيلة منافقوها) (رواه الطبراني )

حتمية انهيار” نظام التافهين”في المنظور التنبؤي الاسلامى: بالاضافه إلى اشاره المنظور التنبؤي الاسلامى ” لنظام التافهين ” من باب التحذير منه فقد أشار أيضا إلى حتمية انهياره:

أولا:حتمية مجيء الحق وزهوق الباطل: حيث وردت الاشاره إلي حتمية انهياره في معرض الاشارة إلى حتمية مجيء الحق وزهوق الباطل، وكون الزبد يذهب جفاء، أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كما فى قوله تعالى: (وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾ (الإسراء:81)، وقوله تعالى (كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ (17:الرعد).

ثانيا: حتمية زوال الاستبداد:كما وردت الاشارة إلى حتمية انهيار”نظام التافهين”، في معرض الاشاره إلى حتمية زوال الاستبداد – الذي يرتبط ب”نظام التافهين بتعبير ألان دونو” في قوله تعالى (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ )، ف”النزع الالهى للملك” المشار إليه في الاية يتضمن الاشارة إلى حتمية زوال الاستبداد. و مضمون قاعدة “الايتاء والنزع الالهى للملك”، التي تتضمنها الاية، إسناد السلطة المطلقة لله تعالى- على وجه الانفراد، بينما مضمون الاستبداد إسناد السلطة المطلقة لسوي الله تعالى (الحاكم)، فهو شكل من أشكال الشرك الاعتقادى (الذي حكمه حكم الكفر) أو العملي (الذي حكمه حكم المعصية). وتشير الاية (فحشر فنادي فقال أَنَا رَبّكُمْ الْأَعْلَى فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ َالْأُولَى) إلى أن للاستبداد- كشرك اعتقادي- جزاء دنيوي (نكال الأولى)، ويتضمن نزع الملك كما تشير الاية “قلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ “– كما تشير الاية إلى ان للاستبداد جزاء أخرى (نكال الاخرة) وهو عذاب القبر وعذاب النار كما تشير الاية ” النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ )(غافر 46″ ، يقول القرطبي في تفسير قوله تعالى (َفأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى)(… وَقِيلَ : نَكَال الْأُولَى: هُوَ أَنْ أُغْرِقَهُ، وَنَكَال الْآخِرَة : الْعَذَاب فِي الْآخِرَة .(غير ان الفارق بين الاستبداد كشرك اعتقادي والاستبداد كشرك عملي، لا يكمن فى كون للأول جزاء دنيوي خلافا للثاني- فهما يشتركان في الجزاء الدنيوى- الذي يتضمن نزع الملك- كما تشير الاية ( تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ )- لكن يكمن فى درجه الجزاء الاخروى، فجزاء الأول هو جزاء الكافر وجزاء الثاني هو جزاء العاصي.

ثالثا: حتمية انهيار النظام الراسمالى كشكل من أشكال امارة المترفين:

كما وردت الاشارة إلى حتمية انهيار”نظام التافهين”، في معرض الاشارة إلى حتمية انهيار النظام الراسمالى كشكل من أشكال امارة المترفين- حيث ان تحليل ألان دونو ينتهي إلى أن “نظام التافهين” هو مرحلة من مراحل هذا النظام الراسمالى. فقد تنبأ القران الكريم بتدمير الله تعالى لأمارة المترفين في قوله تعالى (وإذا أردنا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا۟ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًۭا ) ( الإسراء: 16). وقد اختلف المفسرون في معنى أمرنا مترفيها: فقال بعضهم أمرنا مترفيها امرأ قدريا، وقال بعضهم أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا فيها بمعصية الله، وقال آخرون جعلنا مترفيها أمراء ففسقوا فيها وفيما نرى فانه لا تعارض بين هذه المعاني فيجوز الجمع بينها. ففي كل الأحوال فان امارة المترفين هي شكل من أشكال ثنائية الاستكبار/ الاستضعاف الاقتصادي- السياسي، الناتج من إسناد ”

الربوبية ” الفعل المطلق”، وصفاتها ” من ملكية وحاكمية… لغير الله تعالى، وبناءا على هذا فان المترفين في هذه الاية ليسوا الذين يمتلكون المال فقط، بل الذين يمتلكون المال، ويعملون على الإبقاء على الواقع القائم على ثنائية الاستكبار/ الاستضعاف، ومعارضة تغييره إلى الاستخلاف، ورد في تفسير ابن كثير (“إِلا قال مترفوها” وهم أولو النعمة والحشمة والثروة والرياسة، قال قتادة: هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر). ومن أشكال أماره المترفين، و التي تأخذ بالتالي حكمه، في حتمية خضوعه للتدمير الالهى، النظام الاقتصادي الراسمالى الربوى، والذي قانونه الاساسى المنافسة الحرة على الموارد، والبقاء للأقوى، والذي يستند إلى فلسفة طبيعية، ومنهج قائم على القانون الطبيعي الذي مضمونه ” ان مصلحة المجتمع ككل تتحقق حتما من خلال سعي كل فرد لتحقيق مصلحته الخاصة ”، وهو جزء من نظام متكامل علماني في موقفه ومن الدين، ديموقراطى ليبرالي في موقفه من الدولة، فردى في موقفه من الأخلاق …” لان هذا النظام يستند الى فلسفه تسند ملكيه المال ” وكذا الحاكميه والتشريع ” للإنسان _ الفرد. والأزمات المالية العالمية المتعاقبة، هي مؤشرات على انهيار النظام الاقتصاد الراسمالى، على المستويين النظري والعملي، فهي بذلك تأكيد على صحة النبؤة القرانية الواردة بخصوص التدمير الالهى لامارة المترفين.

*أستاذ فلسفة القيم الاسلامية في جامعه الخرطوم

[email protected]

*منقول- سودانايل

– النسخة الاصلية للمقال محفوظة فى المواقع التالية:

1/ الموقع الرسمي للدكتور/ صبري محمد خليل خيري | دراسات ومقالات

https://drsabrikhalil.wordpress.com

2/ د. صبري محمد خليل ( Google Sites )

https://sites.google.com/site/sabriymkh

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى