الرأي

مفهوم العدالة الإنتقالية وأهميتها للإنتقال الديمُقراطي الحقيقي..

نضال عبدالوهاب
من الثابت أن تغيير فقط ضمادات الجروح وترك الصديد والتقيحات والإلتهاب لن يُبرئ ويشفي الجروح بل ستتفاقم وتزداد المُعاناة…
هذا هو تماماً ما يتم الآن وفقاً للإتفاق الإطارئ ومفهوم العدالة الإنتقالية فيه، والتي لن تتحقق في وجود ذات المُجرمين والقتلة ضمن الإتفاق مع إعطاءهم حق الإفلات من العقاب والحصانات بل ووجودهم في السُلطة وبصلاحيات دستورية للإشراف على بعض عمليات الإصلاح المؤسسي والقانوني والأمني، والتي هي من شروط تحقيق العدالة الإنتقالية والإنتقال الديمُقراطي الحقيقي والسليم…
مفهوم العدالة الإنتقالية ينبني على إنصاف الضحايا وتعافي المجتمع… وهذا يتطلب أولاً تقصي الحقائق وكشفها والإعتراف بها ثم التقاضي، مروراً بإصلاح المؤسسات العدلية والقانونية ونصوص القوانين وتضمينها في الدستور، مع المعالجات المصاحبة لها في التعويضات وجبر الضرر وإعطاء المزايا لأهل الضحايا وصولاً للتعافي في المجتمع الممهد للمصالحة وإنتقال جديد لمرحلة لا يتم فيها تكرار ذات الجرائم والفظائع والإنتهاكات وهذا هو ببساطة مفهوم العدالة الإنتقالية وتحقيقها…
مرّ السُودان وعبر جميع سنوات الحُكم فيه بدرجات كبيرة للإنتهاكات في حقوق الإنسان وفي الجرائم والفظائع سواء في منطاق النزاعات والحرب أو في حالات الأنتهاك المباشر ووقوع ضحايا بالقتل والتعذيب والإغتصابات والإعتقال والإختفاء القسري وغيرها من إنتهاكات وجرائم تمت…
مع الإعتراف أن أكبر فترة حُكم شهدت إنتهاكات وجرائم ضد الإنسانية وحقوق الإنسان كانت في عهد نظام الإسلاميين والبشير الذي قامت ضده ثورة ديسمبر كما هو معلوم وإقتلعته من الحُكم مع بقاء تأثير للنظام لا يزال موجوداً في جهاز ومؤسسات الدولة، خاصة في الجانب الذي تتحق منه العدالة في القضاء والنيابة والأجهزة الأمنية الشرطية والنظامية، نفس النظام قد صنع المليشيات التي هي أيضاً أصبح لها تاريخ وسجل إجرامي وإنتهاكات موثقة ومعروفة… ما بين الثورة وبداية المرحلة الإنتقالية التي تم قطع الطريق عليها بواسطة إنقلاب ٢٥ أُكتوبر أيضاً تواصلت الجرائم والإنتهاكات وإرتفع عدد الضحايا ماقبل جريمة فض الإعتصام وبعدها وصولاً للإنقلاب وماحدث بعده في وجود ذات المجموعة العسكرية التي هي في السُلطة والتي هي إمتداد لنظام البشير ولجنته الأمنية…
كُل هذه الجرائم والإنتهاكات والفظائع سواء عن طريق الحرب والنزاعات في دارفور وجبال النوبة وجنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق، أو التي تمت في الخرطوم وبقية المُدن السُودانية وخلفت ضحايا تحتاج لإعمال مبدأ العدالة وتحقيق مفهوم العدالة الإنتقالية، معظم هذه الجرائم تمت بواسطة نظام لا يزال رموزه أحياء وموجودين ويمكن مقاضاتهم ومحاكمتهم بالمسؤليات التي تولوها، وبعضهم أيضاً لا يزال موجوداً بل وتم تضمينهم في الإتفاق الإطارئ مُتمثل في الأطراف العسكرية منه، عدد من القوانين التي كرست للقتل وأعطت الحصانات وتوجيه القتل ثم الإفلات من العقاب لا تزال موجودة، المؤسسات التي تنفذ وتتحقق بها العدالة والموروثة من النظام السابق ومن منسوبيه أيضاً لا تزال بغير إصلاح ولا يمكن أن تنفذ أو تتحقق بها العدالة… ثم الأهم الآن أن العملية السياسية نفسها والإتفاق الإطارئ بأطرافه وبنوده لا تتحقق فيه هذه العدالة… مسألة حصر العدالة الإنتقالية في المسؤلية الجنائية الفردية لبعض الأشخاص أو منسوبي القوات النظامية لا تتحق به العدالة الإنتقالية، وكذلك محاولة القفز على العدالة بمفهوم المصالحات التي لا تقوم على تقصي الحقائق ولا الإعتراف بالجرائم والمقاضاة ثم مرحلة العفو المباشر لأهل الضحايا لن تكون حتى هي مصالحة صحيحة… فهنالك حقوق لا يتم التغافل عنها وخطوات لا يتم كذلك غيابها لتحقيق العدالة والتعافي للمجتمع…
للمجتمع الدولي كذلك دور في تحقيق العدالة الإنتقالية لما له من آليات ولصالح القوانين الدولية وأسس العدالة الصحيحة، وهنالك العديد من التجارب التي أسهم المجتمع الدولي والأمم المتحدة والمحاكم الجنائية الدولية ساعدت في تحقيق العدالة وتقديم المُجرمين لها وإدانتهم فيها، خاصة ما يتعلق بالجرائم ضد الإنسانية والفظائع التي يرتكبها مُجرموا الحرب خاصةً في حال عدم توفر هذه العدالة ومحاكمها وقوانيها محلياً….
إذاً مع الإقرار بأهمية العدالة الإنتقالية وضرورة تحقيقها لصالح مستقبل خالي من تكرار الأخطاء ومن تعافي حقيقي وسلام وإستقرار وديمُقراطية من المهم عدم “كلفتة” هذا المبدأ المهم أو تشويهه، ونرى أن ما يتم الآن بما تسمى “العملية السياسية” في وجود ذات القتلة كأطراف أساسين فيه بل وتحصينهم وإعطاءهم حقوق للإشراف على الإصلاح العدلي والأمني والقانوني والمؤسسي وللجيش الذي هو أيضاً له إسهام ودور كبير في هذه الإنتهاكات مع المليشيات وخاصة مليشيا “الدعم السريع” فلن تتحقق أي عدالة وسيتم إجهاض العدالة الإنتقالية وتسويفها وتشويهها والنتيجة تشويه للتجربة الديمُقراطية وعدم حقيقيتها وسلامتها…

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى