معتقدات الإنسان الديمقراطي..هابرماس والمسألة الدينية..ترجمة : محمّد صدّام..بقلم: ميكائيل فوسيل
ترجمة : محمّد صدّام..
بقلم: ميكائيل فوسيل..
غالبا ما تولي فلسفات التنوير الاهتمام للبعد الديني على مضض. وأوّل موقف تتخذه فعلا، هو تحييد العقائد باسم منطق الاكتفاء الذاتي حيث لا يكون أمر الرجوع إلى الله ضروريا، لا لمعرفة الطبيعة ولا للقيام بأفعال. ليس هناك غير معضلات جديدة تشجّع هذه الفلسفات، في مرحلة ثانية، على تملك الرموز الدينية. وتجرى هاتان العمليتان عند كانط، ضمن منظور نقدي واحد. إنه نقد سلبي بقدر ما هو ينكر على الديانات غرور ادعاءاتها بأنها تحتل مقام الأساس. غير أن هذا النقد يصبح إيجابيا منذ اللحظة التي تقتضي فيها معقولية بعض الأحداث (بالنسبة إلى كانط “الشر الجذري”) استخدام رموز لم ينتجها العقل، لكنه قادر على إدراكها. إنّ ما يستعصى عن التفسير يمكن توضيحه لربما انطلاقا من الموارد السردية والرمزية الموجودة في أديان أهل الكتاب. “السقوط”، “الهداية”، “الفداء” أو “النعمة”، إنها كلها مواضيع أو قضايا مسيحية، طالما اعتبرناها خارج الإيمان الذي يحملها، تستطيع أن تقرّب ما سوف يبقى دوما لغزا محيّرا للعقل: الأصل الطليق للشر وإمكانية الرد عليه.(1)
يصبح الانعطاف نحو الدين، في العقلانية الحديثة، ضرورة إذن بعد انتهاء الحفل، أي يصبح لا مفر منه عندما تلاحظ الأنوار بعض أوجه القصور في مسيرة العلمنة. “الوعي بما هو مفقود” هو بالضبط عنوان إحدى الدراسات الحديثة التي كرّسها يورغن هابرماس على الدين(2). وفي إطار نظرية إجرائية مثل تلك التي يعتمدها هابرماس، من الضروري تحييد تعريفات “الحياة الجيّدة”، التي تكون دوما جزئية ومعنية، من أجل وضع معايير لحوار يقام على أساس مبادئ العدالة. ومع ذلك، فغالبا ما تكون هذه التعريفات ذات منشأ ديني، بحيث يأتي الإيمان أوّلا وكأنه عقبة في طريق التواصل. غير أن الرؤى الدينية للعالم تأخذ بُعدا وجوديّا (لنسميه بُعد “الكليّة”) يغيب دائما عن الأخلاقيات التعددية. إن عدم التكافؤ بين الفلسفة الليبرالية والأديان يعطي أفضلية لهذه الأخيرة لأن لغتها هي لغة الأمل والأداء والمواساة. وهكذا، يزيح الخطاب الديني التجريد الحداثي عن الحياة الجيّدة باسم غائية أعلى للوجود اضطر الفكر الليبرالي للتخلي عنها. وهابرماس نفسه لا يمكنه التملّص من القاعدة التي يصبح بموجبها الدين من جديد رهانا عندما تعاني الفلسفة الحديثة من قيودها الخاصة. وليس من قبيل المصادفة أن أفكاره حول الديني تأخذ مكانا ضمن مؤلف هو أيضا مكرّس لنقد “اَلْمَذْهَب اَلطَّبِيعِيّ”. وهذا المذهب يشير إلى شكل من أشكال العقل يختزل الكائن الموجود فيما نستطيع أن نعرفه عنه ويختزل ما يمكننا معرفته فيما نحذق توظيفه. كان هابرماس يعارض دائما “خروج قطار الحداثة عن السكة”، المتجلّي في القدرة الكلية للتقنية على استخدامٍ مختلف للعقل، استخدام ليس وظيفيا بل هو تواصلي. كل شيء يحدث وكأن “إلغاء المعرفة لإفساح مجال للاعتقاد” (كما يقول كانط) مثّل أيضا وسيلة كي نتجنب اختزال العقل في عمليات الحساب. وسنرى حسب أي منطق غير متوقع تتعاون معا بعض الجوانب من الأديان، حسب رأيه، في هذا المجهود لإقرار تعددية استخدامات العقل.
ولكن هذا الاهتمام الجديد يرجع أساسا إلى حكم أكثر تشاؤما حول العالم المعاصر. وإذا لم يكن هابرماس قد أعاد استثمار الديني انطلاقا من”الشر الجذري”، فإن وعيه المتزايد حدّة بمآزق الحاضر هو الذي حفّز بالتأكيد هذا الاهتمام المتجدد. منذ سنوات قليلة، قام هابرماس بتشخيص قاتم للغرب، بسبب صعود التطرف الديني واحتلال معايير السوق لقواعد الحياة الديمقراطية بالخصوص. غير أن هاتين الظاهرتين ليستا متعاصرتين فحسب بل تشكلان منظومة، لأن تجذّر الانفعالات الدينية يتغذى في كثير من الأحيان من خيبة الأمل تجاه عدم وفاء الحداثة الليبرالية بوعودها. إن إضعاف المؤسسات الاجتماعية ذات الصلة بدولة الرفاهة، لصالح الضرورات الإدارية الدقيقة، يخلق الإحباط ومطالب التضامن التي يتم التعبير عنها بشكل طبيعي بواسطة اللغة الدينية. وتنقص العقل الإجرائي “إبداعية لغة تفتح على العالم وتعمل، انطلاقا من مواردها الخاصة، على تجديد وعي معياري بصدد التلاشي من جميع الجهات”(3). وتكمن الصعوبة في حقيقة أن مطالب التضامن تهدد بأن تأخذ منحى معاديا للسياسة (أصولي)، ولهذا السبب يعمل هابرماس على إعادة إرجاع الطموحات الاجتماعية والرمزية المعاصرة إلى حضن الديمقراطية. ولتحقيق ذلك فهو يناضل من أجل قيام شكل جديد من أشكال الحوار بين الفلسفة والدين.
هذه المرافعة تتناقض مع الإصدار الأولي لنظرية «الفعل التواصلي« الذي يُخضع القيم (الطائفية والوجودية والدينية) للمعايير (العقلانية والتداولية)(4). ولنا أن نتساءل عن إلحاح هابرماس المفرط على نقاط ضعف العقل الديمقراطي، مُخاطرا بالتالي بإضفاء الشرعية على اتجاهات معادية للعلمانية(5). فإذا ما رُفعت المعتقدات الدينية حول ماهية “الحياة الطيّبة” إلى مرتبة الموارد السياسية، فأيّ ردّ يمكن تقديمه “للمدافعين عن الحياة” الذين، بخصوص قضايا الإجهاض أو الجنس على سبيل المثال، يتخذون مواقف غير ليبرالية متشددة؟ وتأتي المشكلة من أن ديمقراطية، واهنة تاريخيا، هي التي يجب أن تنفتح على القيم المطروحة من قبل المتدينين، إذ من الصعب معرفة إلى أي مدى يمكن لها استيعاب المعتقدات في الخير من دون التنكر لنفسها. وقد لوحظ في هذا السياق حتى استعمال لأفكار هابرماسية حول “ما بعد العلمانية” “postsécularisme” من قِبل اللاهوتيين الأمريكان المنتمين لمدرسة إصلاح المعرفة الذين يدافعون عن علم إيماني وخلقي. ومنذ لحظة قبول القناعات الدينية تقديم نفسها علنا كمرجعيات بسيطة، أفلا يكسب بذلك الأصوليون أنفسهم مشروعية انتظار قيام العلماء بترجمة علومهم إلى مجرّد آراء (6)؟
في الصفحات الموالية، سنستجوب إلى حد ما محاولة انطلاق هابرماس من الوضع الحالي للديمقراطيات. إن الدافع وراء تجدد الاهتمام بالديني هو حدث لم يسبق له مثيل، ذلك أن الاقتران بين العمليات الاقتصادية الملغية للديمقراطية وصعود الأصوليات من كل الأديان يفسّر من هنا فصاعدا بروز العقلانية الغربية المعلمنة، التي ذكرها ماكس فيبر، كسبيل الاستثناء الحقيقي” (7). ويرجع تاريخ هذه النصوص لهابرماس إلى بداية سنوات 2000، في وقت كان فيه المحافظون الأمريكيون الجدد في السلطة وكانت فيه أوروبا الغربية تبدو وحيدة في الدفاع عن مقاربة علمانية للسياسة. ومنذ ذلك الحين، فإن نجاح الحركات الإنجيلية أو الإسلامية في العالم، وحضور الأطروحات الأنثروبولوجية في المناقشات العمومية، ولكن أيضا الوعي بالأزمة التي تميز كل الديمقراطيات الليبرالية، كل ذلك عزز الشعور بأننا قد نكون دخلنا عصر ما بعد العلمنة. هذا الاعتبار الذي يجمع في قلب الديمقراطيات بين صحوة الديني وبين العولمة، هو ما يجب اختباره.
أسس دولة القانون
باستحضار “الوعي بما هو مفقود”، يحيل هابرماس إلى الحقوقي ارنست فولفغانغ بكينفارد Bëckenfërde الذي يعتبر أن دولة القانون تقوم على افتراضات معيارية قبلية هي ليست قادرة على تأسيسها ولا على كفالتها بمفرده(8). إذ قد يكون هناك، مُرسم في قلب الأنظمة الليبرالية، نقص في الشرعية لا يستطيع أي شكل من أشكال التمثيل القانوني المعروفة أن يتغلب عليه. ولأن القانون الوضعي يواجه تعددية القيم، فإنه يعكس فقط تثبيتا ظرفيّا لحالة الرأي العام هو موضع تساءل باستمرار. للتصدي لحالة عدم الاستقرار هذه، تستمرّ في الحداثة نظمُ تفسير دينية للعالم تستطيع بفضل اتساقها، المطالبة والظفر بمنزلة التأسيس. ومن حيث صلتها بـ”الكلية”، فإن بوسع الأديان الردّ عن “المفتقد” الذي تعاني منه الدول الدستورية بسبب عدم قدرتها على تحديد (معنى) الخير.
ويرفض هابرماس قطعيا حكما مخيّبا للظن كهذا. فحيادية دولة القانون (من حيث القيمة) ِوفق رأيه، وهذا لا يزال صحيحا في نصوصه الأخيرة عن الدين، لا بد من أن تلبّى من خلال النشاط الديمقراطي، وليس عن طريق اللجوء للمعتقدات الدينية. فإذا كان القانون الليبرالي يمتنع عن سنّ أحكام تتعلق بالصراعات الأخلاقية أو الدينية، فإن على الدستور الديمقراطي أن يستوفي عجز الشرعية الناتج عن حياد الدولة تجاه وجهات النظر المختلفة للعالم (9) “. لا يمكن للتوجهات الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية أن تتقرر فعلا على مستوى القانون الدستوري، بل هي تخضع للمداولات الجارية من جانب المواطنين. فبالإضافة إلى الاعتراف القانوني بتعددية القيم، هناك إذن مكان لما لا يتوانى هابرماس عن تسميته بـ”السلطة المؤسسة” التي يقرر الشعب عبرها (ولكن بشكل مؤقت) غايات يعتزم تحديدها للمجتمع. ليس من المؤكد كما سنرى ذلك في نهاية المطاف، أن يكون هابرماس قد استخلص كل ما يترتب عن هذا البعد التأسيسي للديمقراطية من نتائج. ولكن “الوطنية الدستورية” التي يدافع عنها لا تظل مقتصرة على القبول الشكلي لمبادئ مجردة. فالمواطنون ليسوا متلقين غير فعّالين للقانون، بل هم “مشرّعون مشاركون ديمقراطيون” لا ينتظر منهم أن يضعوا معتقداتهم ووجهات نظرهم للعالم تحت المكيال (10).
ليست لهذه المعتقدات والرؤى أية علاقة بما هو ديني على وجه التحديد. ويستشهد هابرماس، على سبيل المثال، بالسياسات التذكارية التي عززت توافقا ديمقراطيا حول القيم المرتبطة بحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية، في ألمانيا بالخصوص.
وليس من المستحيل في شيء، في ظل ظروف تاريخية محددة، أن يُنعش حدث ما، من قبيل فضيلة سياسية معلمنة، مجتمعات في مستوى ما قبل قانوني. بل يجب بالأحرى أن يكون عليها الرهان لتحقيق انخراط إيجابي للمواطنين في مبادئ دولة القانون. ومع ذلك، فليس من الثابت ألّا يزال هابرماس مقتنعا بجدوى مثل تلك الفضيلة الجمهورية العلمانية. وليس لذلك ارتباط بتطور فكره أكثر من أن يكون ذلك تحوّلا تاريخيا، لأن ركيزة القيم المنبثقة عن كوارث القرن العشرين قد تآكلت إلى حد كبير في العقود الأخيرة، بحيث أن الرهان على الذاكرة السياسية للشعوب لضمان احترام القانون أصبح يبدو أكثر إشكالية(11). وبهذا المعنى، كان هذا الإصرار على القيم الديمقراطية يُنسب في ما مضى إلى تشخيص الحقبة التاريخية بقدر ما كان ينسب على حد سواء إلى الفلسفة السياسية للدين. كان هابرماس واعيا بأن التوافق الأوروبي حول الديمقراطية المكتسب بعد الحرب العالمية الثانية يشكل قوسا تاريخيا بات مهدّدا اليوم بالانغلاق. إن ذكرى النازية مثل ذكرى الستالينية ترجعان إلى الذاكرة الإنسانية، التي هي بالتالي غير معصومة، وتقلّ قوّة إقناعها عن نظيراتها في الديانات الرئيسية. لهذا السبب نرى أن الفيلسوف يعتمد أيضا على أمثلة ناجحة من الترجمات بين الإيمان والعقل [مثل تلك التي تقرّ بوجود “إنسانية على صورة الله، منقولة (مجسمة) في الكرامة السوية والاحترام غير المشروط التي يستحقهما جميع البشر(12)] لتعزيز المعتقدات الديمقراطية في زمن فقدان الذاكرة السياسية. إن الوعي الديني بما هو منقوص هو كذلك وعي بما يثير الجور: لأن أفعال التنديد والسخط الديمقراطية تقوم على أساس الظلم المعاش.
لا يوجد شيء، حتى الآن، يطرح إعادة النظر في النموذج التواصلي للمذهب الجمهوري. في واقع الأمر، لا يجوز مسبقا أن نحجر على المعتقدات الدينية الوصول إلى ساحة الديمقراطية. فإذا كانت الوطنية الدستورية تقوم على أساس المعتقدات المتأصلة فإنها حتما تلتقي مع المعتقدات حول “الحياة الجيّدة” التي، شريطة اعتماد مبادئ دولة القانون، تنتمي إلى التبادل العقلاني المشروع.
ولأن هابرماس لا يريد بالتالي حمل المواطنين المؤمنين للوصول إلى حالة انفصام الشخصية فإنه يعترف بحقهم في تقديم قناعاتهم كوسائط. إن هذا يفترض التمييز بين مبدإ الحياد المؤسسي للدولة وبين المواقف العمومية للأفراد أو التنظيمات المدنية (بما في ذلك الكنائس). ففي نظر الفيلسوف لا تتطابق مرتبة القانون مع مرتبة التداول الديمقراطي إلا عبر “تعميم علماني غير ضروري” (والمقصود هنا في الغالب هو النموذج الجمهوري الفرنسي). وبحكم تمتعها فقط بقوة تأسيسية، فإن الديمقراطية تتقبل في إطارها مواقف ذاتية (حول معنى الحياة والمحظورات الأخلاقية وحتى الخلاص) لا يمكن تثبيت قيمتها عبر أساليب إجرائية محضة. وتختلط أصوات المؤمن والملحد في منطقة النزاع حيث تقدّم الحجج التي لا يمكن لها أن تدّعي أي سلطة، لا من الله و لا من الأغلبية. ولذلك يدعو هابرماس إلى بذل مجهود مزدوج من التنازل: من جانب الأديان بالتخلي عن “البديهيات” المعيارية التي يحتمي بها الإيمان، ومن جانب المواطنين اللاأدريين أو الملحدين بقبول ما يمكن أن تطرحه أحيانا متطلبات ضمير متموضع، كأسباب أو دوافع. لذلك، يجب فهم العلمنة كـ “عملية تدريب مزدوجة، بقدر ما هي تلزم تقاليد عصر التنوير فإنها تلزم على حد سواء المذاهب الدينية على التفكير في حدودها الخاصة” (13).
الاهتمام بـ”أوضاع الحياة البائسة”
ذلك أن اعتراف هابرماس بحق القناعات الدينية بإدراج حججها ضمن المداولات حول العدالة السياسية قد تم باسم “غاية ما بعد ميتافيزيقية”. فالتعارض التقليدي بين الإيمان والعقل لا يصحّ إلا إذا ما ادّعت هاتان الهيئتان لنفسهما إصدار معرفة حصرية حول الحقيقة. إلا أنه عندما يتخلّى إدراك عن المعرفة الميتافيزيقية فإنه يحجّر على نفسه البتّ في “الأشياء الأخيرة”. بهذا المعنى فإنه لا أدريّ، ويمكن له، دون الإخلال بنفسه، الإقرار بأن المعتقدات الدينية تحمل البعض من المضامين المعرفية. إن الحب والاستقامة الأخلاقية، ومستلزمات الحياة المشتركة أو حتى الأمل في الخلاص تشكل عناصر الحوار الديمقراطي على شرط عدم رفعها إلى مستويات المطلق (14).
يذهب هابرماس بعيدا جدا -هل إلى أقصى بُعد؟- في اعترافه بالكنائس ورفعها إلى مرتبة الشريك الديمقراطي الكامل. فحسب رأيه، “من مصلحة الدولة الدستورية أن تبدو متسامحة تجاه جميع المصادر الثقافية التي تغذّي الوعي المعياري والتضامن المدني”(15). وهذا يعني أن ليس هناك حدّ ثابت يقف دون امتلاك مجتمع ديمقراطي اليقينيات الدينية. فطالما ظلت هذه تساهم في تعزيز القوى الحافزة للعقل، فإنها تصبح من العناصر المكوّنة للفضاء العمومي. ويبدو أن هابرماس يعتبر أنه في حقبة ضعفت فيها الدوافع الاجتماعية المتصلة بالتضامن – مثل فعل الإحسان – ، يمكن أن يكون استخدام المعتقدات الدينية استبدالا مشروعا لها.
يجب أن نفهم جيّدا أن هذا اللطف المعلن تجاه الأديان هو مدفوع بـ”الرغبة في تعبئة العقل الحديث ضد الانهزامية الكامنة فيه”(16). ويلاحظ هابرماس لدى المذهب الطبيعي المعاصر، اختزالا للعقلانية في استخدامها الوظيفي تنجرّ عنه، في شكل علم “تحسين النسل الليبرالي” على سبيل المثال، عواقب سياسية وخيمة (17). وبالتالي، فهو قريب من الحكم اليائس الذي أصدره كل من أدورنو و هوركهايمر بخصوص “جدلية الأنوار”. وحيث أن تغطية البعد التحرري للفعل التواصلي الحديث قد تمّت من قبل قوى التقنية وعبر منطق الوسائل، فإن إعادة تقييم البؤر الدينية المقاوِمة لتوحيد العالم أصبحت ضرورية من جديد. وهنا تكمن كل المفارقة: فكلّما ازداد تشخيص الحاضر شدّة وتطرّفا سياسيا، كلّما أظهر -ذلك التشخيص- نوعا من التقارب مع الانتقادات الدينية لنفس ذلك الحاضر. فلقد أصبحت مزاملة العدو الظلامي للأنوار ممكنة وذلك منذ الحين الذي لم يعد فيه الأسوأ هو ما نخشاه خارج العقل، بل ما هو انحراف داخلي فيه (18).
وعلى صعيد الدوافع الديمقراطية، لا ينفصل إعادة تقييم الديني عن مجموعة من عمليات تكون أمامها “الحساسيات أقل تقبّلا للأمراض الاجتماعية، وللحياة المهدورة بشكل عام(19)”. ومن بين أسباب تآكل الروح الديمقراطية في الغرب، يستشهد هابرماس بطريقة معبّرة بالسياسات الليبرالية الجديدة المتوخاة على مدى السنوات الأربعين الماضية:
تقوم الأسواق التي لا يمكن في الواقع “دمقرطتها” على غرار المؤسسات الحكومية، بالمزيد من وظائف التعديل في مجال الحياة وهي وظائف كانت إلى حد الآن مشدودة التماسك إمّا عبر مسارات سياسية أو من خلال أشكال اتصالية ما قبل سياسية (20).
معاينة فشل الوعود الاجتماعية للليبرالية هو الذي يحفز الاعتبار الإيجابي للنماذج الدينية للعيش المشترك. فإذا كانت حياة الأفراد هي التي تتردّى من جرّاء تعميم المنافسة الاقتصادية واستفحال الفروق الاجتماعية، فليس من الغريب أن تظهر الطوائف الدينية بصورة متزايدة وبلا غموض كمجالات للمقاومة. فإحساس التأثر أمام وضعيات الحياة البائسة يشكل عنصرا جوهريا للإيمان، وهو ما يترجم على نحو أن التجربة المعاشة للظلم هي التي تدفع الناس إلى طرح مسألة العدالة. إلا أن الأديان، عكس الدول، لم تتخل عن خطابها المعياري حول المعنى الكامل للحياة، وبالتالي فهي تبدو أفضل تسلحا منها للردّ على احتلال الوجود الذاتي من طرف معايير الرأسمالية الإدارية. ويعتقد هابرماس بناء على ذلك أن المواجهة الحوارية بين فكرة الديمقراطية وبين التقاليد الدينية لم تعد فظة، فالحاجة إليها أصبحت مفروضة على جميع أولئك الذين لا يريدون ترك مصير الشعوب للمواجهة بين إيمان عقائدي متحجّر وعقل اقتصادي غافل عن قيوده.
فإذا كان الدين قد عاد، فستكون بالتالي عودته في عالم المعايير القانونية أقل أهمية من عودته عبر العلاقة التي يقيمها الأفراد مع هذه المعايير وهي علاقة لا تفتأ عن الارتخاء. ويرى هابرماس بوضوح تام أن امتداد قوانين السوق إلى كامل مجالات الحياة يساهم في نحت منافسة بين ذوات معزولة وبالتالي مناهِضة للديمقراطية. قد يجيب ماركسي بأن هذا يشكل طريقة لتكريس الوظيفة الإيديولوجية للدين: يُستدعَى “أفيون الشعب” هنا لمواساة المواطنين من الظلم الاجتماعي.
هذا الخطر الأيديولوجي موجود، وما لا يمكن إنكاره أيضا أن العديد من الصحوات الدينية لا تقدّم نفسها كتعزيز لديمقراطية تحتضر، بل كبديل لها. ومع ذلك، فلموقف هابرماس الفضل في إقرار أن التغيرات الاجتماعية المرتبطة بالعولمة الليبرالية الجديدة لا يمكن إلا أن تكون لها عواقب سياسية. لقد جنحت بعض الرؤى المتفائلة للتنوير إلى اعتبار الحدث الديني مفارقة تاريخية لأنها كانت تعتقد في التطابق الطبيعي بين الرأسمالية والديمقراطية. غير أن هذا التطابق، على افتراض أنه وُجد أصلا، فإنه بصدد التحلل أمام أعيننا ممهّدا الطريق للمواجهة بين أشكال ساخرة من الفردانية وذواتٍ جريحة ليست بمنأى عن إغراء الأصولية.
لا يجانب هابرماس الصواب عندما يُرجع التعارض بين الإنسان الاقتصادي والمؤمن المتصلب إلى فرضية مشتركة هي إنكارهما للسياسي؛ غير أنه عندما يدعو إلى تملّك المحتويات الدلالية الدينية، فهو يضع خطابه في منظور يتجاوز الإطار الأخلاقي للمناقشة. وتهدف هذه الأخيرة إلى بناء صيغ للتوافق في مجتمع تسوده تعددية القيم. ولكن مع التشابك الجديد بين الدين والديمقراطية التي ذكرناه للتو، يتعلق الأمر بمسألة أخرى تختلف عن فن خلق الصيغ التوافقية. والمقصود هنا بصورة جذرية هو إحياء ما يمكن تسميته بالوعد الأنثروبولوجي للحداثة: وعد إنسان لا يضحّي بالعادل في سبيل المفيد. من وجهة النظر هذه، تشكّل الأديان في نفس الوقت موردا وخطرا: تشكل موردا لأن تعلقها بفكرة “الخير” يقطع مع النفعيّة، وتشكّل خطرا لأن مُطلق “الحياة الجيّدة” ليس أقل غرابة بالنسبة لفكرة العدالة الحديثة من الترقية الاقتصادية للفائدة. لهذا السبب يجب أن نخطو خطوة أبعد من المفهوم الهابرماسي للديمقراطية كي نفهم كيف يتمفصل الديني اليوم مع السياسي. ربّما لا يكْمن المشكل في العلاقة بين القيم، من جهة، والمعايير القانونية، من جهة أخرى، أكثر مما يكمن في الطريقة التي تُطرح بها مسألة الإنسان في ديمقراطيات لم تعد تراهن على معتقدات مشتركة.
تجدد الخلافات الأنثروبولوجية
إن الرابط الذي يقيمه هابرماس، كما رأينا، بين الأديان وبين فكرة “الحياة الجيّدة” يسمح له بدمج الإيمان مع نموذج حل النزاعات بواسطة المناقشة. إن ما يجد القانون نفسه مرغما بتركه معلقا (القيم المرتبطة باختيارات الحياة الجماعية) يوجد على مستوى المداولات العمومية للسلطة التأسيسية. لقد جرى تقليديا تهدين العلاقة بين الدين والديمقراطية بواسطة القانون؛ ولكن هل إن الخطابات والممارسات الدينية ليست إلاّ مجرّد خيارات شخصية حول قيمة الحياة الإنسانية؟ يجب التسليم بذلك إذا ما أردنا القيام بفعل لبرالي بامتياز يتمثل في إرجاع القناعات الدينية إلى مرتبة الخصوصيات الثقافية. وتحت هذا الشرط، يجد الإيمان مكانه بين المعتقدات الأخرى حول ماهية “الحياة”، ويصبح من الممكن تنظيم المواجهة العمومية بين “رؤى للعالم” تكون متنافسة.
يرتكز هذا الشكل من إزاحة الطابع الدرامي على الديني، رغم ذلك، على سلسلة من فرضيات ليبرالية، نجد حتى الحكم التشاؤمي لهابرماس على الحاضر قد تركها غير مستعملة بعدُ: الثقة في الصلاحيات المهدئة للقانون، رؤية للأديان غير مُسيّسة، لأنها أخلاقية، وأخيرا وقبل كل شيء تفكير حول الديمقراطية منفصل عن كل اعتبارات أنثروبولوجية. ومع ذلك، فقد وقع إضعاف هذه الفرضيات بالضبط بسبب التطوّرات المعاصرة التي يضعها هابرماس في صدارة إعادة تقييمه للديني. وبالفعل فأن ظواهر العولمة المذكورة في بداية هذه المقالة تعرّض الديمقراطيات لمطالبات دينية من ذلك النوع العابر للوطني. لا يوجد هناك حدث سياسي واحد على نطاق واسع (الثورات العربية لعام 2011 هي مثال جيد في هذا الصدد) لم تكن له تأثيرات على النقاشات الدينية داخل حدودنا. وعلى العكس، فإن التدابير التي اتخذت في بعض البلدان المعنية (مثل حظر لباس البرقع في الأماكن العامة بفرنسا) أصبحت معروفة ومنتقدة في جميع أنحاء العالم. (اختراقية) الحدود هذه تضعف النموذج الهابرماسي للوفاق، لأن النزاعات تقع على مستوى ليس للقانون فيه أي تأثير (حاليا على الأقل) وتستند إلى تداخل وثيق بين الديني والسياسي، وتساهم في إعادة طرح المطالب الدينية على صعيد أنثروبولوجي غريب عن الليبرالية السياسية (العلاقات بين الرجل والمرأة، سيادة القانون اللاهوتي على القوانين الوضعية، الخ).
هل يمكن أن نستنتج من ذلك أهمية آنية للّاهوتي السياسي؟ نعم، بمعنى أن التأثيرات الاقتصادية للعولمة ليست هي وحدها التي تجبرنا على مراجعة تمثلنا للديني، بل كذلك نتائجها على صعيد ما يسمّى عادة بـ”الايديولوجيا”. وليس متأكدا في مثل هذا السياق أن النموذج المتعلق بإرجاع الإيمان إلى الخصوصيات الثقافية والجماعية لا يزال فعّالا (في حين يحتل العقل العمومي موقع الشمول).
وكما لاحظ ذلك اتيان باليبار، تتميّز الأديان عن الثقافات بكونها تعارض المجال اليومي المألوف بمتطلبات القطع والإصلاحات الجذرية أو حتى الثورة. إن تنسيب الحدود والأهمية التي أخذتها الهجرة تظهر حدود استحضار الديني في المجال الخاص: ذلك أن عولمة الايديولجيات تضعنا بالأحرى في مواجهة “نزاعات بين شموليات متنافسة”(21). وبما أن هذه الصراعات تقع في مستوى يُمْكننا وصفه “بالسياسي الشامل” ولكن دون أن يكون له قانون موحّد، فإننا لا نرى حاليا أي نوع من القرارات القانونية تستطيع تهدئة هذه الصراعات. ومن المشكوك فيه بالإضافة إلى ذلك أنه يمكن تقديم أجوبة مقنعة في يوم ما على أسئلة تتعلق بـ “جوهر” الإنسانية، وبالمذكر والمؤنث، وبالطبيعي والمرَضي.
إنما هذا هو بالضبط نوع الأسئلة التي تطرحها وتدّعي الإجابة عنها الشموليات الدينية، وبخاصة تلك التي تنتمي إلى التوحيدية. فالأديان ترسم “نزاعا أنتروبولوجيا” في قلب المجتمعات الليبرالية، مما يعسّر استيعاب المعتقدات كخصوصيات ثقافية(22). لا يتعلق الأمر هنا مطلقا بإقرار فشل مشروع العلمنة، ناهيك عن الموافقة على عودة العقائد الأنثروبولوجية الدغمائية داخل الديمقراطيات. إلّا أن هذه التطورات تطرح في المقابل، حيث يصبح التوزيع بين الخاص والعام مثيرا للشكوك، إعادة النظر في قدرة القانون على حل جميع النزاعات المرتبطة بالتشابك بين الديني والسياسي. وتتجلّى هذه الحدود خاصة في عجز القوانين الوطنية على مواجهة الخلافات الدينية الكامنة على مستوى الأنثروبولوجيا، والتي لم تفصّل على مقاسها (23). و الأهم من ذلك، هو أن هذه الحدود تشجعنا على مساءلة معتقدات الإنسان الديمقراطي، أي الأشكال التي يتّخذها الإيمان في السياق الارتيابي الذي فتحته المجتمعات التعددية، من وجهة نظر مخالفة لوجهة نظر الأخلاقية الإجرائية.
إنه من غير المشروع بالتأكيد تجميد الأديان في مفاهيم عقائدية للطبيعة البشرية. لقد وُجدت حركة نسويّة إسلامية قاومت انطلاقا من إيمان المسلم، استنزال المرأة إلى دور سياسي تابع. وبالمثل، يمكننا الاعتماد على النظرية الخلقية، إما لتبرير وجود الإنسان كـ “سيّد على الطبيعة”، أو للتأكيد عن المخاطر الكارثيّة المتّصلة باستغلال كوكب الأرض. إن من شأن الرمزيات الدينية أن تُستعمل في استخدامات مختلفة مرورا باهتمامات سياسية محدّدة. غير أنه مهما كان من أمر فإن هذه الرمزية تتمفصل بطريقة فريدة مع الديمقراطية الحديثة. فبإعلان انتمائه إلى متطلب أنثروبولوجي “كلّي” يطالب الدين لنفسه بمقام يفوق المقام الثقافي. وحتى عندما يحث على الخلاص بأقل نسبة من حثه على قواعد “الحياة الطيّبة”، فإنه يفعل ذلك باسم فهم إجمالي للمجتمع وللإنسان يقطع مع الشك الديمقراطي المتعلق بالأشياء الأخيرة. وكردّ فعل على مثل تلك الرؤية “الكلية”، غالبا ما تلجأ الديمقراطيات إلى إغراء ترجمة مبادئها الخاصة في عبارات مكينة وإجراءات قمعية. وبهذا المعنى، فإن العولمة ليست مجرّد ظاهرة اقتصادية، بل أيضا فرصة للوعي بالعلاقة المعقدة بين ما هو غير قابل للاختزال في الدين؛ الذي يمكن اعتباره كاندماج الأنثروبولوجي في اللاهوتي وبين ما هو خاص بالديمقراطية.
لا ينبغي، مع ذلك، أن نستنتج تعارضا ثنائيا بين التطرف الديني والتشكك الديمقراطي. في مقطع شهير، لاحظ كلود لوفور بشكل ملغز “أن كل ما يذهب في اتجاه اللزوم أو الكُمون (immanence) يذهب في اتجاه التعالي” (24). إذا كانت الديمقراطية الحديثة تقوم بعملية إخراج “للمكان الفارغ للسلطة”، أي بالفصل بين المعرفة والقانون والسلطة، فلأنها قطعت مع المفاهيم التقليدية للّاهوتي /السياسي التي تعطي للسلطة أساسا متعاليا. ولكن كل إضعاف في نفس الوقت للديمقراطية يثير تجديدا لمُخْيالات الوحدة. فعندما يُنظر للمكان الفارغ كنقص، فإن تعارض المصالح بين مختلف الطبقات والفئات، ولكن أيضا، وهو ليس بأقل من ذلك، تعدد الآراء والقيم والأعراف أو العشائر، وكل ما يشير إلى تجزئة الفضاء الاجتماعي، وحدوث تغاير، كل ذلك يضع انهيار الشرعية محل الاختبار (25).
ويجري تنشيط المجال الديني حول نقاط فشل الديمقراطية، عندما يسعى المجتمع لإعادة بناء كيانه بقطع النظر عن الانقسامات التي تشقّه.
نفهم إذن لماذا يقترن كل غزو في مجال اللزوم يعني في الوعي بأن المجتمع الديمقراطي مؤسَّس على ذاته مع الرغبة في إدراج شكل من أشكال الوحدة التي تفلت من التقسيم الاجتماعي، لأنها متعالية. هذا لا يعني أن المؤسسات الديمقراطية، على الرغم من المظاهر الخارجية، لا تزال محدّدة بواسطة الديني. هذه المراوحة بين اللزوم والتعالي تُبرز بالأحرى عدم الاستقرار الميداني للمجتمعات المعلمنة. لقد سقطت هذه الأخيرة في انفتاح ليست من صنّاعه (26): فالأديان قادرة على إدراج هذا الفرق من خلال الرجوع على سبيل المثال إلى قانون سحيق، إلى سلطة الموتى أو خلاص النفوس. وبعبارات أكثر بساطة، تكون الأديان أعرق من الديمقراطية (الحديثة)، ليس فقط بمعنى تاريخي، بل لأنها تعطي للوحدة الاجتماعية مقروئية هي غائبة في المجتمعات التعددية. تضع عولمة النزاعات الأيديولوجية الراهنة أمام أعيننا هذه الأسبقية الرمزية للديني التي ذكّرَنا بها سابقا لو فور. وتواجه الديمقراطيات الآن خطابات، حتى وإن كانت آتية من “مكان آخر”، فإنها تسائلها حول ما هو أكثر حميميّة عندها: ثقافة صراع مقرونة بتوهّم حلّها الأمثل.
بإمكاننا، انطلاقا من هذه الملاحظات، أن نعود إلى عبارة “الوعي بما هو مفقود”. يكون هابرماس على حق عندما يقول أن المقصود من العمليات الديمقراطية للحوار هو ملء هذا النقص، وبأننا نعيش أزمة سلطة تأسيسية تفسّر عودة الموضوعات الدينية في النقاش العام. وهو على حق أيضا عند التأكيد على أهمية القانون في تسوية الصراعات، وخاصة عندما تدعي هذه الأخيرة الانتماء لمصدر لاهوتي. وهو على حق أخيرا عند اللجوء إلى العلمنة المفتوحة حيث يرفض الجمهوريون العلمانيون، وليسوا دون الدينيين، رفع معتقداتهم إلى مرتبة المبادئ المطلقة. غير أن الفصل بين المعايير الكونية (للقانون) وبين الثقافات الخصوصية (الديمقراطية) لا يستنفد المشكلة، لأن الديمقراطية الحديثة في عمقها مخدومة بالوعي بما هو مفقود، أي بـ”حيّز” تعطي فيه السلطة لنفسها سلطانها أو تفويضها الخاص. فإذا كانت الملائمة بين الديمقراطيات الحديثة والخطاب الديني على غاية من الصعوبة، فلأن هذا الأخير يقول شيئا ما من رغبة الأولى بل وأيضا باستحالة تلبية تلك الرغبة دون التنكر لذاته.
ما الذي ينبغي استنتاجه من هذا “النقص” الرمزي الذي يرهق الإنسان الديمقراطي ويجعله عرضة للمعتقدات؟ قبل كل شيء ما يلي: في سياق لا نستطيع أن نتوقع فيه من القانون أن يحل النزاعات المتعلقة بما “هو أساسي”، يجب الاعتماد على القدرات المشتركة للديمقراطيات والأديان لمواجهة عدم يقينها الخاص. من جانب الديمقراطية، هذا يحتّم قبول الاختلافات بدل الردّ عليها على الطريقة التسلطية للقيم. يمكن لنا أن نقدّم الكثير للأخلاق الجمهورية، لكن عدى ادّعاءنا احتلال فراغ السلطة، الذي تقوم الديمقراطية بعملية إخراجه. ومن جانب الأديان، لا يمكن للمرء أن ينتظر الكثير من قبولها لمتطلبات الحياد الخاصة بدولة القانون، ذلك أنه لا يمكن أن ينبثق أيضا اعتراف بعدم يقينها الخاص إلا من داخل ذواتها، أي بتعميق إيمانها. وبعبارة أخرى، إن ما يعِدُ بالمصالحة بين الدين والديمقراطية هو عكس تحييد اللاهوت تماما، لأنه يوجد حدّ يكون فيه الخطاب حول الله غير قابل للترجمة إلى تقييدات على البشر أو الحياة. وباكتشافه لنفسه لهذا الحدّ من خطابه، حيث لا يكون سياسيا، فإن كل دين يجد الفرصة لإعادة الربط من جديد مع عدم اليقين المتعلق بعقائده الخاصة.
• محاضر في الفلسفة بجامعة بورغونيي . Bourgogne أحدث كتاب
Après la fin du monde. Critique de la raison apocalyptique, Paris, Le Seuil, 2012,
نشر المقال بالمجلة الفكرية ESPRIT الفرنسية بتاريخ جانفي (يناير) 2013
الهوامش:
1. Voir Emmanuel Kant, la Religion dans les limites de la simple raison (1793), Paris, Vrin, 1994,
2. Jürgen Habermas, Entre naturalisme et religion. Les défis de la démocratie, Paris, Gallimard, 2008, p. 141-151. L’ensemble du volume se place sous les auspices de Kant à qui Habermas consacre le prologue de son livre (ibid., p. 11-60). Le texte « Une conscience de ce qui manque. Les liens de la foi et de la raison» a été publié dans Esprit en mai 2007 (p. 5-13).
3. J. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cil. p. 14.
4.Id., Théorie de l’agir communicationnel (2 tomes), Paris, Fayard, 1987.
5. C’est le sens de la critique de Jean-Claude Monod dans « Habermas et la dialectique de la sécularisation », http://www.laviedesidees.fr/Habermas-et-la-dialectique-de-la.html
6. Sur ces stratégies de captation de l’idée habermassienne de tolérance, voir Joan Stavo-Debauge, le Loup dans la bergerie. Le fondamentalisme chrétien à l’assaut de l’espace public, Paris, Labor et Fides, 2012.
7.J. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 173.
8. Ernst-Wolfgang Bôckenfôrde, Recht, Staat, Freiheit (1967), Francfort-sur-le-Main, Suhrkamp, 1991.
9.J. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 178. Cette articulation entre la sphère juridique et la souveraineté délibérative du peuple a été magistralement exposée dans J. Habermas, Droit et démocratie, Paris, Gallimard, 1997.
10. Id., Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 157.
11. Le jugement, de plus en plus critique, que Habermas porte sur les modalités (et les blocages) de la construction européenne est le meilleur signe de cette désillusion.
12.1. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 165.
13. J. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 153.
14. Tout le problème, sur lequel nous revenons plus loin, est de savoir si les nonnes juridiques sont, à elles seules, en mesure de « désabsolutiser » des adhésions subjectives dont la spécificité est tout de même de prétendre à l’absolu.
15. J. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 166 (je souligne).
16.J. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 145.
17. Id., l’Avenir de la nature humaine. Vers un eugénisme libéral ?, Paris, Gallimard, 2002.
18. On trouverait une dialectique similaire au sein du «tournant théologique» des pensées de la radicalité. De diverses manières, Badiou, Zizek ou Agamben reviennent au religieux comme à une source de subversion à l’égard de ce qu’ils jugent intrinsèquement relativiste dans la démocratie libérale. Ces Connes d’antihumanisme théologique sont, pour le reste, très éloignées de la position de Habermas,
19.J. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 48.
20.4. Habermas, Entre naturalisme et religion, op. cit., p. 160.
21. Étienne Balibar, Saeculum, Culture, religion, idéologie, Paris, Galilée, 2012, p. 42.
22. Dans une probable allusion à Habermas, Balibar affirme que « le “religieux” comme tel marque toujours le point de l’intraduisible » (ibid., p. 98).
23. C’est pourquoi la plupart des mesures prises ces dernières années en matière de réglementation des signes religieux dans l’espace public se réclament davantage de l’intransigeance républicaine que de la tolérance libérale.
24. Claude Lefort, « Permanence du théologico-politîque ? », dans Essais sur le politique, Paris, Le Seuil, 1986, p. 299.
25. Ibid. p. 274,
26. CI. Lefort, « Permanence du théologico-politique ? “, art. cité, p. 262