الرأي

مستقبل الاتفاق الإطاري السوداني بين “قحت” و”الكتلة الديمقراطية

يبدو واضحاً اليوم أن الفرز السياسي لواقع ما بعد الانقلاب قد أحدث انقسامات امتحنت مواقف القوى الحزبية من مبادئ الثورة


محمد جميل أحمد
في حين ترشح تكهنات وتسريبات بين وقت وآخر، قرب توقيع مكونات رئيسة من تحالف الكتلة الديمقراطية (حركة “العدل والمساواة” بقيادة جبريل إبراهيم، وحركة “جيش تحرير السودان” بقيادة مني مناوي، و”الاتحادي الأصل” بقيادة محمد عثمان الميرغني) على الاتفاق الإطاري، لا نرى- حتى الآن على الأقل – مؤشرات تدل على ذلك. فما نشاهده في الحقيقة هو حراك مواز في الأقاليم يحاول عبره تحالف “الكتلة الديموقراطية” مجاراة قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)- التي أقامت أخيراً ندوة سياسية ناجحة حول الاتفاق الإطاري في مدينة ربك بأقصى جنوب السودان- لنرى بعد ذلك وفداً يضم قادة الكتلة الديمقراطية لمخاطبة حشد جماهيري بقرية جبرت في أقصى شرق السودان.
والحال أنه من واقع حراك وخطاب قادة “الكتلة الديموقراطية” يمكن القول إن ثمة افتراقاً واضحاً جداً بين خطابي كل من “الكتلة” من ناحية، و”الحرية والتغيير” (المجلس المركزي) من ناحية أخرى.
وعلى ضوء هذا الافتراق فإن ما يشير إليه ظاهر حراك “الكتلة الديموقراطية” يدل على أنه أمر أكثر بعداً من أي توافق محتمل بين القوى الموقعة على الاتفاق الإطاري وبين كل من حركتي جبريل ومناوي و”الاتحادي الأصل” في “الكتلة الديموقراطية”.
وحيال افتراق كهذا قد لا تبدو التكهنات حول إمكان التوافق على توقيع قريب في محلها، إذ إننا بإزاء خطابين سياسيين متناقضين، بدا واضحاً أن في أحدهما (خطاب “الكتلة الديمقراطية”) ما يمكن وصفه بالمزايدة السياسية في أزمة لا يحتمل فيها السودان فائضاً للمزايدة، لأن المزايدة لا تعكس تعبيراً عن مطلق السياسة (من السياسة أن تعارض الكتل السياسية بعضها بعضاً من موقعي السلطة والمعارضة) بل تعكس اغتراباً خطراً عن هوية العمل السياسي المسؤول في وضع مأزوم لا يحتمله.
يطرح خطاب “الكتلة الديمقراطية” في معارضته للاتفاق الإطاري شعارات المظلومية، أو ما يسمى بخطاب الهامش، وهو خطاب يلقى عادة آذاناً صاغية في مناطق التهميش بالسودان كشرق البلاد، لأنه يطرح ثنائيات مبسطة تصلح لحملات السياسة الشعبوية والدعاية الانتخابية، لكنها لا تعكس جدية تتطلبها اليوم مسؤولية أخلاقية ووطنية للأحزاب في المقام الأول، الآن وهنا، للخروج من وضع حرج لمصير السودان بسبب انقلاب 25 أكتوبر 2021.
يمثل هذا الخطاب الذي تستند إليه “الكتلة الديمقراطية”، حتى الآن على الأقل، استراتيجية واضحة ليس فقط للقطع مع طرح سياسي عقلاني كالاتفاق الإطاري يتعاون مع المجتمع الدولي للخروج من المأزق، بل نخشى القول إن استراتيجية خطاب “الكتلة الديمقراطية” تلتقي بوضوح مع أجندة فلول نظام البشير وقوى الثورة المضادة، وربما مع أجندة خفية لقسم من قادة المكون العسكري بدا واضحاً أن تصريحاتهم الإعلامية في هذا التوقيت لا تعكس ارتياحاً للاتفاق الإطاري.
فالدعاوى التي تأتي على لسان قادة “الكتلة الديموقراطية” في وسائط الإعلام من قبيل (لا بد من إشراك الجميع من غير “المؤتمر الوطني” في العملية السياسية)، أو الإنكار على “قحت” (المركزي) تحديدها لمعايير الشراكة للتوقيع على الاتفاق الإطاري، هي في الحقيقة دعاوى تدل بوضوح على تلك المزايدة السياسية. لأن مضمون دعاوى “الكتلة الديمقراطية” يضمر تغييباً أو يتناسى حقائق واقع سياسي فرضته معادلات وضع ثوري لمرحلة ما بعد الثورة لا يمكن إنكاره اليوم، من ناحية. ومن ناحية ثانية يطرح شعارات يدرك أصحاب “الكتلة الديمقراطية” أن طرحها في هذا التوقيت هو مجرد مزايدة.
تحالف قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) اليوم يتكون من أحزاب رئيسة لم تشارك مطلقاً في السلطة مع نظام الجنرال المعزول عمر البشير (نظام “الإخوان المسلمين”) طوال 30 عاماً، بل كانت معارضة له مثل “حزب الأمة”، و”التجمع الاتحادي المعارض”، و”حزب المؤتمر السوداني” إلى جانب تجمعات مدنية وأحزاب أخرى، وهذه الأحزاب الرئيسة المكونة لتحالف قوى الحرية والتغيير (المركزي) اليوم هي جزء أصيل من القوى السياسية الجديدة للثورة، وهي ذات القوى الحزبية التي رضي بها الشعب كتحالف لقيادة الحكومة السياسية بعد الثورة عبر تفويض حكم الأمر الواقع (كانت معها في التحالف، آنذاك، أحزاب وكتل أخرى بعضها خرج من التحالف مبكراً، وبعضها أيد انقلاب 25 أكتوبر كبعض الحركات والأحزاب المكونة اليوم لتحالف “الكتلة الديموقراطية”)، لذا فإن مواجهة قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) بخطاب المظلومية والتهميش من طرف “الكتلة الديمقراطية” تنكشف فيها طبيعة المزايدة، من حيث إن قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) ليست هي المسؤولة اليوم عن التهميش، بل هي قوى أقرت في إعلانها السياسي الثوري، قبل سقوط النظام، بأهمية تطبيق بند التمييز الإيجابي للمناطق المهمشة.
أما حجة خطاب “الكتلة الديمقراطية” القائمة على سؤال: من الذي أعطى قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) حق تحديد من يوقع في الاتفاق الإطاري ومن لا يوقع؟ فواضح جداً أنها حجة تتغافل عن استحقاق الفرز الذي حدث في الواقع السياسي والحزبي بعد انقلاب 25 أكتوبر.
ذلك أن موقف قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) الرافض للانقلاب، الذي تحمل قادتها في سبيله السجون والعنف، لم يؤهلها فقط لأن تكون أكثر إصراراً على ثباتها الثوري في رفضها للانقلاب، بل جعلها تدرك أن واقع ما بعد انقلاب 25 أكتوبر أحدث فرزاً مهماً داخل الأحزاب، فكشف، إلى جانبها، عن قوى سياسية أخرى رفضت الانقلاب ودانته مثل حزب “المؤتمر الشعبي”، وفصيل من الحزب الاتحادي الأصل، وجماعة “أنصار السنة”، وبعض قوى التجمع المدني.
لذا فإن ذلك الفرز الجديد كان هو السبب الجوهري في أن تضم قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) إلى صفها القوى السياسية الرافضة للانقلاب كي توقع على الاتفاق الإطاري. وهذا الفرز الذي حدث للقوى السياسية بناء على الموقف من الانقلاب هو الذي يسوغ اليوم لقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) تحديد من الذي يوقع على الاتفاق دون غيره (بعد أن أعلن العسكر انسحابهم من العملية السياسية على إثر فشلهم في إدارة البلاد، ثم وافقوا مع المجتمع الدولي على قبول مشروع الإعلان السياسي ومسودة الدستور الانتقالي الذي تقدمت به “الحرية والتغيير” (المركزي) كمخرج من الأزمة، ثم وقع عليه العسكر كطرف في الاتفاق الإطاري يوم الخامس من ديسمبر 2022، ثم أقروا بأن ما قاموا به يوم 25 أكتوبر، كان انقلاباً.
فهذا الموقف السياسي الواضح لقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) والقوى الموقعة معها على الاتفاق الإطاري، على رغم أخطاء قوى الحرية والتغيير خلال تجربة حكم الشراكة مع العسكر في سنتي ما بعد سقوط النظام، جعل منها القوى السياسية الأرجح تأهيلاً لاستعادة المرحلة الانتقالية المقبلة من دون أية محاصصات حزبية، وإنما بناء على تعيين أصحاب الكفاءات الوطنية.
مع ذلك كله لا تزال قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) تدعو كل من حركة “العدل والمساواة” وحركة “جيش تحرير السودان” و”الاتحادي الأصل” للتوقيع على الاتفاق النهائي، لأن كل من الحركتين لا تزالان جزءاً من أطراف اتفاق جوبا للسلام، الذي تم تضمينه في مسودة مشروع الدستور الانتقالي.
هكذا سنجد أن حجج “الكتلة الديمقراطية” ضد قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) حيال اعتراض الأخيرة على قبول بعض الأطراف في تحالف “الكتلة” (مثل فلول النظام القديم والأحزاب التي ساندت انقلاب العسكر) كموقعين على الاتفاق الإطاري، هي حجج مجوفة لا تعكس منطقاً سياسياً متماسكاً سوى شعارات من السهل جداً تفكيك منطقها الخطابي الأيديولوجي، والإبانة عن ما ينطوي عليه من مزايدة سياسوية.
يمضي الواقع السياسي السوداني اليوم، في حال لم يحدث اختراق وضغوط كبيرة تضطر جبريل ومناوي والميرغني على التوقيع، باتجاه الترتيب للتوقيع النهائي بمن وقع فقط، من دون انتظار أبدي لبعض مكونات “الكتلة الديمقراطية”، خلال الأسابيع المقبلة.
لقد بدا واضحاً اليوم أن الفرز السياسي لواقع ما بعد الانقلاب قد أحدث انقسامات امتحنت مواقف القوى الحزبية السودانية من مبادئ الثورة ورفض الانقلاب، وأحدث ذلك الواقع داخل تلك القوى إعادة اصطفاف عمودي مع الثورة أو ضدها. رأينا ذلك واضحاً في حزب “المؤتمر الشعبي” الذي اصطف قسم منه مع قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) للتوقيع على الاتفاق الإطاري، كما رأينا ذلك في الحزب الاتحادي الأصل، وكذلك في أطراف اتفاق جوبا حيث وقعت حركات مسلحة منها على الاتفاق الإطاري، فيما بقيت أخرى في تحالف “الكتلة الديمقراطية”.
وإذا ما راهن بعضهم على مزايدات موقف “الكتلة الديمقراطية” في تبنيها حججاً خطابية واهية ضد قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) لا تصلح للحجاج السياسي المسؤول حول جدوى التوقيع على الاتفاق الإطاري الذي يبدو اليوم أفقاً ممكناً لخروج السودان من أزمة حافة الهاوية والحرب الأهلية، فسيكون رهانه خاسراً، لأن التحزيب الرأسي للشعب عبر تضليل البسطاء باستغلال الحجج الواهية ضد قوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي) لتعطيل الاتفاق النهائي يصب في أجندة أنصار نظام البشير.
وليس خافياً اليوم خفوت صوت حراك أنصار نظام البشير الذين كانوا يتظاهرون كل يوم سبت، وبروز حراك “الكتلة الديمقراطية” على ذات الحراك الذي كان يشتغل عليه أولئك الأنصار تحت ما سمي حينها “مبادرة أهل السودان”، عندما ذهبوا إلى شرق البلاد في محاولة يائسة منهم لتحريكه ضد الاتفاق الإطاري عبر استغلال بعض نظار القبائل هناك ففشلوا في ذلك. وسيفشل حراك “الكتلة الديمقراطية” الذي يتحرك اليوم في شرق السودان لحشد الأنصار ضد الاتفاق، عبر الناظر ذاته، خصوصاً بعد النجاح الكبير لورشة شرق السودان التي نظمتها الآلية الثلاثية ضمن قضايا الاتفاق الإطاري الخمس، فكشفت نتائج تلك الورشة للمركز عن أصوات متعددة لمكونات شرق السودان.
*نقلا عن اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى