استنارة

مرجعية العقل قبل مرجعية النص

أنس زاهد :-
مشكلة المتدينيين التقليديين أنهم لا يعتمدون العقل بوصفه مرجعية عند التعاطي مع النص المقدس، ولكنهم يعتدون النص المقدس بوصفه مرجعية عند التعامل مع الشأن العقلي.
هذا المنهج العجيب في التفكير سيقودنا الى سؤال ملح بقدر ما هو مشروع: اذا كان النص المقدس هو المرجعية المطلقة فما هي المرجعية التي يمكن احالة النص اليها للخروج بقراءة تحمل أكبر قدر ممكن من الوضوح، لما ينطوي عليه هذا النص من معان ومبادئ وافكار؟
بشكل أكثر وضوحا فانه لا يوجد لدينا كمسلمين أي اعتراض على اعتماد مرجعية النص المقدس في كل أمور حياتنا، لكن كيف لنا أن نفهم المقصود من النص المقدس دون اللجوء الى مرجعية العقل التي تعطي هذا النص معان ومضامين محددة؟
ما أريد أن أقوله هنا هو أن النص لا يعتبر حجة ملزمة في حد ذاته، ذلك أن النص يحتاج الى قراءة، والقراءة تحتاج الى أدوات، والعقل هو الأداة الوحيدة التي يمكن اللجوء اليها عند التعامل مع النص المكتوب سواءا كان نصا مقدسا أم لا .
ان النص لا يمتلك آليات ذاتية لايصال المعاني التي يتضمنها لقارئيه، وهذا يعني أن النص ليست لديه امكانية تأويل نفسه فضلا عن قراءتها، وهو ما عبر عنه الصحابي والحكيم والمعلم الامام علي بن ابي طالب في معرض رده الشهير على الخوارج الذين طالبوه بالاحتكام الى كتاب الله ليفصل فيما بينه وبينهم: ((هذا كتاب الله بين دفتي المصحف صامت لا ينطق، ولكن يتكلم به الرجال)) .
اذن النص لا يمتلك قيمة ذاتية ولكنه يستمد قيمته من قارئيه. فبدون وجود من يقرأ ويستنتج ويربط ويحلل، تنعدم قيمة النص أو تتعطل أو تتجمد حتى يوجد الشخص أو مجموعة الأشخاص التي يمكنها أن تُخرج النص من عالم الاشارات والرموز اللغوية الى عالم الفكر حيث التحديد والفهم ومحاولة التطبيق. مما يعني أن الجانب البشري الذي يتمثل في التفاعل العقلي مع ما ورد في النص من رموز واشارات واصطلاحات لغوية، أهم من النص نفسه طالما أن النص لا يمتلك امكانية تفسير نفسه بنفسه .
من هنا يمكننا القول بأن الإنسان أهم من النص، وأن النص لم ينزل ليستخدم الإنسان بل ليخدمه .
المشكلة التي يقع فيها المتدينون التقليديون هي اعتقادهم بأن أهمية النص تسبق أهمية الانسان وتطغى عليها، وهذا ما جعلهم يقعون ضحية معتقد يصطدم مع كل قوانين العقل، وهي ضرورة اعتماد النص بوصفه مرجعية يجب على العقل الخضوع اليها. ولعل أخطر ما تنطوي عليه هذه الفكرة هي افتراض وجود قدرة ذاتية لدى النص تمكنه من قراءة نفسه وتأويلها دون الحاجة الى العقل أو حتى البشر، مع أن النص نزل على البشر وخاطبهم بلغتهم التي لا يصلح للفصل في كل ما يتعلق بشئونها سوى العقل .
وقد يقول قائل بأن النص قد يصطدم أحيانا مع العقل فيقر بما لا يقر به العقل، وهي المسألة التي عالجها ابن رشد ضمن كتابه ( فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال )، حيث يقول:
“نحن نقطع قطعا أن كل ما أدى اليه البرهان وخالفه ظاهر الشرع أن ذلك الظاهر يقبل التأويل على قانون التأويل العربي وهذه القضية لا يشك فيها مسلم ولا يرتاب بها مؤمن ” .
ثم يستفيض ابن رشد في شرح فكرته هذه عبر السطور التالية:
“ان أدى النظر البرهاني الى نحو ما من المعرفة بموجود ما، فلا يخلو ذلك الموجود أن يكون قد سكت عنه الشرع أو عرّف به .
“فان كان مما سكت عنه فلا تعارض هناك، وهو بمنزلة ما سكت عنه من الأحكام فاستنبطها الفقيه بالقياس الشرعي .
“وان كانت الشريعة نطقت به فلا يخلو ظاهر النطق أن يكون موافقا لما أدى اليه البرهان فيه أو مخالفا، فان كان  موافقا فلا قول هناك، وان كان مخالفا طلب هناك تأويله، ومعنى التأويل هو: اخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية الى الدلالة المجازية، من غير أن يخل في ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز من تسمية الشئ بشبيهه، أو سببه، أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عودت في تعريف أصناف الكلام المجازي . واذا كان الفقيه يفعل هذا في كثير من الأحكام الشرعية فكم بالحري أن يفعل ذلك صاحب العلم بالبرهان ؟ ” .
ان هذه الاشكالية كانت مطروحة منذ ما يقارب الألف سنة كما هو واضح من خلال الفقرات السابقة، وهو ما يصلح للتأكيد على أن الصراع بين التيار المناصر للعقل والتيار المناصر للنص على حساب العقل موغل في القدم، فكيف يخرج علينا من يدعي بأن الأزمة حديثة ومن صنع المتأثرين بالفكر الغربي ؟!
وبغض النظر عن قدم أو حداثة هذه الأزمة، فان مجموعة المعطيات الحالية تفرض علينا أن نعمل على ايجاد حل حاسم يعيد للعقل اعتباره في ثقافتنا اذا كنا جادين في السعي الى اعادة اعتبار الأمة وكرامتها وتحسين موقعها بين الأمم .
ولكي نصل الى هذه الغاية يجب أن نفهم أولا أن مرجعية النص لا تستقيم ما لم يحتكم النص نفسه الى مرجعية العقل.هذا هو الطريق ولا طريق غيره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى