محاورة بين يورغن هابرماس وتشارلز تايلور حول العلمانية
محاورة بين يورغن هابرماس وتشارلز تايلور حول إعادة التفكير في العلمانية: قوة الدين في الفضاء العام
محمد مسعود
هذه الورقة الحوارية من إصدار “مجلس البحوث في العلوم الاجتماعية” (SSRC) بأمريكا، والذي من أهدافه تنمية الأجيال الواعدة في مجال العلوم الاجتماعية، وتعزيز البحوث المبتكرة وكذا تعبئة المعرفة اللازمة حول القضايا العامة المهمة. تندرج هذه الندوة الحوارية ضمن مشروع النقاشات الفكرية: “إعادة التفكير في العلمانية : قوة الدين في المجال العام”، التي ينظمها كل من “معهد المعارف العامة” في نيويورك و “مجلس بحوث العلوم الاجتماعية”، و”معهد العلوم الإنسانية” في جامعة ستوني بروك، بحضور كل من جوديث بوتلر ويورغن هابرماس وتشارلز تايلور وكورنل وست.
في ندوة عقدها “معهد المعارف العامة” ((Institute for Public Knowledge في جامعة نيويورك، حضر كل من “مجلس بحوث العلوم الاجتماعية” ((Social Science Research Council ومعهد العلوم الإنسانية (Humanities Institute) في جامعة (Stony Brook)، وكذا جوديث بوتلر (Judith Butler)، ويورغن هابرماس (Jürgen Habermas)، وتشارلز تايلور (Charles Taylor)، وكورنل وست (Cornel West)، وكان ذلك الشهر الماضي لمناقشة مشروع “إعادة التفكير في العلمانية” (RethinkingSecularism).
واليوم، نضع بين أيديكم نسخةُ مكتوبة لذلك الحوار والمناقشة التي جرت يوم 22 أكتوبر 2009 بين هابرماس وتايلور بإشراف كريغ كالهون، والتي ناقش فيها الفيلسوفان الرائدان مكانة الدين في المجال العام، وما إذا كان هناك اختلافات نوعية بين البواعث الدينية والعلمانية.
كالهون (Calhoun): شكرًا لكما يورغن وتشاك على هذه المناقشات المهمة التي تشكل لنا تحديًا في واقع الأمر. كل المناقشات متشابهة ومترابطة كفاية، مما يجعلني أعتقد أننا نقف على أرضية مشتركة، وأن هناك اختلافات كافية لضرورة إمكانية مواصلة مناقشتها بطرق مثمرة. أريد أن أعطي يورغن فرصة للرد الأول بعد أن سمعت للتو تشارلز. اسمحوا لي أن أطرح سؤالاً خاصًا بدايةً.
كان جزءًا من عبء حديث تشارلز إشارته إلى أن الدين لا يجب اعتباره حالة خاصة سواء فيما يتعلق بالخطاب السياسي أو فيما يتعلق بالعقل والحجاج بصفة عامة. بل إن الدين بكل بساطة مجرد مثال واحد لتحدي التعددية الأكثر عمومية، بما في ذلك التنوع ووجهات النظر الشاملة للخير، بلغة راولز (Rawls).
لذلك، وقياسًا على الفرق بين النفعيين (Utilitarians) والكانتيين (Kantians)، قد يتوفر لنا الفرق المائل الممكن بين الأسقفيين (Episcopalians) والكاثوليك (Catholics) هذه الأيام.
هل هذا معقول بالنسبة لك؟ هل بإمكانك الأخذ بهذه الحجة؟ إن لم يكن، فهل هذا يعطيك فرصة لتفصيل وضعكم قليلاً، للتوضيح ليس إلا؟
هابرماس (Habermas): أعتقد أنني أفهم الدافع، ولكني لا أقبل المنطق الذي يقدمه تشاك (Chuck) لتسوية التمييز الذي لا يزال يبدو لي جد مناسب في سياقنا. بالنسبة للدافع، قد أوافق على الفور أنه لا معنى لمعارضة أسباب من نوع ما، علمانية مثلاً، ضد أسباب دينية، تحت توجه أن هذه الأسباب الدينية تتأتى من وجهة نظر عالم هو غير عقلاني بطبيعته ]…[. إن عقلانيتنا الإنسانية المشتركة تعمل وفق تقاليد دينية، وكذلك وفق أي مشروع ثقافي آخر، بما في ذلك العلم، لذلك ليس هناك فرق.
ومع ذلك، إذا تعلق الأمر بلم شمل كل من الكانتية والنفعية، وأي نوع من الهيكيلية (Hegelianism) وهلم جرا مع المذاهب العقدية الأخرى، فإنني سأقول أن هناك اختلافات نوعية بين العقلانيات المختلفة. من بين الطرق التي تؤدي إلى هذا الوضع هو أنه، سأستعمل، على حد القول، “علماني”، يجب علينا أن نتحدث عن ذلك في الخطوة التالية، على الطريقة المعتادة والتقليدية التي ما فتئ (Chuck) يحاول الالتفاف حولها عن طريق تقديم لغة “رسمية”.
إذا كانت الأسباب العلمانية تتعلق بسياق الافتراضات – لنقل متعلقة بمقاربة فلسفية أو أي مقاربة أخرى تتميز عن أي نوع من التقاليد الدينية التي لا تشترط العضوية – فإنه من المهم باعتبار أي من الأسباب الدينية أن تكون منجذبًا نحو هاته العضوية ضمن طائفة معينة بسبب شيء واحد: هو إذا كنت عضوًا ولك القدرة على التكلم بصيغة الـ “أنا” حول مجتمع ديني ما، يمكنك عندها تقاسم نوع خاص من التجربة.
إن التجربة الأكثر أهمية – وأنا هنا لا أسعى إلى ترتيب الأشياء من فضلك – تتأتى جراء المشاركة في الممارسات الطقوسية حيث لا “الكانتي” ولا “النفعي” يتوجب عليه المشاركة لتقديم حجج كانتية أو نفعية جيدة. إنه إذن نوع من التجربة التي تم حظرها، على حد القول، أو لم يتم أخذها بعين الاعتبار في هذه المساحات العلمانية حيث يتم تبادل الأسباب والعوامل.
ثانيًا، لا توجد إشارة تمكننا من أن نكون اجتماعيين ومتعايشين في مجتمع ديني يمكن إرجاعه إلى خمس أو أربع ديانات عالمية عظمى ومن ثم إلى أفكار أو أصول تاريخية. تبقى هذه التنشئة الاجتماعية في الحقيقة معتمدة على فهم ما تعنيه، ضمن إطار نوع الأديان لدينا على الأقل، والإشارة إلى نوع محدد من كشف الحقيقة.
إنه لمن الصعب أن نشرح ما يقع في الخارج. لقد نشأت بروتستانتي لوثري، والآن أنا كما تعلمون “غنوصي” لذلك فأنا أمتلك ذكريات حيال تنشئتي الدينية، وهذا ما يجب أن نستخرجه إذا ما أقحمنا في حوار بين الكانتيين والنفعيين، وهو أنه بوجود هذه المذاهب فإنه ليس هناك طريق خاص ومتصل للخلاص. هذا الطريق الذي يعزز الدين، إلى حد كبير، كما نفهمه بطبيعة الحال.
الطريق إلى الخلاص يعني أن تتبع شخصية مثالية خصوصًا تلك التي تستمد قوتها وسلطتها من أصول قديمة أو شهادة شاهد. إن الطريق إلى الخلاص يختلف عن كل أنواع الأخلاق، الأخلاق من وجهة نظري يراد بها كيف يمكن للمرء أن يعيش حياة ليست فقط جيدة من منظور النفعيين، أو ليس مرغوبًا فيها بمعنى الأرسطيين أو الأوغستيين، ولكن في الواقع تلك الحياة حيث يمكنك أن ترى نفسك في المرآة اليوم الموالي دون أدنى إحساس بالحياء، وهذا نوع من الحياة.
إن الإسقاطات الأخلاقية هي في الحقيقة إسقاطات للحياة، الحياة الفردية أو الجماعية، ضمن إطار التاريخ، ودون أن نتجاوز حدود ما يمكننا تعريفه بأنه أحداث مندمجة. هذا هو الفرق.
تايلور (Taylor): لقد طرحت العديد من النقاط المهمة لكني لا أتفق معها كلها، أنا لا أتفق مع فكرة التمييز بين الأخلاق والدين، يتحدث طوماس أكويناس (Thomas Aquinas) عن ثلاثة فضائل لاهوتية تعطي فكرة مختلفة عن طبيعة الحياة الجيدة.
لكن رغم ذلك دعونا نترك هذا جانبًا خاصة أنني أعتقد أن الموضوع الأساسي، والأساسي جدًا هو: ما علاقة كل هاته الحيثيات بالخطاب؟ إذا قلت شيئًا ما كقول “أنا مع مسألة حقوق الإنسان لأن الإنسان خلق على صورة الإله”، وهذا ما نستقيه من سفر التكوين، فهذا في الحقيقة لا يعطي صورة واضحة عن كوني أدين باليهودية أو بالنصرانية البروتستانتية، أو أنه مجرد اعتقاد بأن هذه هي الفكرة المفيدة التي يمكن الإفادة منها في سفر التكوين.
لا أدري كيف يمكن أن نتبع ذلك في أنواع مختلفة من الخطاب – إلا إذا كنا نتحدث عن أنواع أخرى من الخطاب، ومن هنا أقول لك “حسنًا”، كانت لي تجربة رائعة، رؤية العذراء أو القديسة “تيريز” وهلم جرا، وهذا الخطاب له علاقة مباشرة بهذا النوع من التجربة. بعض الأنواع من الخطاب، إذا حاولت أن أضيف إليك تجربة دينية فإنها سوف تكون مرتبطة بشكل مباشر بهاته التجربة.
لكن نوع الخطاب الذي نتقاسمه، مارتن لوثر كينغ كان له خطاب خاص حيال دستور الولايات المتحدة ومتطلباته التي لم يتم اتباعها. كما كان له خطاب مسيحي جد قوي إزاء النزوح الكبير (Exodus) وكذا التحرر. لم يكن لأحد منا أي مشكل في فهم هذا، ولم يكن ضروريًا أن نتصور أو نفهم أو ندرك عمق التجارب التي كان يمتلكها. وكيف يمكنك أن تميز الخطابات على أساس الخلفية النفسية؟
يمكنني في هذا المقام أن أسرد قصة حول الخلفية النفسية التي يمتلكها الكانتيون، ولمَ يتحمسون بسبب بعض الأمور التي تحمسني شخصيًا؟ لكن ما علاقة هذا بالخطاب؟ ألا يستطيع الناس الفهم؟ لماذا التمييز على هذا الأساس؟
هابرماس (Habermas) :الفرق هو أن الكلام الديني ينتمي إلى نوع معين من الخطاب، حيث إنك لا تتحرك فقط في وجهة نظر عالمية أو في تأويل ذهني لمجال ما من الحياة البشرية، ولكنك تتحدث، كما قلت سابقًا، من منطلق تجربة متعلقة بعضويتك في المجتمع. أما مقولة أننا خلقنا على صورة الإله، فهذا في ظروفنا يترجم بسهولة إلى ما يمكن أن يناله الأشخاص من حالة الحكم الذاتي أو من تفسير معين لحالة التسلح بحقوق الإنسان. هذه ليست رؤيتي ولكن يمكنك استخلاصها.
لطرح السؤال – وتمشيًا مع دافعك للرفع من مستوى هذا الاختلاف بين أنواع الاعتبارات أو الأسباب العقلانية – أنا أتساءل إذا كان لي الحق في افتراض أن هناك دوافع ضد إخضاع أسباب ودوافع دينية لأسباب عامة، أو ضد الأشخاص الذين وجدوا أن الخطاب الديني لم يرقَ إلى المستوى المطلوب أو لم يحين بشكل كافٍ، وأنه شيء يرتبط بالماضي؟
ما نقوم به الآن، أعني نحن الاثنين، هو أننا نسير على حد سواء وفي نفس مساحة الاعتبارات الاجتماعية والتاريخية والنفسية. في حين أن دافعك، بطبيعة الحال، هو الاعتبارات الدينية. على كل حال، لماذا يجب عليّ أن أقلق بشأن ذلك؟
الخطاب الذي نتحرك ضمنه لا يحتاج إلى ترجمة، إذا اعتبرنا الخطاب الشفهي الديني، هنا نحتاج إلى ترجمة، لكن إذا اعتبرنا القرارات العامة القابلة للتنفيذ، من أجل إعطاء تفسير للإشارة الواردة في سفر التكوين الأول فهنا نحن كلانا تحرريين.
تايلور (Taylor) : الفرق هو أنني أقول لك أنه لا يمكن أن تملك هذه الأنواع من المراجع لأنها هي المراجع التي تقارب أو تمس بعض الجوانب الحياتية الروحية لبعض الأشخاص وليس آخرين. لكن الشيء نفسه ينطبق إذا أشرنا إلى ماركس (Marx) أو كانت إذاُ، فنحن نحاول أن ننظر إلى، ليس السبب لدينا هو استبعاد تلك الإشارات لأغراض العدالة أو العالمية (الكونية)، ولكن لما يجب أن نعالجها بصفة خاصة – حقيقة مازالت لا أفهم – فقط لأنها تنتمي إلى مجال مختلف. أنا أتفق بالتأكيد أن هناك اختلافات كبيرة جدًا بين عقلانية شخص شديد التدين إزاء الأخلاق وبين عقلانية شخص ليس كذلك. هذا لأن هناك مفاهيم معينة لتحولات بشرية محتملة والتي يؤمن بها واحد دون الآخر. هذه هي القضية بالتأكيد.
من الممكن أنه لدي بعض التعاطف مع الموقف الكانتي، على سبيل المثال، أستطيع أن أفهم خطاب كانت حول “السماء المرصعة بالنجوم من فوق، والقانون الأخلاقي في الداخل” و”احترام القانون” … الخ. أستطيع أن أفهم ذلك. هناك في حقيقة الأمر تجربة وراء ذلك، يمكنني أن أتخيل شخص ما يقول “لا أستطيع أن أفهم ما تتحدث عنه رهبةُ واحترام للقانون؟ هل أنت مجنون؟ بعض الأشخاص لا يستطيع فهم ذلك.
هابرماس (Habermas): أريد أن أحتفظ كذلك بالطابع الأمري للخطاب الديني في المجال العام لأنني مقتنع بأن هناك بديهيات دفينة يمكن أن نكتشفها بمجرد خطاب مؤثر. الاستماع إلى مارتن لوثر كينغ يجعلنا لا نفرق إن كان علمانيًا أم لا، نفهم ما يعنيه، لقد كان يتكلم أمام العموم ولذلك قتل.
هذا ليس ما يفرقنا، إن الفرق بيننا هو أنه في أحد جملك، على الأقل في الورقة، قلت بأن هناك دعوة لتأسيس أعمق لتبرير علماني للأساسيات الدستورية من حيث السيادة الشعبية وحقوق الإنسان. هذا هو الفرق إذن. أظن أني لم أكن أستطيع أن أتبعك لأن اللغة الرسمية التي نتفق عليها تعتمد على خلفية توافق مسبقة – على تجريدها وغموضها – على ما يمكن أن نسميه أساسيات دستورية، لأنه لم يكن ممكنًا أن نذهب إلى المحاكم أو الاستئناف لدى مجالس حقوق الإنسان أو حتى أن نضع أو نقدم حجج بالإشارة إلى الدستور، سواء أكان ذلك في التشريعات أو في الإدارة، أو… أو في التعليم أولاً وقبل كل شيء.
كيف نسوي خلفية التوافق هاته في المقام الأول إن لم يكن يدخل في إطار الاعتبارات المحايدة؟ في الواقع هاته الاعتبارات علمانية من وجهة نظر غير مسيحية، هذا في الحقيقة ما وصفته بشكل رائع في كتابك “A Secular Age” (زمن علماني). العلمنة داخل أسوار الكنيسة يعني هدم جدران الأديرة والحصول على أوامر جدية من الرب ومن ثم نداء “تقليد الرب” (Imitation Christi) ]…[ هذه صورة للعلمنة من داخل المجتمع المسيحي. الآن، في هذه اللحظة عندما تكون مضطرًا للحصول على توافق، خلفية توافق، يمكنك من خلالها فقط أن تطعن لدى المحكمة من أجل حل قضايا حالات ارتداء الحجاب – المسلمون لهم حججهم حيال هاته الحالات – هناك إجراءات ومبادئ.
تخيل لو أن مواطنا أمريكيًا قبل الوضعية الراهنة. هذا هو الافتراض الضروري الذي ينطبق على جميع الخلافات.
خذ موضوع العلمنة من الداخل. في الوقت الذي يجب أن يستبدل التشريع الديني بتشريع ليبرالي، في هاته اللحظة يجب علينا أن نجد اعتبارات مشتركة ليس فقط بين المجتمعات الدينية وفي الولايات المتحدة، ولكن حتى في فرنسا وغيرها من أوساط غير المؤمنين. كانوا يشكلون حزبًا نخبويًا صغيرًا، ورغم ذلك كانت هناك ثلاثة أحزاب: حزب المؤمنين بقوة، وحزب المؤمنين بتوسط، وحزب غير المؤمنين. يجب علينا أن نجد أرضية للحصول على الأسباب أو الاعتبارات التي تشكل الطابع العلماني بصورة غير مسيحية، هذا لأن الشق المسيحي في الخطاب أو النضال كان في النهاية ليشكل الموافقة على وجهة النظر المرتبطة بمجتمعنا الديني أو مجتمعات أخرى دينية أو غير دينية، وكذلك إجبار أو فرض منظور متبادل لنستطيع في الآخر أن نكون منظورًا آخر أكثر شمولاً. هذه الأنواع من الأسباب أو الاعتبارات في حديثنا التقليدي الذي نسميه علمانية بهذا المعنى الخاص التي أود أن ألتحق بها.
كالهون (Calhoun):اسمحوا لي أن أعود شيئًا ما إلى الوراء للمرة الأخيرة. قد نكون هنا بدون وقت كافٍ تقريبًا. إذا ما ركزنا على القواسم المشتركة نرى أن واحدًا منهم يبدو له علاقة بالقدرة على المشاركة من وجهة نظر كليكما في وقت لا أحد له القدرة إلى اللجوء إلى قوة خطابية زائدة. وهذا لا يستبعد مجموعة من القضايا التي من شأنها أن تنطوي على مجموعة من القضايا الدينية.
يبدو كذلك، في الواقع، عندما يتحدث يورغن عن الكلام الديني في المجال العام، وليس كل الكلام الديني على المحك، وليس بدوافع دينية، ولكن، على وجه التحديد، تلك المبررات غير قابلة، أو مؤدية إلى إمكانية التقاسم، لأنها تتركز على شيئين: إما التجارب الطقوسية، والتي استبعد الكثير منها، أو شيء ما خارج المجال السياسي. لذلك فهذا الخطاب ليس كله ديني. فالمصادر الدينية للأخلاق وأشياء أخرى كثيرة تتداخل. لكن هناك أشياء معينة، وهي على وجه الخصوص تطرح إشكاليات إذا كانت تنتج عجزا إزاء تقاسم المبررات.
أعود إلى (تشارلز) وأسأل، ولو بطريقة عكسية، هل تظن أن هناك عجز مماثل إزاء تقاسم وحل، من وجهة نظر خطابية، أنواع أخرى من الاختلافات التي قد تقول إنها جزء من المجموعة نفسها وبالاختلافات الدينية نفسها، وكذلك الاختلافات الأخلاقية، والاختلافات الفلسفية؟ الطرح هنا هو أن هناك العجز نفسه، بصفة عامة، لأن تجد قرارات خطابية كاملة أو مبررات.
تايلور (Taylor): نعم، التفكير في تاريخ الليبرالية. كانت هناك محاولات قاسية من طرف النفعيين للاستيلاء على اللغة في ثلاثينات القرن التاسع عشر، هذا كل ما في الأمر. حتى أن الأشخاص الذين لم يكونوا متدينين بالضرورة يظنون كذلك أن “هذا استيلاء. نحن لا نثق في هذه الطرق”.
إذا أردت التركيز على التفاوض حيث وضعنا كلنا ميثاقًا للحريات من مختلف الناس، فإنه لا يمكن أن يكون كذلك بلغة بنثامية، أو بلغة كانتية أو باللغة المسيحية. ما يسميه يورغن “العلمانية” سأسميه أنا “محايد”. هذه هي الطريقة التي أرى الأشياء فيها، وإنه أمر لا غنى عنه على الإطلاق.
كالهون (Calhoun): لكن هذا لا يبدو أنه قلب الفوارق والاختلافات. يبدو لي أن الاختلافات الأقوى هي أنك، في الواقع، تقول أن ليس مستحيلاً أن تجرد أو تبعد هاته الاختلافات ضمن التزامات عميقة ووجهات نظر عالمية شاملة، سواء أكانت ذات أرضية دينية أم غيرها.
إذن الموضوع أو القضية الخطابية الأساسية هي أنك لا تستطيع أن تجرد الأشياء بشكل كافٍ لكي تكمل الخطاب ومن ثم تسوي الأمور خطابيًا تبعًا لأي من هذه الالتزامات التأسيسية العميقة، إذن فالدين ليس حالة خاصة.
تايلور (Taylor) : نعم، إنه كذلك.
كالهون (Calhoun): في حين أعتقد، إذا أردنا التأكيد، أن يروغن يقول أن هناك ميزات معينة خاصة ويراها في الخطاب الديني أكثر استبعادًا من القرار الخطابي ومن المشاركة والمقاسمة في الساحة الخطابية.
إذن، في وقت وجود إشكالات ممكنة من شأنها جر الكانتيين والهايدكريين للتحدث مع بعضهما. أو أن هناك إشكاليات ممكنة أن تجر أشخاصًا من جنسيات مختلفة للتحدث مع بعضهما. قد يكون هناك قرار خطابي لحل هاته الإشكالات، لكن ليس بالنسبة للمشكلات الدينية بشكل خاص.
هل هذا صحيح، يورغن، أو أن هذا شيء بعيد المنال؟
هابرماس (Habermas): أنا، في المقام الأول، أقول أن هناك اختلافات نوعية بين الديني والعلماني. ثانيًا، مازلت أعتقد أن الدين، علاقة مع شرعنة الأساسيات الدستورية وغيرها، يؤسس للاختلاف بسبب الانصهار التاريخي للدين مع السياسة و التي كان لابد أن تميز بشكل واضح. هذا حقيقة هو الجزء التافه.
إذا تعلق الأمر بخطاب وضع الدستور، فأنا لا أظن أنه يجب أن يكون هناك أي عواقب ذات صلة بالاختلافات النوعية؟
الأشخاص المتدينون ربما يعلمون مسبقًا أن بعض الحجج لا تعول بنسبة كافية على هؤلاء الأشخاص الذين يريدون التوصل إلى اتفاق معهم. هكذا أفكر في طريقة تطوير أسئلة العدالة والتفريق بينها وبين ما هو الوجودي والأخلاقي والديني. في هذا المستوى، لا أحتاج أن أشير إلى أي اختلاف.
كالهون (Calhoun): في هذا المستوى، لا يمكن أن تكون في خلاف قوي معي، أليس كذلك؟
تايلور (Taylor) : لا، لا.
كالهون (Calhoun): الخلاف يكمن في مستوى آخر.
تايلور (Taylor) : أريد فقط أن أخبرك شيئًا آخر. حينما نقول “دين” لا يجب أن نفكر فقط بالديانة المسيحية، فهناك البوذيون، والهندوس. كثير من الأشياء التي قلتها لا تنطبق البتة على حالات كثيرة أخرى مما يدعونا إلى التوقف قبل أن نعطي إشارات عامة حول ذلك.
كالهون (Calhoun) : نعم، هذا ما يثار حوله النقاش خاصة ضمن التجربة الغربية (نسبة إلى الغرب). لكن ما تزال هناك حاجة إلى حزمة من نقاشات مختلفة ضمن مساراتنا التاريخية.
تايلور(Taylor): وهي كلها هنا الآن.
كالهون(Calhoun): بالفعل هي كذلك. وهي نحن.