الرأي

مُبتغَى الآمليــــــن من مؤتمر المانحيـــــــــــن

أحمد عبدالقـــــادرمٌحمَّد أحمد
[email protected]
تبقى أقل من شهر على مؤتمر المانحين في 17 مايو القادم بباريس، وتلك رياحٌ يجب أن نغتنمها فإن الريحَ عادتها السكونُ،أخشى أن تكونهذه مثل كثير من الفرص المهدرة التي ضاعت على السودان منذ استقلاله، ويحضرني هنا ماحدث منتصف سبعينيات القرن الماضي، فبعد تطبيع نميرى مع الغرب عقدوا له مؤتمر مانحين بباريس مثل هذا المزمع،وأبدت الدول الغربية استعدادها للدعم الكامل للسودن، وهبّت كل الوزارات لتعد المشروعات المرجو تمويلها، وبالفعل تم إعداد ملف شامل وطار الوفد الرسمي إلى حيث المانحين الذين احتفوا بالوفد وأبدوا كامل الاستعداد لتنفيذ طلبات السودان، ثم طالبوا الوفد بتقديم طلبات الاستثمار، هنا قدم رئيس الوفد وزير خارجية السودان تحيته للمؤتمر ثم بدأ البحث في كثيب أوراقه وحقائبه عن ملف الاستثمار وقضى وقتاً في البحث دون جدوى،وتعرض وفد السودان لحرج شديد وتصبب رئيس الوفد عرقاً في صقيع أوربا القارس،ضاعت فرصة ثمينة للسودان نتيجةالإهمال والغفلة من ذاك الوزير الهمامالذي دبج آلاف الصفحات عن فشل النخب.
هذا من حيث الترتيب والتنظيم، أما من حيث المضمون فيجب أن تسبق المشروعات المقترحة رؤية تنموية واضحة مبنية على تحليل شامل للوضع الراهن للبلاد. وتتضمن هذه الرؤية احتياجات البلاد الحقيقية ومواردها الكامنة وأهدافه الاقتصادية والاجتماعية، ومن ثم يتم تصميم برامج ملموسة تنتج عنها المشروعات الكفيلة بإحداث مخرج للأزمة السودانية.
ولا شك أن أهمية المساعدات الخارجية يكمن في أنها تردم الفجوة الناجمة عن افتقار السودان إلى رأس المال المحلى اللازم للاستثمار، ويمكن أن تساعد كذلك في تنمية القدرات الإدارية والتقنية في السودان كدولة متلقية، لكن العلاقة بين المساعدات والنمو الاقتصادي ليست طردية دائماً، بل لها شروطها، ولذا فعلينا أولا البحث غن مختلف الطرق التي تجعل هذه المساعدات مؤثرة في النمو، ولابد من الاشتغال على المعطيات المؤثرة في تفعيل دور المساعدات في التنمية، ومواجهة المهددات التى تحول دون الإفادة القصوى من تلك المنح والمساعدات.
لا شك أن المساعدات ستتأثر بالمعدل العالمي المتفق عليه دولياً بين الدول المانحة وهو 0.7% من حجم الدخل المحلي الإجمالي لتلك الدول، وحاصل هذه النسبة قد تضاءل كثيراً نسبة لجائحة كرونا، كما أن الدول المنافسة في تلقي تلك المعونات قد زاد عددها وتنامى احتياجها، ولم يبق إلا القليل، لكن نتوقع أن تصل المساعدات، ووفق تقديرات لا بأس بدقتها إلى 30% من دخلنا القومي كما تشي بعض المقارنات بالمنطقة، وهذا يعنى أن هذه المساعدات من منح وقروض ومعونات قد تتراوح بين 12 إلى 15 مليار دولار، ومن ناحية أخرى، إذا قلنا إن نصيب الفرد من المساعدات ربما يصل إلى 290 دولار في المتوسط حسب مقارنات المنطقة، فإن المبلغ الكليقد يناهز الـ 13 مليار، بما يقارب التقدير السابق.
وأياً كان حجم المبالغ المرصودة للسودان، فالمنشود أن تكون هذه المعونات ميسرة وألا ترتفع نسبة المساعدات المشروطة، فهذه دائماً ماتهدف إلى فتح أسواق الدول المتلقية أمام سلع وخدمات الدول المانحة دون اعتبار لأولويات الدول المتلقية، وكذلك يجب أن يوضع سقف للمساعدات التقنية، فعلى الرغم من وجود دلائل على فعالية تلك المساعدات الفنية كأداة لتنمية رأس المال البشريوالبناء المؤسساتي لكن يجب ألا يتعدى هذا البعد نسبة 15% من جملة المساعدات.
وكذلك لا ينبغى أن يُنظر لتلك المنح والمساعدات وكأنها الدواء الناجع أو العلاج النهائي لمعالجة التحدبات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها السودان، بل المطلوبتحديد العقبات الداخلية التي تحول دون تحقيق التقدم نحو انجاز الإصلاح الاقتصاديوالتنمية الشاملة.
بناءً على ذلك يجب تفادي تخصيص تلك المساعدات لمشروعات محدودة، بل لبرامج تنموية واسعة، بحيث تحقق نهضة في قطاعات كبيرة يمكن أن تكون الحرف القاطع للتنمية (cutting edge)، هذه البرامج تكون ذات عائد مالي ذي ربح مباشر وعائد افتصادي اجتماعي يحقق مردوداً لمجمل الاقتصاد القومي؛ مثل أن يوفر عملات حرة وتشغيل عمالة، ويوفر سلعاً شحيحة ويحقق تنمية في منطقة البرنامج.
وأعتقد أن أهم تلك البرامج ذات الأولوية هو تنمية قطاع المنتجات البستانية في جنوب كردفان، فهذه المنطقةأغنى مناطق السودان وذات إنتاج ضخم من الفواكه لكنها تذهب أكثرها للأرض حيث تأكلها الحيوانات والباقي يعمل على تلوث البيئة نتيجة لغياب وسائل التعبئة والنقل، وبذلك يضيع انتاح ضخم ومهم، يمكن أن يكون هناك برنامج لتطوير الإنتاج البستاني وتصنيع المنتج في شكل مركزات وعصائر وتانغ ومعلبات، يحيث يتجه للتصدير للأسواق العالمية وكذلكلإشباع الأسواق المحلية،أعتقد أن هذا البرنامج قد تأخر كثيراً في السودان، وآن له أن ينفّذ عبر تمويل أجنبي وبيوت خبرة من الخارج.
من المهم أيضاً أن يتم عمل برنامج متكامل للإنتاج الحيواني- الصناعي في غرب كردفان عن طريق تهجين سلالات الأبقار المحلية بسلالات مستوردة وبذا يتضاعف إنتاج اللحوم والألبان ثم تصنيعهما لإنتاج لحوم ومنتجات البان ومنتجات جلود وسماد طبيعيوغيرها من المنتجات التي تجد طريقها للأسواق الخارجية وبذا تتغير المنطقة بأسرها وتزيد انتاجية الأبقار السودانية، هذا المشروع يتطلب موارد كبيرة وأراضي واسعة وخبرات أجنبية في المجال،وكان قد تم اقتراحه منذ الستينيات، إلا أن العقول العقيمة أوقفت تنفيذه.
من أكثر البرامج إغراء وعائداًبرنامج لتنمية الثروة السمكية فى المياه العذبة والمالحة، فالدراسات أثبتت أن نصيب الفرد في السودان من الأسماك في العام لا يعدو ½كيلو، هذا رغم الأنهار التى تجري من تحته والبحر الهادر على جانبه، لكن ضعف الاستثمار في هذا القطاع وبدائية النشاط فيه هو ما حال دون الاستغلال الاقتصادي الجاد، فالواجب البدء في الدخول في هذا القطاع من أوسع أبوابه، وذلك بإيجاد مراكب الصيد الضخمة والقوارب الصغيرة والمصانع المؤهلة ثم العربات المجمدة وبناء الأسواق في جميع المدن الكبرى، بذا نتمكن من الاستثمار الاقتصادي الكفء في واحدة من أهم ثرواتنا الطبيعية.
وللتوزيع العادل للاستثمارات، فلابد من تنفيذ برنامج بمستوى كبير في شرق السودان للمحاجر الطبيعية فهناك امكانات كبرى من المحاجر التى تنتج الحجر الجير والجبص والرخام والبوزولانا والبلاط الطبيعي، هذه الأشياء ثمينة للغاية ويمكن تصديرها خامأ أو تصنيعها كمنتجات جاهزة للاستهلاك المحليوتصدير الفائض ولا شك أن مجموعة من المنشآت في هذا التخصص ستغير وجه المنطقة وتقضي على أحزمة البؤس هناك.
لا بد من إيجادموارد لإقامة صندوق تمويل لإعادة تأهيل القطاع الصناعي يكون مخصصاً للمصانع المتوقفة، فلا شك أن تلك تمثل 80% من مصانع السودان، وهذا يتم وفق أسس اقتصادية ومالية سليمة، إحياء المصانع المتوقفة سيؤدي إلى تشغيل العمالة وإلى توفير السلع وإلى زيادة الدخل القومي والترابط بين القطاعات الاقتصادية المختلفة، وهذا الصندوق سوف لن يتجاوز مبلغ 600 مليون دولار لكنه سيكون مدوراً، لأن المبالغ التى تصرف ستعود ثانية ويتم تدويرها لصناعات أخرى.
لكن لا بد كذلك من إقامة مركز لتسهيل التصدير بحيث يكون حاضنة لكل من يريد التصدير من صغار المنتجين، ويمكن أنيشمل ذلك منتجي الخضر والفواكه،فهناك طلب عالمي على منتجاتهم لكن ليس لديهم نفاذ (access ) للأسواق العالمية فعملية التصدير محتكرة لفئات قليلة، ويجب أن تتاح لكل منتج.
لكن أهم البرامج قاطبة هو قطاع السياحة الإستراتيجي، فالعائد الكامن في هذا القطاع لا يحصي ولا يقدر، فالسودان بحضاراته القديمة لا ينافسه أحد في هذا المجال، فالمعالم الأثرية الظاهرة لا تسوى شيئاً بالنسبة للتى لم تكتشف بعد، وعليه فالمرجو برنامج لتطوير القطاع السياحي فنياً واقتصادياً من حيث الهياكل والأدوات والمنشآت، وذلك بربط الخرطوم بطريق مباشر في الاتجاه الشمالى الشرقي إلى النقعة والمصورات أبرز المعالم الأثرية، ثم بنفس الطريق إلى أهرامات البجراوية ثم الحماداب ليسهل النفاذ للسياح الأجانب والمحليين. يتم تطوير تلك المناطق بالمنشآت السياحية من فنادق ومطاعم وملاهي ومتاحف ومسارح بحيث يمكن أن تؤمها الوفود السياحية من جميع أنحاء العالم، ويصاحب ذلك حملات ترويج ونشر ومطبوعات ومنتجات أثرية، لا شك أن السياحة يمكن أن تعود على السودان بدخل كبير من النقد الأجنبي والمحلى، لكن قطاع السياحة يحتاج لثورة شاملة، ولابد من موارد مالية مقدرة لتحقيق ذلك.
كل تلك البرامج والمشروعات ذات عائد ماليوأرباح عالية يمكن أن تساهم في إقامة مشروعات أخرى، لكن الأهم أن لهذه المشروعات ذات عائد اقتصادي واجتماعى أكبر، حيث تساهم في تحقيق التنمية المتوازنة وزيادة القيمة المضافة للمنتجات الأوليةوتأهيل الموارد البشرية وتوفير السلع الغذائية والاستهلاكية وزيادة الصادرات وإحلال الواردات، وغير ذلك من منافع اجتماعية وسياسية غير منظورة، كما أن تلك البرامج تعدّ مقنعةللمانحين فهي كلها ذات بعد تنموي وصديقة للبيئة كما يفضّلون،وتدخل في إطار مرامي التنمية المستدامة.
هناك فرص استثمارية ذات عائد هائل، لذلك لا بد من حوار على الملأ يتاح للخبراء وذوي التجارب بدلاً عن الغرف المغلقة باجتماعاتها العقيمةوتوصياتها الوخيمة، ولا شك أن إقامة أي من تلك البرامج الكبري يخرج البلاد من وهدتها الاقتصادية الحالية ويحقن التوترات الجهويةوالاثنية.
و لاننسَ أن تغطي جزء من تلك المساعدات برامج أهداف التنمية المستدامة، فلقد فشلنا في تحقيقل أهداف الألفية للتنمية (2000-2015) ولذلك لابدمن محاولة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة (2015-2030) التي تشمل القضاء على الفقر المطلق، تعميم التعليم الإبتدائي، تحسين المستوى الصحي، تخفيض وفيات الأطفال والأمهات عند الولادة، مكافحة الأمراض والمحافظة على البيئة، فلابد من تخصيص جزء من تلك المساعدات لتحقيق جزئي لهذه الأهداف.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى