ما بعد الناصرية – الجزء الثاني..عمرو عادلي
ميراث دولة للتجاوز لا للتجاهل ولا لإعادة الإنتاج
انطلق ثم انحسر الحراك الجماهيري في مصر بين يناير ٢٠١١ ويوليو ٢٠١٤ فكما فتح متظاهرون المجال السياسي بكسر دولة مبارك الأمنية عادوا هم أو غيرهم ليغلقوا المجال نفسه وليأتوا بالجنرال كديكتاتور مفوض من الميدان ثم منتخب من قبل “الشعب” الذي يطمع في عودة الاستقرار بعد سنوات من الاضطراب وغياب الأمن. وإن كان الجمهور الحاضر في الميادين قد أتى وذهب بينما عادت الدولة المصرية العتيدة بسلطويتها كما هي وقد نجت من الحراك الاحتجاجي العارم فإن هذه الدولة لم تتغلب قط على أزمة الشرعية منذ ثورة يناير، ولا تزال سلطة الدولة تبحث عن مصدر لإعادة شرعيتها المفقودة يجعلها تأمن مكر “الشعب” في المستقبل، فلا تزال قطاعات مؤثرة من المصريين ـ تسيست بشكل مكثف أثناء وبعد ثورة يناير ـ تبتغي نظاما اجتماعيا أكثر عدالة ودولة تحفظ كرامة مواطنيها، وينتظرون من الجنرال المفوض والمنتخب حديثا إنجاز ما لم تنجزه الثورة في سنوات الاضطراب التي تلت إزاحة مبارك عن الحكم.
وكان متوقعا في خضم أزمة الشرعية هذه ومحاولات طلبها من قبل النظام الجديد أن يتم استحضار عبد الناصر والناصرية، وأن يتم الترويج للسلطة الحالية باعتبارها امتدادا ما أو انعكاسا ما لدولة عبد الناصر، وبغض النظر عن مدى صدق هذا الإدعاء من عدمه، والذي يظل رهنا بدعاية النظام حول نفسه مما لا يجعل الخطاب بالعمق الكافي للتحليل، فإن استدعاء الناصرية في السنوات التالية على ثورة يناير يثير العديد من الأسئلة، وينبه إلى حقيقة ماثلة أمامنا وهي أن حقبة حكم جمال عبد الناصر كانت هي اللحظة ربما الوحيدة التي تمتعت فيها دولة ما بعد الاستقلال بقدر من الهيمنة بالمعنى الجرامشي للكلمة، وأن سنوات ما بعد جمال عبد الناصر لم تكن سوى تآكل مستمر لهذه الهيمنة الأيديولوجية، والتي تمثلت في أزمة شرعية تلو الأخرى حتى قوضت الدولة السلطوية في آخر سنوات حكم مبارك وأسلمت الدولة ذاتها منذ ذلك الحين لأزمة شرعية مستمرة وعجز عن إعادة إنتاج سلطة الدولة كما كانت.
من الناصرية كحقبة زمنية إلى الناصرية كميراث دولة
إن الناصرية هي ميراث علاقة الدولة بالمجتمع في مصر منذ الخمسينيات وحتى اليوم، هي تلك الصيغة من دولة ما بعد الاستقلال التي تتبنى تصورا فوقيا وسلطويا عن الحداثة يصادر السياسة أو ينفيها جملة، ويضيق ذرعا بتمثيل المصالح وبالتعددية السياسية، ويخضع المجال العام للرقابة الأمنية، ويقيم مشروعه السياسي على الحديث باسم “الشعب الذي سيكون” على حد توصيف شريف يونس في كتابه “نداء الشعب”، الشعب لا الشعب القائم عند ممارسة الدولة لسلطتها من أجل التحديث، ومن ثم خلق الشعب الذي سيكون خليق بالدولة الحديثة.
إن الميراث الناصري بهذا المعنى يتجاوز النظام السياسي الذي كان قائما في عهد عبد الناصر، ويتجاوز قطعا التغير في السياسات الخارجية والاقتصادية الذي وقع في عصر خلفائه، وينفذ في المقابل إلى بنية الدولة المصرية، لا ككيان قانوني أو بيروقراطي كما يحلو للكثيرين الحديث بل باعتبارها جملة علاقات اجتماعية تتحدد من خلالها مفاهيم السلطة وممارساتها، إن الناصرية بهذا المعنى باقية بيننا حية ترزق، لم تنته بوفاة عبد الناصر، ولم تنته باختيار السادات تبديل السياسة الخارجية من مقاومة الاستعمار إلى الدوران في فلك الإمبراطورية الأمريكية، ولم تتعرض للقطيعة الكاملة مع وقوع الانفتاح الاقتصادي، وإعادة تشكيل التحالف الاجتماعي الذي تقوم عليه الدولة لأن العلاقات الرابطة بين الدولة والمجتمع قد ظلت كما هي منذ مطلع الخمسينيات، ومنذ استواء عبد الناصر على كرسي الرئاسة ومرورا بعصري السادات ومبارك، وهي بالقطع حاضرة اليوم، وإن كانت في أكثر أشكالها تأزما وإشكالا. إن التحولات التي حدثت في السياسات العامة خارجية كانت أم اقتصادية بين عهد عبد الناصر ومن خلفه هي فحسب انتقال كما عبر شريف يونس قبلا من يسار الناصرية إلى يمينها لا أكثر ولا أقل.
إن الناصرية هي الدولة والمجتمع المصريين وما بينهما، هي هما ببساطة شديدة بكل الإيجابيات والسلبيات، هي نحن في قول آخر. ولذا فمفردات وشعارات الناصرية حاضرة بقوة في هذه اللحظة التي تتعلق بإعادة تأسيس شرعية السلطة السياسية أي شرعية الدولة بعد ثورة يناير، إن الناصرية حاضرة بقوة في خيال العدالة الاجتماعية، وتصورات الاستقلال الوطني، وحتى المفاهيم المستقرة عن المواطنة والحداثة والتقدم من واقع تجربة هذا المجتمع. وليس حضور الناصرية متمثلا فحسب في مفردات تيار فكري أو أيديولوجي في المجال السياسي أو في الإعلام والصحافة أو حتى داخل جهاز الدولة، بل إنها هي تلك الممارسات اليومية للسلطة ولمفاهيمها كما تنتج ويعاد إنتاجها من غالب المصريين، وإذا شئت فلتقل إن الدولة الناصرية هي دولة ما بعد الاستقلال الحداثية ـ ولا أقول بالضرورة الحديثة لأن الحداثة كانت أساس شرعيتها ومشروعها الأيديولوجي المعلن ـ التي كانت موضوع ثورة يناير في الأساس، ولا تزال هي محط كافة المطالبات بالتغيير والتعديل أو المحافظة.
بين التجاهل وأحلام إعادة الإنتاج
تنوع الموقف من ميراث الدولة الناصرية منذ ثورة يناير بين التجاهل وإعادة الإنتاج في المقام الأول، فأما إعادة الإنتاج فهو موقف ما يسمى بالتيار الناصري الأيديولوجي المتمثل في أحزاب وساسة ومثقفين يدعون الناصرية كمدخل لممارستهم السياسة وتأثيرهم على المجال والنقاش العامين، وهو التيار الذي ينطلق أصلا من رؤيته لذاته وللعالم بأن ثورة يوليو ١٩٥٢ كانت حركة تحرر وطني واجتماعي في جوهرها، وأنها قد أطلقت العنان لإنشاء مجتمع مصري حداثي وعادل وحر، وأنها انتهت أو قل أنهيت بتآمر الاستعمار والرجعية ممثلة في قرارات السادات بإعادة توجيه السياسة الخارجية شطر الغرب، وبتبني الانفتاح الاقتصادي الذي فكك تحالف قوى الشعب العامل، وأحدث تحولا نوعيا في طبيعة التحالف الاجتماعي الذي تستند إليه دولة ما بعد الاستقلال، ولهؤلاء فإن الناصرية قد انتهت في ١٩٧٤ ليبدأ طور الفساد والانحطاط، والذي كان لا بد أن ينتهي بثورة شعبية يدعمها الجيش ترد الدولة مردا جميلا إلى الناصرية الحقة، ولا يرى هؤلاء إلا سبيلا واحدا لميراث الدولة الناصرية ألا وهو إعادة الإنتاج أو قل العودة للأصول بتبني مواقف وسياسات عبد الناصر، وإحياء تجربة الخمسينيات والستينيات، ويأخذ هذا الموقف أشكالا متعددة تتراوح من الدفع بأطروحات معينة حول دور الدولة في الاقتصاد وموقف مصر من القضية الفلسطينية والولايات المتحدة إلى الحديث عن ناصرية جديدة تستلهم من اليسار الجديد، إلى تهيؤات من عينة أن السيسي هو عبد الناصر، وأنه سيضرب شبكات الفساد التي تشعبت في الدولة والاقتصاد منذ انفتاح السادات وفي ظل حكم أسرة مبارك، ويعيد لمصر استقلالها الوطني عن الولايات المتحدة.
ويرد على هؤلاء طيف واسع من خصوم السلطوية عامة والناصرية خاصة، الذين يرون أن الناصرية كحقبة عبد الناصر كما يراها الناصريون قد انتهت إلى غير رجعة، فلا الظرف العالمي يسمح بتكرارها، ولا الدولة تملك من الموارد الاقتصادية ما يكفي لبعث التحالف الاجتماعي القديم الذي يضم العمال والطلاب والجنود في إطار اتحاد قوى الشعب العامل، بل وبعيدا عن الظرف الاقتصادي والعالمي فإن هناك عوامل اجتماعية وثقافية شديدة الوطأة تحول دون اكتمال إعادة إحياء الأبوية السياسية مرة أخرى لدى شرائح واسعة من الطبقات المتوسطة وخاصة الشباب منهم. يتفق هنا الناصريون وخصومهم في شئ واحد وهو تعريفهم للناصرية باعتبارها حقبة حكم جمال عبد الناصر لا بنية علاقة الدولة بالمجتمع في مصر، وأن بين عصرنا هذا وبينها كحقبة زمنية تحفل بممارسات سياسية معينة قطيعة هي حكم السادات ومبارك، ومع الاتفاق على التعريف فإنهما يختلفان بالطبع في المشروع فبينما يذهب فريق إلى أن إعادة إنتاج الناصرية هو الحل للدولة والمجتمع فإن آخر يرى أن هذا إما غير ممكن وإما لا يجب أن يكون، وينقلنا هذا إلى التعامل الثاني من الدولة الناصرية وهو بالتجاهل.
التجاهل والهدم
يرى طيف واسع من خصوم الناصرية أنها عبء ثقيل وميراث كريه لدولة سلطوية فاشلة عمدت إلى تحطيم المجتمع تحطيما بالقضاء على السياسة، وحظر التنظيم والاجتماع وتقويض حرية التعبير، وبإقحام الجيش في السياسة والاقتصاد على نحو لا يبدو أن منه خلاصا، وفي هزيمة ١٩٦٧، وتوحش إسرائيل الذي تلاه، وقد يختلفون أو يتفقون في صلة أو نسبة السادات ومبارك بعبد الناصر والناصرية إلا أنه بالنسبة لهم أن الناصرية ميراث لابد من هدمه إذا كان قائما أو الحفاظ على القطيعة معه إذا كان قد زال بالفعل بانتهاء حقبة عبد الناصر، ويتعدد هؤلاء بين ليبراليين ويساريين (من غير اليسار القومي الناصري بطبيعة الحال) وإسلاميين، أي التيارات الثلاثة التي تم إقصاؤها من المجال العام مع استواء الأمر لناصر وفريقه من الضباط في مطلع الخمسينيات، فهؤلاء يجدون أنفسهم على خصومة مع الناصرية كتجربة وقطعا كأيديولوجيا، وقد يرون أن سلطوية وفشل الدولة المصرية اليوم هو امتداد للبذرة التي زرعها عبد الناصر وصحبه كدولة أمنية مستبدة تتسلط على المجتمع ولا تخضع له، ويرون ثورة يناير في هذا السبيل ثورة في حقيقتها على دولة يوليو ١٩٥٢، وتصحيحا للمسار الذي بدأ حينها، ولا يرى هؤلاء أن التحول بعيدا عن سلطوية الدولة في مصر إلا من خلال تفكيك الدولة الناصرية إما للوصول إلى صيغة ديمقراطية ليبرالية أو صيغة إسلامية أو حتى صيغة يسارية بالمعنى الماركسي.
إن رؤية هذا الطيف للدولة الناصرية هي رؤية غير مركبة لأنهم يرون الناصرية معبرة عن الملامح المؤسسية والأيديولوجية لدولة سلطوية مفروضة على الشعب المصري منذ انقلاب يوليو ١٩٥٢، وأن الشعب قد ثار ضدها من أجل الديمقراطية والحرية والكرامة في يناير ٢٠١١، ولا يرى هؤلاء ـ أو على الأقل لا يحاولون تفسيرـ أن الناصرية ذاتها بمفاهيمها للعدالة الاجتماعية والكرامة والاستقلال الوطني كانت حاضرة في قلب خطاب الثورة ذاته ضد الدولة، وأنه في السنوات التي تلت ثورة يناير كان استحضار تجربة الناصرية وشعاراتها ومفرداتها من أكثر المصادر ثراءا لخطاب الثورة حول العدالة الاجتماعية، هذا ناهيك بالطبع عن الدور الذي أسهمت به الإنتليجينسيا الناصرية منذ العقد الأخير من حكم مبارك في زعزعة شرعية النظام على أساس أنه مستبد وعميل للإمبريالية وفاسد.
أثبتت التجربة العملية فيما بعد ثورة يناير أن الناصرية ميراث حي للدولة والمجتمع، ولا يمكن اختزالها فحسب في سلطوية الدولة، وأنه ليس بالإمكان تجاهلها ناهيك عن هدمها، فلا يزال الليبراليون يواجهون صعوبة صياغة خطاب شعبي أو جماهيري يدور حول الحريات السياسية والمدنية واحترام حقوق الإنسان، ويصطدمون في هذا بالميراث الناصري لدى جمهور واسع ثار ضد مبارك وفساده بيد أنه يرى أن الحرية تكمن في توفير العيش وفرص الحراك الاجتماعي من خلال التعليم، وفي الاستقلال الوطني وليس بالضرورة في التعددية السياسية والحزبية ولا حتى في احترام حقوق الإنسان، ولا يزال اليسار الماركسي وما بعد الماركسي ـ الديمقراطي ـ يناضل من أجل صياغة خطاب متحرر من ميراث اليسار القومي أي يسار الناصرية في قول آخر، هذا بينما كان على ممثلي الإسلام السياسي أن يشهدوا الاستدعاء الكثيف لذكرى ناصر والناصرية ولشعارات حقبته كأحد أهم روافد الوطنية المصرية والمشروع الحداثي في صياغة الخطاب المناهض لهم، والذي سيخرجهم آخر المطاف من زمرة الجماعة الوطنية في الشهور التالية على يونيو ٢٠١٣.
ولنتأمل استدعاء الميراث الناصري في أعقاب ثورة يناير، والذي جرى على أساس أن الناصرية كعلاقة بين الدولة والمجتمع تعبر في نهاية المطاف عن صيغة من صيغ التحديث السلطوي الذي أنتجته الحركة الوطنية المصرية منذ مطلع القرن العشرين، وقد جرى استدعاء الناصرية كتعبير عن ذلك المشروع الحداثي المفقود أو على وشك الفقد في مواجهة مشروع الإخوان السياسي باعتباره مشروعا ظلاميا يهدف لتفكيك الدولة الوطنية لصالح صيغة دولة دينية تستمد شرعيتها في آن من خطاب طائفي، وفي آن آخر من خطاب التكفير والتجهيل ضد المعارضين، وفي آن ثالث من خطاب ذكوري يحتقر النساء ويرى الانقضاض على مكتسباتهن الاجتماعية نقطة انطلاق لمشروع الهيمنة السياسية، وذلك من خلال تبني الديمقراطية كجملة إجراءات يعبر “الشعب” من خلالها ومن خلال الأغلبية الإجرائية
عن رغبته في التمكين للمشروع الإسلامي، والذي يترجم إلى التمكين للإخوان من الاستمرار في الحكم من خلال نظام سياسي يقوم من الناحية الفعلية على تأسيس الشرعية السياسية للدولة على أنها دولة الرسالة التي تسعى لتطبيق الشريعة، وتكرس الممارسة السياسية لاستقطاب يشمل الأغلبية الإجرائية من المسلمين أو الإسلاميين في مواجهة أقلية إجرائية وموضوعية في الوقت ذاته من العلمانيين والأقباط وغيرهم من الأقليات التي تريد أن تحول دون تحقق الهدف من الديمقراطية الإجرائية هذه بإنشاء دولة دينية في نهاية المطاف.
إذن فقد جرى استحضار الناصرية ـ كتراث حداثي ـ يجري الانطلاق منه للدفاع عن الدولة الوطنية الحديثة، والتي على سلطويتها واستبدادها وفشلها في كثير من الأوجه، وعلى رأسها فشلها في القضاء على الطائفية أو التمييز ضد النساء بل وتحول هذه الممارسات إلى ركائز لإعادة إنتاج سلطتها من الناحية الفعلية وإدارة تحالفاتها المحافظة ليس فحسب في عهدي السادات ومبارك بل ورجوعا لأيام عبد الناصر نفسه، إلا أن هذا كله لم يقف كدليل مقنع وكاف للكثيرين لإسقاط أسس المشروع برمته وإحلال محلها أسسا بديلة تقوم في جوهرها المعلن على التأسيس لدولة دينية رسالتها التعبير عن علو أو استعلاء الذكر المسلم ابن الطبقة المتوسطة، ففشل الدولة الناصرية ـ التي هي الدولة الحديثة في مصر في أكثر من نصف القرن ـ في تحقيق أغلب ما أسست هي شرعيتها التحديثية السلطوية عليه لم يعن إمكانية تفكيك أسس شرعيتها نفسها لصالح دولة دينية أو نظام للملل الدينية والطوائف أو للفوضى وشرعية من يحمل السلاح في الشارع. ويردنا هذا إلى جوهر الإشكال أن جزءا رئيسيا من خطاب الثورة كان نقدا ناصريا للدولة الناصرية، وأن هدم الدولة الناصرية لا يكون إلا لبنائها في حقيقة الأمر تماما كدورات الإصلاح الديني الكبرى التي تقوم لتقوض الصيغة الحالية للدين لا للإتيان بجديد أو لاستحداث دين آخر بل لرد الدين لأصله ـ الحقيقي أو المتخيل ـ وما التجديد ـ في اللغة ـ إلا عودا للجد، والجد هو الأصل والجذر.
وماذا قال هيجيل؟
إن التناقض البادي بين كون الناصرية هي جوهر علاقة الدولة السلطوية بالمجتمع، والتي كانت محطا للاحتجاج والثورة في يناير وما بعده، وبين كون الناصرية كمحتوى أيديولوجي رافدا مهما من روافد تشكيل خطاب وخيال ثورة يناير وما بعدها يمكن حله إذا تناولنا القضية بشئ من الجدل. كان فيلسوف الجدل الألماني الأشهر فريدريش ويلهلم هيجيل يرى أن تحقق الشئ هو فناؤه، بمعنى أن سعي الشئ إلى تحقيق ذاته يعني صيرورته إلى شئ آخر مختلف عنه، ومن ثم فناؤه هو نفسه فالدولة الناصرية قامت من أجل إنجاز أهداف الحركة الوطنية المصرية التي انطلقت في مطلع القرن العشرين، والتي كان مشروعها إنجاز استقلال تلك الرقعة الجغرافية المسماة مصر بإجلاء الإنجليز عنها وبالعمل على خلق “شعب مصري” واع بذاته ليعيش على أرض مصر تلك، وقد كان هذا هو جوهر المشروع الناصري إلى حد كبير، وأساس شرعيته السياسية بدءا من تربع عبد الناصر على كرسي الرئاسة وانتهاءا بمبارك، فقد تحقق الاستقلال الوطني بإجلاء الإنجليز ثم بتحرير سيناء من إسرائيل، وفي خضم الصراعات العسكرية كان مشروع إنشاء “شعب” ليعيش في الدولة يجري على قدم وساق من خلال بناء وإعادة بناء المؤسسة العسكرية لتخوض بها الدولة صراعات الحدود والجلاء، وبتعميم التعليم الأساسي، والتوسع في التعليم الجامعي، وبتوسيع البيروقراطية الحكومية لاستيعاب المتعلمين الداخلين للسوق، وبالتوسع في التصنيع الثقيل وفي التحضير ـ أي سكنى المدن ـ وفي نشر الثقافة من خلال السينما والمسرح والتلفزيون، وكانت الخلاصة أن شعبا بالفعل قد ظهر، لم تبدأ الناصرية هذا المشروع بل استكملته إذ أن بداياته قديمة ربما تعود لمشروع محمد علي التحديثي ذاته.
كان تخليق “الشعب” الذي يليق بدولة ما بعد الاستقلال منجزا من منجزات الدولة الناصرية، ومشروعها في التحديث السلطوي الآتي من أعلى، وكان في تحقق هذا فناء الناصرية نفسها إذ لم يعد للدولة أن تتحدث باسم الشعب الموجود في علم الغيب، وأصبح ممكنا أن يحل الشعب محل الزعيم رمز الدولة والاستقلال ورمز الكرامة لينادي بما كان ينادي هو به، وليس عجيبا أن يكون أول من يتمرد سلطوية الدولة الناصرية وهزيمتها العسكرية هم القواعد الناصرية نفسها التي صنعت على عين الدولة ذاتها، وهو ما كان في مظاهرات الطلبة في ١٩٦٨ و١٩٧٢، والتي خرجت لتسائل الدولة عن مشروعها الأصلي باعتباره مشروع الشعب هذه المرة، ولا يختلف هذا الأمر كثيرا عن استدعاء الناصرية بشعاراتها ومفرداتها ضد الدولة ناصرية الجذور ذاتها في يناير ٢٠١١، أو كما رأى خالد فهمي الثورة المصرية في قراءة هيجيلية بامتياز: المصريون يمدون أيديهم حتى يحوزوا ملكية الدولة التي بدأت كملكية خاصة بما وبمن فيها للباشا محمد علي وأسرته، ثم نتج في خضم عملية التحديث مصريون يعون بأنفسهم وبدولة الباشا، ثم حل محل الباشا بيشوات آخرين كانت شرعيتهم لا تستمد من تمليك السلطان العثماني لهذه الدولة إياهم بل بالحديث باسم المنتسبين لها، حتى كانت لحظة تملك المصريين للدولة المصرية، إنه النقيض الكامل لدولة الباشا التي كان تملك المصريين ـ أو من أصبحوا مصريين فيما بعد ـ ولكنه النقيض الناتج عن دولة الباشا ذاتها، والتي لولا تجربتها الحداثية السلطوية بكل ما فيها من قسوة وتسلط ما كان ليظهر المصريون كفاعل في التاريخ. وبلغة شريف يونس الدولة الناصرية أنتجت الشعب الذي طالما سوغت سلطتها باسمه، هذا الشعب الغائب أو المغيب قد حضر، فحانت ساعة انتهاء الصيغة التي قامت عليها الدولة أو قل إنهاء هذه الدولة لذاتها ولمبرر وجودها، وذلك ليس لأنها فشلت بل لأنها قد تحققت.
[أتوجه بالشكر الخالص للصديق الدكتور شريف يونس أستاذ التاريخ بجامعة حلوان على قراءته وتعليقه على المقال قبل نشره.]