(لم يعد لأوروبا ما تقوله للعرب) لخالد زيادة فهم الثورات العربية في ضوء التاريخ …. رامي زيدان
يحاول الباحث والأكاديمي خالد زيادة في كتابه “لم يعد لأوروبا ما تقدّمه للعرب” (دار شرق الكتاب) النظر في تاريخ العرب الحديث، على ضوء العلاقة مع أوروبا والحداثة، بإنجازاته واخفاقاته، وهو قراءة للتيارات الكبرى الفكرية والعقائدية، ومحاولة فهم الحاضر في ضوء الماضي.
اللافت في أسلوب خالد زيادة الكتابي أنه يقرأ التاريخ والأحداث بطريقة سردية حكائية مبسطة خالية من التعقيدات والمفاهيم وحتى الهوامش، ويتقصى مراحل العلاقة بين العرب والمسلمين والاوروبيين بدءاً من مسألة أنهم “جيران” أو محكومون بالتجاور، فليس ثمة شعب من شعوب العالم يملك هذا التاريخ المشترك مع أوروبا مثل العرب والبربر والأتراك من المسلمين. إنه تاريخ طويل يمتد مسافة أربعة عشر قرناً من الصراعات والتبادلات والحروب المتنقلة من غرب المتوسط الى شرقه. وأصبحت هذه العلاقة التجاورية مصدراً للقلق مذ صارت أوروبا مركز الحداثة في العالم.
يرى زيادة أن أوروبا ما كانت لتكون ما هي عليه لولا تأثير الاسلام والمسلمين، في تشكيل هويتها. ويستشهد في هذا الخصوص بالمؤرخ الانكليزي مونتغمري واط، الذي اعتبر التهديد الاسلامي الاندلسي المبكر أيقظ الهوية الاوروبية وربطها بالمسيحية. على “أن التاريخ ليس دورات من الفعل ورد الفعل” بحسب زيادة، لكن هنا في هذا المحيط المتوسطي يحدث أن ألف سنة من التاريخ تشهد على موجات من التأثيرات العميقة والبعيدة المدى. ففي القرنين التاسع والعاشر الميلاديين كان التهديد الاسلامي قد ولد في الغرب الأوروبي ما عرف باسم الخوف من الإسلام، وبعث في الأوروبيين روح التحدي والعدوان التي أدت إلى إعلان الكنيسة الحروب الصليبية والزحف لاسترداد بيت المقدس. كان التهديد في ما مضى يأتي من الحدود، أما اليوم فإن ما يبدو تهديداً في بعض الاوساط الأوروبية، لا يأتي من الحدود وإنما يتمثل في حضور المسلمين في المدن الأوروبية.
يقرأ زيادة بعض الجوانب الأوروبية وتأثيراتها على العرب والمسلمين مثل عملية التحديث والنهضة والثورة، وصولا إلى الحركة الاصلاحية الاسلامية التي سعى روادها إلى مواءمة الاسلام مع العصر واسباغ العقلانية في التفكير في مسائل الايمان وقضايا الفقه، والتحرر من القيود والطقوس والخرافات. إلا أن الاصلاحية لم تتحول الى عقيدة او حزب، ولم تستطع الصمود أمام التيارات الراديكالية القومية والاشتراكية ولا التيار الاسلامي (الأصولي الاحيائي) الذي نشأ في كنفها وانقلب عليها، وراح يرفع شعارات “الاسلام هو الحل”. إن العلاقة مع الغرب تواكب هذا الكتاب بها في كل فصوله طالما أن التطورات التي شهدها العالم العربي كانت بتأثير من هذه العلاقة، والتي اتسمت خلال أغلب المراحل بالعداء الذي عبرت عنه أغلب خطابات التيارات السياسية على تباينها، الى جانب أن كل التطورات التي شهدها العالم العربي منذ بداية القرن التاسع عشر هي نتيجة لهذه العلاقة المتوترة ليس مع السياسات الأوروببية الغربية فقط، لكن مع التقدم العلمي والتقني الذي احرزته في العلوم والأفكار والقيم التي تحدّت بها الثقافات التقليدية.
يقر زيادة بأنه حين كان يهم بكتابة الفصل الأخير من كتابه، اندلعت الثورة في تونس وسرعان ما انتقلت عدواها إلى ليبيا ومصر. وكان المؤلف في القاهرة يوم 25 يناير 2011. من هذا المنطلق يرى في تصدير الكتاب أن “الثورات التي شهدتها البلدان العربية فصول لا تزال في بدايتها” و”ما نشهده هو طي حقبة من اليأس والقنوط والتقهقر المادي والفكري خلال ما يزيد على نصف قرن من الزمن. مع ذلك فإن ما يجري هنا وهناك يبعث الآمال بقدر ما يثير المخاوف والشكوك”. الثورات العربية موجة لم تستقر بعد، ولن ندرك كل آثارها إلا بمرور سنوات. وهي اقرب إلى الموجة الثورية التي شهدها العالم العربي في بداية القرن العشرين، والتي غيرته تغييراً جذرياً. يعتبر زيادة انه “لا يمكننا أن نفهم مسارات هذا التحول الذي يجري اليوم إلا بالعودة الى التاريخ”، ويجدر بنا ان نحدد موقع هذه الثورات من التاريخ اولا، ثم التاريخ الأكثر اغراقاً في التاريخ. حين سقط النظام في تونس، فإن تجربة هذا البلد منذ الاستقلال وضعت موضع التساؤل: ذلك أن الثورة عرّضت كل التجربة البورقيبية للامتحان. وقد حدث شيء مماثل في مصر، حين تعددت الاسئلة واختلفت الإجابات: هل ما شهدته مصر في مطلع عام 2011 هو امتداد لثورة يوليو 1952؟
الفكرة الجوهرية التي يقدمها كتاب “لم يعد لأوروبا ما تقوله للعرب” هي أن الثورات العربية تطرح الشعارات التي رفعتها بين ما هو متصل بالواقع الراهن، وما هو متصل بشعارات زمن النهضة، وأبرز مثل على ذلك المبادرة في كل بلد عرف الثورة، الى صوغ دستور جديد عبر هيئة تأسيسية كأننا في بداية تأسيس الدولة. إلا أن ثمة اختلافات أساسية تبعد الثورات الراهنة عن ثورات بداية القرن السابق التي كانت قد عبّرت عن النزوع إلى الحياة الدستورية والتحرر من العثمانية، باسم العروبة والتحرر من الاستعمار، وساهمت في ظهور قوى مجتمعية صاعدة وفي تجاوز الماضي وإطلاق الافكار الجديدة. تحولت تركيا إلى العلمانية الكمالية واختارت مصر الليبيرالية في ظل الملكية. وتحول المشرق إلى العروبة والإصلاح.
يضيف زيادة “ان ثورات العالم العربي الراهن لا تدفعها الأفكار الكبرى وانما تدفعها قضايا العيش والكرامة والعدالة الاجتماعية كحقائق انسانية شاملة”. ويستنتج أننا وصلنا اليوم الى طريق مسدود بين اتجاه النخب ذات الثقافة الغربية التي أصبحت بعد تجارب القرنين الماضيين تعبّر عن قسم وازن من الطبقة الوسطى، واتجاه النخب ذات الثقافة الإسلامية التي تعبّر عن قسم آخر وازن من الطبقة الوسطى والقسم الأكبر من الطبقة الدنيا.