المرأة ولية .. وأنثى .. قراءة في نصّ ابن عربي- د. سعاد الحكيم – لبنان
المرأة ولية .. وأنثى .. قراءة في نصّ ابن عربي- د. سعاد الحكيم – لبنان
يقولون في ابن عربي مايقولون، وتظل تربة ضمت رفاته في قاسيون وجهة اتقياء زائرين، وتستمر تجربته الروحيّة مداداً لكتابات عارفين عالمين، ومتطلعين متعلمين.
ومابين عوام يعتقدون ولايته، ويتبركون بزيارته، وبين خواص أرباب تدوين وتسطير، يغمسون أقلامهم في تصورات فكره ولحظات تجربته، مسافةٌ لا يردمها إلا تفرّد شخصه، الذي استطاع وصل القمة بالقاعدة.. فارتقى عوالي مراتب الخصوصية، دون أن يفارق جموع عوام المسلمين.
لذا، يكون الرجوع إلى نصه وإلى حياته، وخاصة في موضوع المرأة، هو اطلاع على موقف عالم إسلامي كبير، اتحد فكره بوجوده، بحيث إننا كثيراً ما نكمل بحثنا لفكرة من أفكاره بالنظر في تفاصيل حياته.
واقترح قراءة للمرأة في نصوصه وحياته من منطلقين، وبموجبهما سوف أقسم بحثي:
المنطلق الأول، ننظر إلى المرأة ـ الفرد، ونبحث مفاهيم ابن عربي وتجاربه بخصوصها، كذات وشخص له هوية وإمكانات، وله كمال يخصه في مقابل كمال الرجل.
المنطلق الثاني: ننظر إلى المرأة ـ الآخر، ونقرأ نصوص ابن عربي وحياته حول المرأة في علائقها، وفي وجودها كجزء له دور في شبكة علاقات تمتد رقائقها منها لتتصل بالوجود بأكمله.
واعتقد أن هاتين المقاربتين للمرأة، سوف تجعلان بحثنا ينفذ إلى القضايا الجوهرية الخاصة بالمرأة على امتداد التاريخ، وصولاً إلى يومنا الواقع على مشارف القرن الواحد والعشرين، ويفتح أيضاً آفاق قناعات جديدة علها تخدم أجيال مستقبلنا.
I : المرأة ـ الفرد
يزدوج النص الصوفي في نصين، عندما ينظر إلى كينونة المرأة، وعندما يتعاطى مع إمكاناتها وأهلياتها وحدود قدراتها:
النص الأول: يبطن، وإن كان لا ينص صراحة، القول بقصور المرأة، وعدم أهليتها للتصدي للحياة العامة، لذا يحبسها في إطار الحياة الأسرية الخاصة.. والمرأة الكاملة في هذا النص هي الأم الحاضنة المربية، والزوجة الصالحة المدبرة، الودود الصبور الشكور.. هي الأم والابنة والأخت والزوجة.. لا كينونة ذاتية لها، بل كينونتها عين أدوارها وعلاقاتها الأسرية، والمسرب الوحيد من هذا السد الأسري يفتح على خارج الكون، ويظهر في علاقتها بخالقها ومعبودها.. وهنا أيضاً الكثير من الضوابط والعديد من الاستحسانات، التي تحثّها على جعل علاقتها باللّه علاقة ثنائية بعيداً عن الجمع والجماعات.
أما النص الثاني فهو أكثر التفاتاً لجهة كينونتها الذاتية، وأكثر إضاءة لأهليتها الروحية، وقدراتها في مجال الرياضات والمجاهدات، وبالتالي يفسح لها مجالاً في مراتب الولاية الذكورية بالأصالة.
ومن خلال إشارات لنساء متصوفات، أفراد في حقل التصوف، نستشف نحن أهلية المرأة كجنس للعرفان والقرب الإلهي، وبالتالي مشروعية أخذ الرجل عنها، وتربيته في مجالسها، وتأدبه بنهجها وطريقها.
هاهو الحسن البصري يقول لصحبه مدللاً على شخص السيدة رابعة: هيّا بنا إلى المؤدبة.. وفي مجلسها تتداول مع أهل النخبة من الحضور، فنرى من طرحهم جميعاً لمفاهيمهم الصوفية علو تجربتها على تجربتهم، وبالتالي يصبح نصها هدفاً لمجاهدة رجل وتحققه من أمثال الحسن البصري ومالك بن دينار.. ويقول عنها محيي الدين بن عربي: رابعة العدوية المشهورة التي أربت على الرجال حالاً ومقاماً1-.
وهذه أيضاً فاطمة النيسابورية أستاذة ذي النون المصري؛ وهذا أبو يزيد البسطامي يقول لشيخ الملامتية: تعلّم الفتوة من زوجتك.. فالمرأة هنا، بشهادة البسطامي، وضعت قدمها في مقام يقصّر عنه أبطال الرجال، لأن الفتوة اقتحام وقوة ونصرة.
وبطل شيخ الصوفية الأكبر ـ ابن عربي ـ ليذهب في الموقف الثاني إلى نهاياته الأخيرة.. أما نقطة البداية فكانت ـ في رأينا ـ تجربته السلوكية التي أفسحت المجال أمام قناعاته الفكرية بالأهلية الروحية للمرأة، لذا ننطلق من هذه الأهليّة الروحيّة لننظر في أهليّة المرأة العلمية وأهليتها السياسية.
1 ـ الأهلية الروحية.. ولاية المرأة:
يافعاً خدم ابن عربي بنفسه سنين، امرأةً من العارفات بإشبيلية.. لها حال مع اللّه، هي فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي، والتي تقول عن نفسها2-، إنَّ اللّه اعتنى بها، وجعلها من أوليائه واصطنعها لنفسه.
ومما يلفت النظر قول ابن عربي أنه خدمها سنين، فهو ـ بحسب معرفتنا بمسار حياته الصوفية ـ لم يخدم رجلاً من العارفين سنين. كما أنه لم يعترف لرجل من العارفين بالولادة عليه، ولادة روحية معنوية، هي وحدها ناداها بقوله: يا أمي.
وإذا توقفنا عند تعليمها له نرى بدايات وحدته الوجودية، تقول لابن عربي: “عجبت لمن يقول إنه يحب اللّه ولا يفرح به وهو مشهوده، عينه إليه ناظرة في كل عين، لا يغيب عنه طرفة عين3-“.
.. وعندما تسأله: “ياولدي ماتقول فيما أقول، يجيبها: يا أمي القول قولك4-“.
بالإضافة إلى تعاليمها نرى ابن عربي يعرف مقامها ويعلمه.. عرف مقامها عندما أخبرته أن فاتحة الكتاب تخدمها5-، وعلم مقامها عندما قرأت فاتحة الكتاب لأمرٍ أرادته وقرأ معها، فإذا بها تنشئها بقراءتها صورة مجسدة هوائية، وتطلب منها أن تفعل كذا أو كذا6-….
وعندما تكلم ابن عربي على علم الحروف، وهو علم الأولياء، ذكر خدمته وانتفاعه بهذه السيدة الولية7-، وأكد أنها كانت من أكابر الصالحين، تتصرف في العالم، ويظهر عنها من خرق العوائد بفاتحة الكتاب خاصة كل شيء.. وكانت تظن أن هذا متاح لكل أحد، بل وتعجب ممن يعتاص عليه شيء، وعنده فاتحة الكتاب. وتقول لابن عربي: لأي شيء لا يقرؤها فيكون له مايريد.
ومع هذه الولية العارفة، التي تتصرف في العالم، ورأى منها ابن عربي عجائب8-، أقر ابن عربي بولادته الثانية وقبل نسبته إليها، وأفسح مجالاً في نصه لنَسَب الدين ونَسَب الطين، لولد الدين وولد الطين.. كانت تقول له، ويقرّها على ذلك: أنا أمك الإلهية ونور أمك الترابية9-. تأسيساً على ولادته المعنوية من أم روحية يقرّ بظهورها بوجهي الولاية: العرفان والتصريف في الأكوان.
تدرّج ابن عربي لأن تتكون لديه قناعة بأنه لا مانع تكوينياً أو كونياً من وصول المرأة إلى أعلى مراتب الولاية، وإن لم يقع ضمن خبرته لقاء بامرأة في موقع القطب، صاحبة الزمان، الغوث الخليفة. فالنساء والرجال، لديه، يشتركون في جميع مراتب الولاية حتّى في “القطبية”؛ فكل مايصح أن ينال الرجل من المقامات والمراتب والصفات يمكن أن يكون لمن شاءَ اللّه من النساء 10-.. هذا النص لابن عربي يجعل طريق الولاية أمام المرأة مفتوحاً، لا سقف يحدّها إلا مرتبة النبوة وشخص النبي (صلى الله عليه وسلم)، فالمرأة وإن لم تظهر بالفعل في دنيا الناس في موقع القطبية إلا أنّه في قدرتها ذلك، وبالتالي في عالم الروح تتساوى الحظوظ بين المرأة والرجل، وينعكس هذا التساوي في نظرة أعلام الصوفية لها.
ولكن ما أبعاد كون المرأة قطباً وخليفة؛ بحسب تصورات الشيخ الأكبر؟
تصبح المرأة ـ فيما لو أصبحت قطباً خليفة ـ هي صاحبة الوقت، وسيدة الزمان، خليفة اللّه في أرضه، ونائبة سيد المرسلين في أمته، وارثة للاصطفاء والاجتباء والخصوصية الآدمية11-..
عليها مدار العالم12-، وتُعطى التحكم في العالم، حوائج العالم أجمعه تتوقف عليها.. وبها ينفرد الحق ويخلو دون خلقه، لا ينظر سبحانه في زمانها إلا إليها.. هي الحجاب الأعلى13-، ينصب لها اللّه سبحانه في حضرة المثال سريراً يقعدها عليه، ثم يخلع عليها جميع الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم وتطلبه.. فإذا قعدت على السرير بالصورة الإلهية، أمر اللّه العالم ببيعتها على السمع والطاعة، فيدخل في بيعتها كل مأمور أعلى وأدنى إلى العالين من الملائكة وهم المهيمون، والأفراد من البشر الذين ليس لها فيهم تصرّف؛ لأنهم مثلها كُمّل مؤهلون لما نالته من القطبية14-..
هذه التجربة الشخصية مع فاطمة بنت المثّنى، وهذه القناعة النظرية بإمكانية وصول المرأة للقطبية والخلافة تجعلنا نعتبر ابن عربي، إنسان القرن السابع الهجري، شريكاً ومشاركاً حيوياً في الحوار القائم اليوم حول القضايا الخاصة بالمرأة.
ونتوقف عند مسألتين: مسألة الأهلية العلمية، ومسألة الأهلية السياسية.
الأهلية العلمية:
أعطى الإسلام الشخص أهمية كبرى بحال العلم والتعلّم، فالعلم الحق لا يؤخذ من الكتب بل من أفواه الرجال.. الإنسان حلقة في سلسلة، يتلقّى ويُلقي، يأخذ ويُؤخذ عنه.. فهل المرأة مؤهلة بحكم صفاتها وطبيعة حياتها أيضاً لأن تكون حلقة في سلسلة العلم المتوارث عبر الأجيال؟ أو أن الأمّة ستظل تحمل حرجاً من الاطمئنان إلى تساوي كفاءة منطق عقلها مع الرجل؟
ثمّ من جهة ثانية، قال العارف الصوفي: “حدثني قلبي عن ربي”، أو “أخذتم علمكم ميتاً عن ميت وأخذت عن الحي الذي لا يموت”.. فهل في طاقة قلب المرأة، الذي هو جهاز استقبال المعرفة الإلهامية، أن يلتقط على صفحته العلوم اللدنية؟.. ثم، إن التقط قلبها الإلهامات، هل نستوثق من ترجمة عقلها لإلهام قلبها وحفظها لتفاصيل هذا الإلهام، فلا تنسى بحيث يضيع انضباط هذا العلم على حدود أصولنا الثابتة؟
وأيضاً، لمصدر العلم في الإسلام موقع إمامة واتباع، فكل شخص نأخذ عنه فإننا نتبعه ونسير على نهجه، وإذ كان العلم ينمو بالتوارث ويتجدد بالأجيال، لذا تأخذ كل حلقة موقعها الاجتهادي.. فهل للمرأة أهلية لأن تكون عالمة فقيهة متّبَعة في مجال عرفان اللّه وشريعته؟
ـ أسئلة كثيرة وشكوك تدور كلها حول صفات المرأة التكوينية، وحول عوائق شروطها الحياتية في الأسرة، التي قد تناقض أحياناً طبيعة العلم الموضوعية، وشروط تحصيله بالاختلاط والترحل.
بداية، يرى ابن عربي أن الإنسانية هي حقيقة الإنسان، وهي واحدة في الناس جميعاً، وهي الأصل، أما الذكورة والأنوثة فهما عارضان، كل واحد منهما بمثابة جملة صفات تجري على قابل الذات.. فكل من كان في موقع المؤثر والفاعل فهو رجل وإن كان امرأة. وأيضاً كل من وَجَب عليه وجوباً شرعياً أن يطلب من يأخذ عنه علمه فهو رجل، سواء كان ذكراً أم أنثى15-. هنا يؤكد ابن عربي على كون المرأة بحكم خلقتها وتكوينها مساوية للرجل في الشروط الإنسانية، قابلة لكل النشاطات العقلية والفعاليات الإنسانية الذكورية.
ويعطي بلقيس مرتبة فقهية.. ويرى أنهاعندما أسلمت لم تنقد لسليمان، بل ظلت متحررة في اعتقادها من أتباع رسول أو إمام، اعتقاد متحرر من الوسائط، مباشر كاعتقاد الرسل تماماً، وذلك حين قالت: “أسلمت مع سليمان للّه رب العالمين”، فلم تنقد لسليمان جاعلة منه مصدر علمها ومعرفتها ودينها، بخلاف فرعون حين قال: “رب موسى وهارون”16-.
ونستفيد من طرح ابن عربي لمثال بلقيس، هذه الشخصية القرآنية، لنقول نحن أيضاً: إن نموذج بلقيس مثال على أنه عندما أفسح المجتمع المجال أمام المرأة برزت.. ملكت وحكمت.. ومما يلفت النظر أننا لم نلحظ في القرآن إشارة استنكار أو كراهة لملك المرأة أو حكمها.. وبلقيس ظلت موضوعية وواعية لشروطها وموقعها كسيدة قومها أمام سليمان، وهو من هو في زمنه: فهي أولاً حين رأت عرشها لم تجزم بأنه هو، ولم تنفِ بأنه هو، وقالت: “كأنه هو”.. جوابٌ ينسجم في نسبيته مع أكثر فلسفاتنا وموضوعياتنا المعاصرة. وهي ثانياً حين أسلمت، حافظت على موقعها كأولى في قومها، فلم تنقد لسليمان لتكون تابعة، وبالتالي الرجل الثاني وهي ملكة، فقالت: “أسلمت مع سليمان”.. فهذا المثال، ومثال السيدة عائشة ـ رضي اللّه عنها ـ التي وصّى النبي صلى الله عليه وسلم المؤمنين بالأخذ عنها، يزحزحان أطراف الستار عن أهلية المرأة وموضوعيتها ووعيها لشروطها.. ويجعلاننا نؤكد مع ابن عربي، أن الذات الإنسانية واحدة، تستقبل الصفات بحسب طاقاتها الفردية، وتوجهات تربيتها، وتجاربها الحياتية.
الأهلية السياسية:
عندما قال ابن عربي بإمكانية وصول المرأة للخلافة الكونية، أي تكون رأس الدولة الباطنة..، طرح أهليتها السياسية، ليس بالانتخاب الشوري بل بالتعيين الإلهي.. فهي، قد تكون، خليفة الله في أرضه ونائبة رسول اللّه في أمته.. إذن، بمقتضى نص ابن عربي، لا مانع عقلانياً أو نفسانياً في أصل فطرتها، ولا عائق في طبيعة حياتها، يمنعانها من الخروج من دائرة خصوصيتها لمباشرة حوائج العالم وأمور الناس.. ونرى أنه لا يقدح في قوله هذا كون رأس الدولة الباطنة مستوراً مصوناً من أعين الخلق، والخليفة الظاهر محور وجود المسلمين الدنيوي.. فهذا أمر يُبحث على مستوى مظهر المرأة وليس أهليتها..
ابن عربي هنا، في نظرته إلى أهلية المرأة، يسترجع ويكمل مسيرة بداياتنا الإسلامية في زمن النبوة والصحابة، حين كانت مشاركة المرأة العلمية والسياسية واضحة معلنة ومباشرة. وأتت عصور الظلم والإظلام، وتراجع دور المرأة الحرة في الحياة العامة أمام دخول الجواري المملوكات ـ بالشراء أو السبي ـ ساحات الفنون وبلاطات السلاطين وسياساتهم. وأدخل هذا معه نمطاً جديداً من العلاقة غير المتكافئة مكانة بين الرجل والمرأة، بين قويّ مالك حاكم، وبين ضعيف وصولي ماكر، يتوسل بأي نهج ليكون ويستمر، وينشئ شبكة علاقات مصلحة داعمة في غياب عزوة وأهل وعشيرة.
استشهد ابن عربي على مراتب الولاية المفتوحة للمرأة بقول النبي صلى الله عليه وسلم: النساء شقائق الرجال.
وعندما ننظر إلى مسألة المرأة اليوم، إلى أهليتها العلمية والإدارية السياسية ـ ولا نقصد بالضرورة من الأهلية السياسية أعباء خلافة المسلمين ـ فنحن إنما نستعيد ونحيي من خلال نص إسلامي شامل، هو نص الشيخ الأكبر، أصولنا المنسية الموؤدة تحت وطأة سنين غربّت الإسلام في حضارات تكاد تناقضه في سلّم قيمها. تجعل قيمة الرجل في كونه واصلاً ناجحاً قوياً منتصراً لا في كونه صادقاً أميناً شهماً أبياً شجاعاً.. لذا، لابدّ من إعادة فتح ملف المرأة والرجل معاً، والتأكيد على أن أهلية الرجل ليست في ذكورته، وإنما في اكتمال صفات الرجولة الإنسانية فيه.
II: المرأة ـ الآخر
المرأة الإنسان والمرأة الأنثى:
تناولنا في القسم الأول كينونة المرأة كإنسان، ورأيناها تدخل عالم الروح، وتؤكّد أهليتها لتمارس العلم والحكم في الغيب والشهادة.. وتوضحت رؤية ابن عربي للكمال الإنساني ـ المتاح بعد ختم النبوة ـ على أنه واحد مفتوح للرجل والمرأة، وإن كانت الالتماعات الذكورية في النص تجعلنا نشعر أن المرأة في هذا المجال لم تفعل سوى أنها دخلت حقل الرجل، وشاطرته كماله الذكوري، إن أمكن التعبير.
أما في هذا القسم الثاني فسوف نبحث كينونة المرأة كأنثى، لنتعرف على خصوصية الكمال الأنثوي ورتبة الأنوثة، في مقابل الكمال الذكوري ورتبة الذكورة. ونرى في المقابل هنا، كيف يدخل الرجل حقل المرأة ليشاطرها أنثويتها ويتحقق برتبتها.. فلكل رتبة وجودية كمالها الذي هو عين استقامتها على صراط حقيقتها الخاصة، من منظور ابن عربي.
وجرياً على منهجنا في قراءة ابن عربي، على أنه هو هو على مستوى الفكر والوجود، سنداخل بين أفكاره حول المرأة وبين سلوكه تجاهها وعلاقته بها، حتى تتوضح أبعاد رؤيته لها، في البُنى المتعددة التي هي جزء منها، وتمارس فيها دوراً ووظيفة.
ونحصر كلامنا بالعلاقتين الأهم بين الرجل والمرأة، واللتين تكرسهما عمليتان هامتان في تاريخ الوجود، بل يقوم عليهما الوجود، هما: عملية الخلق والإيجاد، وعملية التوالد والتكاثر؛ حيث تظهر مع العملية الأولى المرأة ـ المكمل الوجودي للرجل، وتظهر مع العملية الثانية المرأة ـ المنفعل الوجودي للرجل.
1 ـ المرأة ـ الآخر، المكمل الوجودي:
استوحش في الجنّة آدم، أول هذا الجنس الإنساني، إذ لم يجد من يسكن إليه، لأن الأنس لا يكون إلاّ بالجنس، تبعاً لتصورات الشيخ الأكبر..
وخلق اللّه حواء، أوجدها من آدم.. فارقت بدنه وهي قطعة منه، فظل حنينه إليها ـ طوال أجيال الرجال ـ حنين الكل إلى جزئه المكمل لوجوده، وظل حنينها إليه ـ طوال أجيال النساء ـ حنين الغريب المفارق لوطنه.
قبل ابن عربي وُظِّف خَلْق المرأة من الرجل، في مجال العلاقة بينهما، بتوجهات دونية وتهميشيّة واستعلائية.. ولكن مع ابن عربي عادت رسالة القرآن للظهور، ويمكننا متابعة رؤيته والقول بأن الرجل سيظل يشكو نقصاناً، مالم ترجع المفارقة إلى مكانها من بدن ذاته17-، وستظل المرأة تشكو غربة إن خرجت أو أخرجت وراء حدود أرض رجلها.
ولننظر في حياة ابن عربي، لنرى هل تعامل مع المرأة على أنها جزءه الوجودي، هذه الواحدة التي بها، وبها فقط، يشعر بامتلاء كينوني، أم أن كلامه في الحنين والجزء مجرد تنظير في الخلق، على حين أن حياته مفتّتة الكيانات يتشاطر لحظاتها مع كثيرات؟
نعرف أنه تزوج أكثر من واحدة وأنجب، ونعلم أنه أحبّ حباً عميقاً وهو في الثامنة والثلاثين، نظام بنت الشيخ مكين الدين الأصفهاني، ومن أجلها نظم الشعر ونطق باللغز والرمز.. فأين موقع نظام من نسائه، وكيف يظل منسجماً مع قوله بالجزء المكمّل بوجود هذا التعدد؟. هل عاش مثلاً امتلاءه الكينوني مع كل واحدة على شكل لحظات متوالية، يتغير فيها شخص المكمّل الوجودي فقط؟ أم أن المرأة ـ الآخر الوجودي هي عنده مجرد فكرة لتفسير الخلق، وترجمة القلق وحلم يحركان معاً الإنسان في مسار بحث وتفتيش دائمين؟
وعلى ضوء النظر في تجارب أشخاص الإنسان، المتنوعة والمتشابهة معاً؟ نقارب ابن عربي، الذي كثيراً ما نفهمه على ضوء مسار وجودنا، وكثيراً أيضاً ما نفهم أنفسنا على ضوءِ مسارِ وجوده، لنقول إن حياة كل إنسان تنفتح على إمكانيتين في العلاقة بالآخر: الواحد والكثير.. وقد تتحقق هاتان الإمكانيتان، وأحياناً كثيرة تتحقق واحدة منهما دون الأخرى. قد يحدث مثلاً أن تحتل كينونة إنسان، في مطلع حياة آخر، موقع الواحد المكمّل الوجودي، عندئذ تتعطل الإمكانية الثانية في كينونته، لانتفاء الحاجة إليها، والتي هي إمكانية الكثير.. وأيضاً قد يعيش إنسان حياته يتذوق كأساً إثر كأس، دون أن يرتوي، يتقلب في أعداد الكثير، من عدد إلى عدد دون أن يلتقي بمكمّله الوجودي. أو قد يلتقي بالواحد الفرد الذي به فقط يشعر بالامتلاء، وتنتفي عندها فقط حاجته إلى غيره، بل لا غير يمكنه حقيقةً الحلول محله.
أما إذا لم يلتقِ الإنسان فعلاً بآخره الوجودي فتظل إمكانية علاقة الواحد ثابتة في القوة، لا تخرج إلى الفعل بل تتلامح أحياناً في لحظات تَوَّهم سرعان ما تعبر.
فعلى ضوء علاقة الواحد والكثير في حياة إنسان نظن أن نظام الزوجة المفضّلة لابن عربي، قد احتلت موقع المرأة، أي الواحد ـ الفرد، والباقيات المذكورات في نصوص ابن عربي، والواضحات النسبة إليه، هنّ نساء، أي الكثير ـ المتوالي أو المتجاور.
ولكن هل في استطاعة الإنسان أن يمنح باختياره وإرادته مقام الواحد ـ الفرد في وجدانه، لمطلق إنسان يرى أنه يناسبه مقاماً أو أوضاعاً. أم أن الموضوع قدر لا إرادي ويشبه إلى حد بعيد علاقة المفتاح بالقفل؟. أقول: من منطلق أخلاقي اجتماعي أميل إلى القول الأول الكافل لاستمرار مؤسسة الأسرة، ومن منطلق معرفي بحت يرصد تجارب الناس المنفلتة من الروابط، لأسباب شتى مشروعة وغير مشروعة، ويرصد تقلباتها في صيرورة الزمن، أراني أقول بالقول الثاني، فكثيراً ماكنت أرى أشخاصاً تقارب عدة، وتظن في كل مرة السراب ماءً، ولكن لا فائدة، لا ينفتح عالم التوحد إلا بإنسان مخصوص، تنطبق صفاته مع صفاته انطباق الكف مع الكف، وانطباق أسنان المفتاح مع القفل.. وإلا سيظل الواحد منا خارج جنته ودائم الحنين إليها والبحث عنها.. والتفاتةٌ إلى الوصف الذي يعطيه ابن عربي لنظام في مقدمة “ترجمان الأشواق” تؤكد مصداقية ما أسلفنا، فهي وحدها امرأته، ولم تكن يوماً مجرد عدد في جملة نسائه.
وانسجاماً مع رمز المفتاح نقول أنه ـ استناداً إلى وصف ابن عربي لنظام ـ في استطاعتها، بحكم شمولية كينونتها المطابقة لشمولية كينونة ابن عربي، أن ترافقه في عوالمه كلها، عالم الروح والعقل والنفس والبدن؛ بالإضافة إلى كونها تمثل صورة الكمال المشتهى لديه في امرأة كل عالم..
يقول في وصفها 18-: عذراء، هيفاء، تقيد النظر، من العابدات العالمات السائحات الزاهدات، شيخة الحرمين، إن أسهبت أتعبت، وإن أوجزت أعجزت، وإن أفصحت أوضحت.. شمس بين العلماء، بستان بين الأدباء.. علمها عملها، عليها مسحة مَلَك وهمّة ملك..
أما كون نمط علاقة ابن عربي بها هو نمط علاقة الكل بجزئه الواحد الفرد، فنستدل عليه من مدلولات ألفاظه نفسها، فهو يقول عنها؛ إنها يتيمة دهرها، بيتها من العين السواد، ومن الصدر الفؤاد، عهدها قديم، وكل اسم يذكره في ديوانه فهو عنها يكني، وكل دار يندبها فدارها يعني…
هذا الموقع الذي تحتله المرأة بكونها الآخر المكمّل الوجودي للرجل، والشريك الوجداني أيضاً، يخضع كما رأينا لمواصفات تكوينية خاصة بالمرأة، راجعة لفطرتها وتربيتها وتوجهاتها؛ والأهم من ذلك لمستوى وعي الرجل، ورتبة عرفانه بمكانة المرأة الوجودية. ونؤكد نص ابن عربي بأن نلاحظ، أنه من آدم لم تُخلق إلا حواء واحدة.
المرأة ـ الآخر، المنفعل الوجودي:
هنا تفارق علاقة الرجل بالمرأة حقل الحضور والوجود للآخر فقط، كما في المكمل الوجودي، لتدخل حقل الفعل والانفعال بغاية التوالد والإنتاج، فهي التوالد لابد من ازدواج الأب والأم بحركة بينهما تؤدي لوجود ثالث، هو الابن…
هنا يقارب ابن عربي المرأة لا من جهة كينونتها الإنسانية، ولا من جهة موقعها من ذات الرجل ووجدانه، بل من جهة كونها الأنثى.. إحدى مراتب الوجود. وهي مرتبة القابلية والانفعال والتأثر.. هي محل الإلقاء والبذر والاستحالات والإيجاد والتكون والظهور، فكل منفعل وقابل للإلقاء والتكون، ومحل للظهور والإيجاد فهو أنثى وإن كان ذكراً19-.. لذا كل من في الكون أنثى، لأنه محل زرع وحرث، محل بذر وإنتاج.. يقول الشيخ في الفتوحات20-:
إنّا إناثٌ لما فينا يولدهُ
فالحمدُ للّهِ مافي الكونِ من رجلِ
إن الرجال الذين العرفُ عينّهم
هُمُ الإناثُ وهم نفسي وهم أملي
وتستمر معرفة ابن عربي الشهودية تتصاعد في نظرتها للمرأة ـ الأنثى.. إلى أن يصرح في فصوص الحكم، استناداً إلى أن الإنسان لا يشهد الحق إلا متجلياً في صور الممكنات، بأن المرأة هي أكمل مشهد للحق المشهود، لأن الرجل يشهد فيها الحق من حيث هو فاعل منفعل.. فالرجل يشهد الحق في المرأة ويعبر من جمالها المقيد إلى الجمال الحق المطلق.
هذه الرؤية للأنوثة تضفي قدسية على المرأة هي بأمسّ الحاجة إليها في زمننا، كما أنها تزحزح القهر والظلم والاضطهاد عنها، وتوضح إلى أي مدى الإسلام مبرّء من ممارسات غير واعية.
فالمرأة ـ الأنثى هي محل التكوّن والظهور لأنها القابل والمنفعل، ففيها يتكون الولد وعنها يظهر.. وهنا يعطيها ابن عربي اسمً الأمً، ويظهر كمالها بأنها متلقية ملقية، آخذة عاطية، منفعلة عن الأب فاعلة في الابن.. وهكذا بالمرأة يمر الوجود ويستمر توالد الكون من الكون.
(المعجم الصوفي ص (145)..
وكون حواء هي محل التناسل وظهور أعيان الأبناء 21-، ويمر الوجود في عالم الكون عبرها، فهذا يعطيها حسَّاً واقعياً عملانياً من جهة، كما يمكّنها من التحكم بنماء أي قوم أو شعب من جهة ثانية. وهذا ما خبرته قبلنا الدول الغربية، وتحاول تكييف قوانينها كأن تجعل مثلاً الأولاد من نصيب المرأة في حال الطلاق إرضاءً لها، لتحريضها على متابعة جهدها في حفظ النوع الإنساني واعية تماماً أنها محل ظهور الجنس.. وأنها بتجاوز المرأة إلى الأنبوب والاستنساخ إنما تقوم بمغامرة مكلفة إنسانياً.
ونمشي مع ابن عربي على طريق محمديته لنرى معه أهمية التعاليم النبوية في بناء
علاقات سليمة ومجتمع سليم.. فآخر كلامه صلى الله عليه وسلم: استوصوا بالنساء.. وهو
صلى الله عليه وسلم حبّب إليه من دنيانا النساء، أحبّهنّ بالمرتبة وأنهنّ محل الانفعال.. على
مايرى ابن عربي22-. نصوص الحكم (ص218).
خاتـمــة.
الآن وبعد أن قاربنا ابن عربي من خلال حياتنا وتجاربنا ومشاكل معاصراتنا، نشعر بالاعتزاز بإسلامنا الذي أعطى في القرن السادس ـ السابع الهجري علماً إنسانياً علائقياً، قد تساعدنا رؤاه على تفسير واقعنا وتغييره…
ولا تفجأنا تقدميّة ابن عربي في نظرته اللا إزدواجية للمرأة حيث جاءت إيجابية غير مختلطة أو ملتبسة بسلبية.. كما أنها بخلاف كتابات المؤلفين في عصور الظلام اللاحقة لم تحبس المرأة في الدور والوظيفة، بل أفسحت المجال لكينونتها الذاتية.. فالمرأة الإنسان مساوية للمرأة الأنثى.. ومتساوية في العقل والدين والحظ مع شطر الكون الآخر، الرجل.
الحواشي:
1 ـ را. الفتوحات المكية، دار صادر، بيروت ج2، ص 359.
2 ـ را. الفتوحات ج2. ص 348.
3 ـ را. الفتوحات ج2. ص347.
4 ـ م.ن. الصفحة نفسها.
5 ـ م.ن. الصفحة نفسها.
6 ـ م.ن. ج2 ص348.
7 ـ م.ن. ج2 ص 135.
8 ـ م.ن. ج2 ص348.
9 ـ را. المعجم الصوفي ، ص ص 124-125.
10 ـ را. الفتوحات ج2. ص89.
11 ـ را. المعجم الصوفي ص 680، الأجوبة اللائقة لابن عربي ورقة 9/أ.
12 ـ را. المعجم الصوفي ص912، ومنزل القطب لابن عربي ص 2.
13 ـ را. المعجم الصوفي ص912، والفتوحات ج2، ص 555.
14 ـ را. المعجم الصوفي ص913، والفتوحات ج3، ص 136-137.
15 ـ را. الفتوحات ج2. ص588.
16 ـ را. المعجم الصوفي ص 213، فصوص الحكم ج1، ص 156-157.
17 ـ انظر بحثنا عن الرهبنة والمرأة والزواج من منظور إسلامي، مؤتمر التراث السرياني الخامس، انطلياس، ص 6.
18 ـ را. ترجمات الأشواق، ص ص 8-9.
19 ـ را. المعجم الصوفي في المواد التالية آدم ـ أم ـ أرض ـ أنثى.
20 ـ را. الفتوحات ج4. ص445.
21 ـ را. المعجم الصوفي ص 145.
22 ـ را. فصوص الحكم، ج1، ص 218
مجلة التراث العربي-مجلة فصلية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب-دمشق العدد 80