لماذا كانت حركة التنوير؟
بقلم: جابر عصفور :
كانت كارثة عام1967 جائحة لا نظير لها في تاريخ العرب المحدثين ولم تكن الكارثة الكبري مقصورة علي الهزيمة العسكرية المدوية التي حدثت
وإنما امتدت إلي توابع الزلزال الذي تسببت فيه وكان أول هذه التوابع سقوط الدولة القومية التسلطية, عسكرية الطابع, وظهور مشروعات أخري بديلة تسعي إلي أن تشغل الموقع المحطم المدمر.
وكان مشروع الدولة الدينية هو المشروع الجاهز الذي ظل يناصب الدولة الناصرية العداء, منذ أن فتح صدره لجماعات الإخوان المسلمين التي ظلت تلوذ به, منذ أزمة مارس1954 وكان هذا العداء يشمل لوازم الدولة المدنية التي أبقت عليها الدولة الناصرية, سواء في هيئة مؤسسات دستورية مدنية ومؤسسات تضامنية ومجتمع مدني, تقلص دوره, حقا, لكنه ظل حيا, يحمل قوة الدفع المدنية التي ظل يحتفظ بها من ميراث ثورة1919 وشعاراتها المدنية التي كان أهمها الدين لله والوطن للجميع وهو الشعار الذي يستبدل به أعداء الدولة المدنية, الآن شعار الدين والوطن لله بوصفه الشعار الذي يليق بالدولة الدينية, وتجمع دعاتها الذين يرفعون شعار المصحف والسيفين المتقاطعين, مؤكدا معني الحاكمية الذي دارت حوله أفكار سيد قطب وقد كان من الطبيعي أن يتم التحالف بين النظام الساداتي والدولة الدينية النفطية التي ظلت تناصب الناصرية العداء, خصوصا أفكارها عن العدل الاجتماعي والتحرر القومي والوحدة العربية والحياد الإيجابي إلخ ويزداد هذا التحالف قوة بعد أن انقلب السادات علي الناصريين من شركائه في الحكم, واستعان عليهم وعلي التيارات التي تدعمهم بالإخوان المسلمين الذين أطلق سراحهم من السجون الناصرية, وسمح لهم باستئناف إصدار مجلاتهم وأنشطتهم, مسلما إياهم مفاتيح الجامعات للقضاء علي التيارات الناصرية واليسارية والليبرالية علي السواء, وأضف إلي ذلك كله إرضاءه لهم بالاستجابة إلي طلبهم في أسلمة الدولة, وتعديل المادة وصياغة المادة الثانية من دستور1970 لتؤكد أن الشريعة الإسلامية المصدر الأساسي للتشريع, وهو أمر ترتب عليه تشكيل لجان من ترزية القوانين لإعادة صياغتها, حسب أوامر الرئيس المؤمن مؤسس دولة العلم والإيمان التي اختفي فيها العلم لحساب الإيمان ونسي السادات للأسف أن حلفاءه ما كان يمكن أن يكفيهم ما فعل, فقد كانوا يريدون الدولة نفسها, فاضطر السادات إلي الإطاحة بهم, وإعلان أنه لا دين في السياسة مع أنه هو الذي أدخل الدين في السياسة وكانت نتيجة الصراع اغتياله في ذكري انتصار أكتوبر العظيم الذي رده دراويش الدولة الدينية إلي الملائكة التي حاربت مع الجنود الذين رضي الله عنهم, بعد أن أرضوه بالتطهر من إثم الناصرية.
وجاء الرئيس مبارك حاملا معه الدعوة إلي مصالحة وطنية, وإعادة بناء مصر علي أسس اقتصادية جديدة, تستلزم إنجازا هائلا في البنية التحتية, كي يتحقق الانفتاح المنضبط وليس انفتاح السداح مداح وسوف يذكر التاريخ للرئيس مبارك أنه أطلق تكوين الأحزاب, وأعطي مصر من الحرية ما لم تعرف لا في الحقبة الناصرية ولا الساداتية لكن, وآه من قسوة لكن في هذا السياق, كان خرق نزعة التديين قد اتسع علي الراقع, وأتيح لجماعة الإخوان المسلمين أن تعيد بناء هياكلها, وأن توسع من قواعدها, معتمدة علي ثقافة تقليدية محافظة لا تزال تعشش في أذهان الناس واخترع نواب الجماعة شعار الإسلام هو الحلالذي لا يقصد به إلا إقامة دولة دينية, تملأ الأرض عدلا بعد أن ملئت جورا, ولكنه ظل يجذب الجماهير الطيبة, فمن يرفض أن يأتي الحل من الإسلام الذي هو دين ودولة, مصحف وسيف ووصلت نزعة التديين التي تعني رد كل شيء إلي الدين, حتي لو لم يكن كذلك إلي ذروتها وأصبحت هذه النزعة قرينة ما أصبح يطلق عليه, تخييلا, اسم الصحوة الدينية كما لو كان المسلمون كانوا كفارا قبل ذلك, أو يعيشون في الجاهلية المعاصرة التي جاءت أفكار سيد قطب لتقضي عليها. ووجدت الصحوة الدينية دافعها السياسي ودعمها المالي القوي, ابتداء, من ثروات إسلام النفط, وثانيا, مع نجاح الثورة الإيرانية وإعلان الجمهورية الإسلامية سنة1979 وكان ذلك في العام الذي غزا فيه الاتحاد السوفييتي أفغانستان, فتشكل الحلف الذي ضم الولايات المتحدة ومصر والسعودية لطرده سنة1989 وكانت النتيجة انتصار طالبان بقيادة الملا محمد عمر الذي فتح صدر طالبان للمجاهدين العرب الذين تكونت منهم القاعدة بعد ذلك, في موازاة حركة تطرف ديني متصاعد علي امتداد الأقطار العربية وكان التركيز واضحا علي مصر, لأن وعي الدولة المدنية فيها راسخ الجذور, وهكذا شهدنا اغتيال الأبرياء, وإرهاب الكتاب واغتيالهم معنويا بدعوي التكفير, والزج بالقضاء المخترق للقصاص من دعاة الدولة المدنية وكتابها علي السواء, وذلك في السياق الذي شهد اغتيال فرج فودة في الثامن من يونيو1992, ومحاولة اغتيال نجيب محفوظ سنة1994 إن لم تخني الذاكرة وبداية حملة التكفير التي شنها المتطرفون دينيا علي نصر أبو زيد وصدور حكم محكمة النقض بإعلان ردته سنة1995 وتبدل مشهد مصر التي عرفناها منارة للتسامح والاستنارة إلي ساحة لنزعة تديين متوحشة لا تتورع في قتل الأبرياء أو قمع التفكير والاجتهاد الحر وأضيف النقاب إلي الحجاب, وكلاهما غريب علي الزي المصري والمرأة المصرية التي خرجت سنة1919 لتطالب بالاستقلال التام أو الموت الزؤام وأصبح هناك مجموعات إرهابية, ترفع شعار الدين وسيفه التأويلي يخافها الكتاب أكثر مما يخافون الحكومة, التي اتخذت للأسف موقفا سلبيا من حماة هويتها المدنية. وكان لابد للمثقفين الذين يعرفون تاريخ الثقافة المصرية, وميراثها الليبرالي الأصيل, أن يعودوا إلي ماضي الفكر المصري الذي جعل منها منارة الأمة العربية كلها ورائدتها إلي التقدم ولم يكن من المقبول, عند هؤلاء, أن نستبدل فتاوي ابن باز الذي يقف حتي ضد عمل المرأة, ويحرم الفنون بفتاوي محمد عبده الذي كان خير ممثل لحركة الاستنارة الدينية ولذلك كان لابد من استعادة المشايخ والأفندية الذين حملوا راية الفكر المصري, وكانوا مع الدولة المدنية بوصفها الدولة التي لا تعرف التمييز بين المواطنين علي أساس من دين أو جنس أو طائفة, فأهم خصائص الدولة المدنية حماية معتقدات مواطنيها, والعمل علي إتاحة حرية ممارسة شعائرهم الدينية بما لا يمايز بينهم, سواء داخل الدين الواحد, أو مع تنوع الأديان وتعددها والدولة المدنية قرينة الحداثة التي تعني حرية التفكير والاجتهاد وحق الاختلاف في كل مجال, دون وصاية أو كهنوت, وتعني العقلانية والاحتكام إلي العقل والتفكير العلمي علي السواء وكان ذلك يعني الانحياز للتيارات العقلانية في التراث العربي الإسلامي, وهي التيارات التي انحاز إليها رجال الدين الإسلامي الذين أسهموا بقوة في بناء النهضة الحديثة رفاعة الطهطاوي(1801 ـ1873) وجمال الدين الأفغاني(1838 ـ1897) ومحمد عبده(1849 ـ1905) وعبد الرحمن الكواكبي(1854 ـ1902) ومحمد فريد وجدي(1849 ـ1905) وقد وازي هؤلاء المشايخ المستنيرون أفندية الاستنارة مثل أحمد لطفي السيد(1872 ـ1963) ومحمد حسين هيكل(1888 ـ1956) وعباس محمود العقاد(1889 ـ1964) وطه حسين(1889 ـ1973) قد كان من الطبيعي أن نحتفل بمرور مائة سنة علي ميلاد كل من عباس العقاد وطه حسين سنة1989 تحت عنوان مائة سنة من الاستنارة, معلنين بهذا الاحتفال عن انحيازنا إلي مبدأين أساسيين أولهما الانحياز إلي التيار العقلاني في الميراث العربي الإسلامي, ابتداء من إنجازات إبراهيم النظام أستاذ الجاحظ إلي ابن رشد, وثانيهما التمسك بالدولة المدنية القائمة علي العدل الاجتماعي, والفصل بين السلطات والحرية بكل أنواعها ومجالاتها وكنا نعرف أننا سوف نواجه بالعداء من المتطرفين الدينيين ومن المتأسلمين سياسيا ولكن كان مستقبل مصر وريثة ثورة1919 التي كانت حاسمة في شعار الدين لله والوطن للجميع أهم لدينا من أي إرهاب ديني, وكانت حرية التفكير التي دعا إليها طه حسين أهم من بطش الإرهاب الذي قد يدفع قاضيا إلي الحكم بالردة وكان الضحية الأولي فرج فودة الذي أراق دمه شاب جاهل تلقي فتوي من مشايخ التكفير, والثانية نجيب محفوظ الذي غرس سكينا صدئا في رقبته فتي غر, ضللته فتوي موازية من أحد مشايخ الإظلام, والثالثة نصر حامد أبو زيد الذي عاش منفيا رغم حبه لوطنه, ولكنه افتدانا, وعلينا نحن أن نفتدي مستقبل وطننا بأقلامنا, في سبيل إقامة دولة مدنية حقيقية بكل معني الكلمة, فهذا هو السبب الذي من أجله تولدت حركة الاستنارة المعاصرة التي لا يكف الإظلاميون من أنصار الدولة الدينية عن مهاجمتها وتكفيرها إلي اليوم.