الرأي

(لقد ارتقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم)

بثينة تروس

لقد حزن العالم وشغل بانتقال الملكة إليزابيث الثانية إلى العالم الآخر الخميس 8 سبتمبر 22، بعد سبعة عقود من التربع على عرش بريطانيا العظمى. تسابق العالم في نعيها وذكر عظمتها، والحداد عليها، وقالت رئيسة وزراء بريطانيا، ليزا تراس، في وداعها: “بريطانيا تقدمت وازدهرت تحت حكم الملكة إليزابيث، وعظيمة بفضلها”. وجاء في نعي حكام الإمارات: “كانت رمزاً للحكمة والتسامح ومحل تقدير واحترام العالم أجمع”.

قبل وفاة الملكة بيومين والجنرال البرهان في متاهته، في ظل دولة عجزت عن إيجاد الدعم والاعتراف الدولي، وظلت تتقاذفها أحلاف المحاور ما بين الأماني والابتزاز، حتى صار انقلابه مسخاً في تاريخ الانقلابات. جمع البرهان البسطاء من الشعب في الاحتفال بذكرى معركة كرري التي حدثت 2 سبتمبر 1898، والتي فقد فيها السودان من أبنائه أنصار المهدي (18) ألفاً، بالإضافة إلى (30) ألف جريح، بعد أن تغلب السلاح الناري للقوات البريطانية بمساعدة الجيش المصري، وانتهت بانسحاب الأنصار إلى أم دبيكرات.

ملكة بريطانيا الراحلة- إليزابيث

والجنرال في عزلته يطالب في ذكراها بريطانيا بأن تعتذر للسودان، قائلاً: “إن ما ارتكب في كرري جريمة ضد الإنسانية، وعليه من ارتكبها أقدم على ما نسمعه الآن ونتحدث عنه في كل مجتمعاتنا: الإبادة الجماعية، والتطهير العرقي. ما ارتكب هنا في كرري لا يقل عن هذه الجرائم التي ارتكبت في التاريخ، قتل 30 ألفاً، أربعة أيام والعالم يصم أذانه. ونحن ما تحدثنا ولا طالبنا لأن من ارتكب هذه الجريمة يجب أن يعتذر للشعب السوداني، يجب أن يعتذر لأبناء هؤلاء الشهداء، ويجب أن نقول إن ما حدث إبادة وتطهير أريد بها كسر شوكة السودانيين”. قناة طيبة 7 سبتمبر..

واضح من تصريح الجنرال أعلاه أثر مطاردة الشعب بالقصاص والعدالة، ولوثة شبح جرائم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي ارتكبها النظام الإسلاموي في دارفور ضد المسلمين، والتي مرت ذكراها العشرين نهاية يوليو ولم يعرها الانقلابيون وقادة الحركات المسلحة اهتماماً. تلك الإبادة التي اعتبرت الأولى في القرن الحادي والعشرين، قتل فيها (300,000) شخص، وتم حرق (85) قرية، وشرد الملايين ما بين النزوح والمعسكرات. وقال جنرال المذابح الجماعية قولته المشهورة: “أنا رب الفور”. مقولة لم يقل مثلها كتشنر حين انتصر في كرري، كما لم يغتصب الجيش البريطاني المستعمر النساء السودانيات والأطفال، في الوقت الذي يرتكب فيه جيش البرهان القتل والسحل والاغتصابات الآن، في دولة عجز أن يوحد جيوشها المتعددة ما بين دعم سريع تحت قيادة نائبه حميدتي، وجيوش حركات مسلحة في السلطة، ثم يتصور أنه يمكنه إجبار دولة بحجم بريطانيا على الاعتذار.

الجدير بالذكر أن ثقافة الاعتذار عن الإبادات الجماعية، ثقافة الدول المتمدنة، مارستها عديد من الدول التي يحترم رؤساؤها شعوبهم، مهدت لها الأمم المتحدة بإقامة معاهدة دخلت حيز التنفيذ منذ عام 1951 (اتفاقية الإبادة الجماعية). هل يا ترى يعلم الجنرال في عنجهيته أن دولته غير موقعة عليها، بل لا تعترف بها كغيرها من المعاهدات التي تحفظ حقوق الإنسان؟! كما لا تعترف بالمحكمة الدولية التي أصدرت قرارها بحق المخلوع البشير بتهم تلك الإبادة وجرائم حرب في جبال النوبة وجنوب كردفان والنيل الأزرق؟!

لعل البرهان يحتاج أن يفيق من غيبوبته، بأن يعتذر هو عن جرائمه، قبل سعيه لاستنهاض الشعب السوداني من أجل كرامته، والمطالبة بالاعتذار الأممي، ورفع الذل عن معركة كانت قبل (142) عاماً تقريباً. ويشهد تاريخ الحركة الوطنية السودانية أن العلائق بين أهل السودان والبريطانيين تحولت لصداقة منذ 1919، لدرجة أن السيد عبد الرحمن المهدي أهدى سيف والده للملك جورج الخامس، (الذي أعاده ليدافع به عن نفسه وعن الإمبراطورية)، وقد كان في معية وفد سافر لتهنئة بريطانيا في انتصارها في الحرب، بصحبة زعيمي الطوائف وهما: السيد علي الميرغني، والشريف يوسف الهندي. وثلاثة علماء هم: الشيخ علي الطيب أحمد هاشم (المفتي)، والشيخ أبو القاسم احمد هاشم (رئيس لجنة العلماء)، والشيخ إسماعيل الأزهري (قاضي دارفور). وأربعة من زعماء القبائل، هم: علي التوم ناظر الكبابيش، وإبراهيم موسى ناظر الهدندوة، وعوض الكريم أبو سن نائب ناظر الشكرية، وإبراهيم محمد فرح ناظر الجعليين. انظر (تاريخ الحركة الوطنية في السودان 1900-1969) بروفيسور محمد عمر بشير.

أما السيد علي الميرغني فقد خاطبهم: “إن ثبات جنودكم الحلفاء المجيد الذي دعا لانهزام العدو انهزاماً تاماً، وانتصاركم الباهر أوجب الإعجاب العظيم من أهل السودان، وأفعم قلوبهم سروراً. وقد تحققوا من أن هذه الحرب تختلف عما سبقها من الحروب لأنها تفصل في مصير الشعوب الضعيفة، وكانت حرباً بين الحق والباطل”. انتهى. انظر كتاب بشير محمد سعيد (السودان من الحكم الثنائي لانتفاضة رجب) الجزء الأول. كما أن هناك حدثاً جللاً اَخر عام 1965، حيث زارت الخرطوم الملكة إليزابيث الثانية، التي كانت تستعمر دولتها البلاد وتسببت في معركة كرري، واستقبلها الشعب والحكومة بالترحاب والأغاني والدفوف والاحترام.

ذلك الاحترام الذي يفتقر إليه البرهان الذي جثم على صدر الشعب فارتقى مرتقا صعباً، بحكومة قطعت الطريق على الدولة المدنية. نتج عنها مقتل (183) في الخرطوم، وحصيلة ضحايا العنف والنزاعات في دارفور والنيل الأزرق (1454). ثم يأتي ليتشفع بماض ثار الشعب السوداني لتغييره بثورات طليعتها 21 أكتوبر المجيدة، لم يستثن عنها الولايات والأقاليم، واستشهاد الشباب في انتفاضة سبتمبر 2013 وثورة ديسمبر المشهودة من أجل إقامة مجتمع العدل والحرية والسلام، والمواطنة المتساوية لجميع السودانيين، في سبيل إقامة دولة حقيقية تهدف لكيف تحكم وليس من يحكمها. الثورة في تحقيق غاياتها قد تتخذ سيراً لولبياً لكنها منتصرة حتى يكون للوطن غدٌ مشرق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى