الرأي

كوارث التقرير السنوي لبنك السودان المركزي للعام 2021م (1)

الهادي هبّاني

أخيرًا وبعد انتظار طويل صدر التقرير السنوي لبنك السودان المركزي للعام 2021م. ويبدو أن كوارث الفيضانات، وجرائم القتل، والنهب، والاختفاء القسري المدبر، والإعاقة، والاعتقال والتشريد، والجرائم على البيوت الآمنة وعلى الطرقات العامة المتكررة كل يوم في العاصمة والقرى والمدن الرئيسية في الأقاليم ومناطق التهميش، وتزايد الضائقة المعيشية، لا تكفي لإثارة غضب الشعب السوداني حتى يأتي التقرير السنوي 2021م حاملًا في طياته نتائج كارثية تكشف حجم الأزمة الحقيقية، ليست فقط الناتجة عن الانقلاب المشئوم في 25 أكتوبر 2021م، بل أيضًا عن السياسات الفاشلة لحكومتي الفترة الانتقالية. وفي حلقات متتالية نتناول أهم نتائج التقرير بالقراءة والتحليل لكشف الحقائق المرة للشعب. وبما أن التقرير صادر عن البنك المركزي فسنبدأ في هذه الحلقة بتناول (الفصل الخامس) الخاص بحسابات بنك السودان المركزي للعام 2021م والذي يؤكد أن البنك المركزي يعتبر جزء أصيل، ليس فقط في انهيار وتدهور القطاع المالي والمصرفي وفشل السياسة النقدية عمومًا، بل في تدهور الاقتصاد السوداني بأكمله. وفوق كل ذلك يبين أن البنك المركزي يعتبر مؤسسة فاشلة تحقق عجزًا مزمنًا وخسائر متتالية وهو ما يعكس سوء إدارة وعدم كفاءة، ويكشف أنه يشكل عبئًا كبيرًا على الاقتصاد الوطني. وبرغم أن البنك المركزي يعتبر مؤسسة رقابية مسئولة عن وضع وإدارة السياسة النقدية في البلاد إلا أنه كغيره من البنوك المركزية في العالم من المفترض أن يحقق دائمًا أرباح وفوائض مستمرة في النقد المحلي والنقد الأجنبي ليكون قادرًا على تمويل مشاريع التنمية ودعم الاقتصاد الوطني وتحقيق قيمة مضافة له، وعلى لعب دوره في توفير السيولة والتمويل اللازم للبنوك المحلية كملجأ أخير، وفي إصدار مختلف الأدوات النقدية والاستثمارية فيما بين البنوك المحلية، وفيما بين الحكومة المركزية والجمهور، وفيما بينه وبين البنوك المحلية والنظام المصرفي العالمي، ويحقق نتائج إيجابية وفوائض متتالية من نشاطه اليومي في سوق النقد العالمي. وفيما يلي أهم الملاحظات والمؤشرات التي تبين ذلك:

أولًا: كشفت قائمة الدخل لبنك السودان المركزي جدول رقم (5-2) أن البنك المركزي قد حقق (عجز) أو خسائر متتالية ومتزايدة وذلك من 14.4 مليار جنيه عام 2020م إلى 97.6 مليار جنيه عام 2021م أي بنسبة 578% أو 6 أضعاف الخسارة المحققة عام 2020م وهي نتيجة كارثية تبين لأي مدي موارد السودان مهدرة في الصرف البذخي غير المنتج بدون رقيب أو حسيب، ويبين أيضًا أن البنك المركزي مجرد أداة طيعة لخدمة المافيا الاقتصادية المتحكمة في الاقتصاد والمسئولة عن كل الفشل الاقتصادي ويتضح ذلك من النقاط التالية:

1- زادت مصروفات طباعة العملة من 2.6 مليار جنيه عام 2020م إلى 58.8 مليار جنيه (ما يعادل 134 مليون دولار على أساس سعر 437.9 جنيه للدولار في ذلك الوقت) عام 2021م أي بنسبة زيادة 3575% أو 36 ضعف منصرفات الطباعة عام 2020م. وهذه كارثة لا مثيل لها في تاريخ الاقتصاد المالي والنقدي الحديث إلا في زيمبابوي سابقًا في عهد الديكتاتور روبرت موغابي التي ضربت رقمًا قياسيًا في معدلات التضخم النقدي وفي طباعة النقود. والسودان اليوم تَفَوَّق على زيمبابوي وأصبح يحتل المركز الثاني بجدارة في معدلات التضخم على مستوى العالم بعد فنزويلا. وهي كارثة أسوأ من كارثة تحقيق الخسارة نفسها حيث بلغت مصروفات طباعة النقود عام 2021م لوحدها فقط ما نسبته 53.8% من إجمالي المصروفات. وهي بذلك تُبَيِّن أن الحكومة، وبالتواطؤ مع البنك المركزي تعيش على طباعة النقود، وتفسِّر الارتفاع الجنوني المتواصل للتضخم، وتؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن كل السياسات الاقتصادية التي تم اتخاذها في عهد حمدوك والبدوي قد كانت مجرد سراب وأكذوبة كبرى وتضليل أعمى للشعب وعلى رأسها فرِيَّة رفع الدعم عن المحروقات لتوفير الأموال المخصصة للدعم لتمويل العجز في موازنة 2020م بقيمة 89 مليار جنيه، وفي موازنة 2020م المعدلة بقيمة 152 مليار جنيه ورغم ذلك لم تفلح هذه أو تلك في تغطية عجز الموازنة، ولم تُغنِي الحكومة عن الاستمرار في متاهة ودوامة طباعة النقود طوال العامين 2020م و2021م لتصل تكلفتها فقط إلى هذا الحد الكارثي غير المسبوق. علمًا بأن هذه التكلفة البالغة 58.8 مليار جنيه لطباعة النقود وهي تعادل ما قيمته 134 مليون دولار كانت كافية لتغطية تكاليف تبديل العملة بالكامل والتحكم في حجم الكتلة النقدية، ووضع حد لتجارة العملة، وتحقيق طفرة في تحصيل متأخرات الضرائب المستحقة والتهرب الضريبي والتجنيب، والتخلص من الأموال القذرة، وزيادة حصيلة النقد الأجنبي، وخلق توازن بين كمية النقود وكميات السلع والخدمات في الاقتصاد بما يساهم مساهمة مباشرة وفورية في تخفيض معدلات التضخم. ولكن المافيا الاقتصادية المتحكمة في الاقتصاد الموازي وفي كل موارد البلاد وفي إدارة وتدوير كل الأنشطة الاقتصادية القذرة في كل البلاد ليس من مصلحتها تبديل العملة، وتحرص دائمًا أن تُبقِي فوضي الواقع الاقتصادي المذري على ما هي عليه لتواصل تحكمها في الموارد وتستمر في مراكمة ثرواتها الخاصة.

ثانيًا: زادت المصروفات العمومية والإدارية من 15.9 مليار جنيه عام 2020م إلى 50 مليار جنيه عام 2021م أي بما نسبته 314.5% أو 3.14 ضعف ما كانت عليه عام 2020م. وهذه كارثة أخرى تبين أن هنالك ترهل كبير في الصرف على المرتبات والمخصصات والامتيازات والسفر والمصروفات الإدارية الأخرى. ويجب على البنك المركزي نفسه وعلى ديوان المراجع العام كشف تفاصيلها ليعرف الشعب السوداني حجم الهدر لموارده وتركيزها على عدد محدود من الأفراد والمؤسسات الخادمة للمافيا الاقتصادية. وتمثل المصروفات الإدارية والعمومية لوحدها فقط ما نسبته 45.8% من إجمالي المصروفات. أي أن مصروفات طباعة العملة والمصروفات الإدارية والعمومية معًا تمثلان ما نسبته 99.6% من إجمالي المصروفات وأن النسبة المتبقية من المصروفات البالغة 0.4% تمثل إهلاك الأصول الثابتة فقط لا غير بمعنى أن كل مصروفات البنك المركزي مخصصة فقط لتغطية تكاليف الطباعة وللامتيازات والمخصصات الخاصة بالعاملين وخاصة الكبار منهم. علمًا بأنه وحسب قانون بنك السودان المركزي لسنة 2002م المعدل 2005م و2006م و2012م فإن جميع العاملين بالبنك المركزي معفيين من الخضوع لقانون محاسبة العاملين بالخدمة العامة لسنة 1994م، قانون الخدمة العامة لسنة 1995م، قانون معاشات الخدمة العامة لسنة 1992م، قانون الإجراءات المالية والمحاسبية لسنة 1977م، وقانون ديوان العدالة الاتحادي للعاملين بالخدمة العامة لسنة 1998م، وأي قوانين لاحقة لها. الأمر الذي يميزهم عن غيرهم في الخدمة المدنية، ويجعلهم مُحَصَّنين من المحاسبة، ويجعل مخصصات العاملين في البنك المركزي غير خاضعة لما تنص عليه قوانين العمل فيما يتعلق بتعويض العاملين وتحديد مرتباتهم ومخصصاتهم في الخدمة المدنية، ولمجلس إدارة البنك المركزي وحده الحق الكامل في وضع لائحة الموارد البشرية وسلم الدرجات الوظيفية وهيكل المرتبات بطريقته الخاصة. بل ويخوِّل القانون كافة صلاحيات تعيين العاملين للبنك المركزي للمحافظ دون سواه بما فيها الوظائف العليا وذلك حسبما هو منصوص عليه في المادة (15) فقرات (1، 2) من الفصل الثالث. ومن المعروف أن الامتيازات والمخصصات والمرتبات التي يتمتع بها العاملين في البنك المركزي والشركات التابعة له وخاصة المستويات الوظيفية العليا كالمحافظ ونوابه ومدراء الإدارات والشركات التابعة له تعتبر مخصصات عالية جدًا لا تتناسب مع مستوى مرتبات الخدمة المدنية سواء في المؤسسات الحكومية أو البنوك أو المؤسسات المالية الأخرى كشركات التأمين والتمويل والصرافات وغيرها. وبنفس القدر فإن عدم خضوع العاملين في البنك المركزي للقوانين المذكورة وخاصة صغار العاملين يحرمهم من الحقوق التي تكفلها هذه القوانين لكافة العاملين بالخدمة المدنية.

*نقلا عن الميدان

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى