ثقافة ومنوعات

كتب الأديب الراحل “الطيب صالح” عن رمضان

كانت دورنا تقوم على هيئة مربع، وفي الوسط باحة واسعة فيها رقعة رملية. كنا نجتمع للإفطار في تلك الرقعة، نتولى- نحن الصبية- أمر تنظيفها وفرش الحصر عليها. وقبيل المغيب، نجيء بسُفر الطعام من البيوت، ونجلس مع كبارنا ننتظر تلك اللحظة الرائعة حين يؤذن مؤذن البلدة- غير بعيد منا:

(الله أكبر)

معلناً نهاية اليوم.

وكنت في تلك الأيام- قبل أن يقسو القلب ويتبلد الشعور- أحس أن ذلك النداء موجه لي وحدي، كأنه يبلغني تحية من آفاق عليا، أنني انتصرت على نفسي.

أذكر جيداً طعم التمر الرطب، هو أول ما نفطر به، حين يوافق رمضان موسم طلوع الرطب. وكانت لنا نخلات نميزها ونعتني بها، لها ثمر شديد الحلاوة، تخرجه باكراً.

كانوا لا يبيعون ثمارها، لكنهم يدخرونها لمثل تلك المواسم، وقد زرعت أصلاً من أجل ذلك.

أذكر مذاق الماء الذي يصفى ويبرد في الأزيار أو في القرب، خاصة ماء (القِرَب) الذي يخالطه شيء من طعم الجلد المدبوغ. وشراب (الآبري)، يصنع من خبز يكون رقيقاً جداً: أرق من الورق. تضاف إليه توابل، ينقع في الماء، ويحلى بالسكر.

مذاق (الحلو مر)، وهو أيضاً من عجين مخلوط بتوابل خاصة، وحين ينقع في الماء يكون ذا لون أحمر داكن الحمرة.

هذان الشرابان لا يوجدان إلا في السـودان، وهما مرتبطان برمضان، لهما رائحة عبقة فواحة. تلك وروائح أخرى، كان خيالي الصبي يصورها في ذلك الزمان، كأنها تأتي من المصدر الغامض نفسه الذي يأتي منه شهر رمضان.

كان طعم الزمان في تلك الأيام حلواً مخلوطاً بمرارة لها مذاق العسل، لم نكن نأكل كثيراً في إفطارنا. لا توجد لحوم أو أشياء مطبوخة، كل واحد يتعشى بعد ذلك في داره على هواه، وغالباً ما ينتظر السحور من دون عشاء.

نصلي ونفطر على مهل، نقوم- نحن الصبية- فنحضر الشاي والقهوة (الجَبَنة)،

وكان يسمح لنا بشرب القهوة فقط في شهر رمضان، فالقهوة عدا ذلك للكبار وحدهم.

لم يكن ذلك نوعاً من الحظر، ولكن من قبيل الاقتصاد في النفقة. فقد كان البن أغلى من الشاي.

يساوونا بأنفسهم لأننا نصوم مثلهم، ثم يأخذون في الحديث ونحن نسمع ولا نتكلم، ويا له من حديث. كان رمضان يخرج منهم كنوزاً دفينة، كنت أستمع إليهم وكأنني أشرب ماء (القِرَب) البارد، وآكل التمر الرطب. لا أعلم كم كان (معدل الدخل) عندنا تلك الأيام، ولم أكن أعلم شيئاً عن الحالة الاقتصادية في القُطُر، ولم يكن يهمني من الذي يحكم البلد.

كنت أعلم أن الإنجليز موجودون في الخرطوم، وأحياناً يمر بنا واحد منهم، كما يمر طائر غريب في السماء. لكننا كنا بمعزل عن كل ذلك، نحسّ بالعزّة والمتعة والطمأنينة والثراء.

كنت أعلم أن ذلك الإحساس حق، من الطريقة التي يمشي بها آبائي وأجدادي. لا يمشون مختالين، لكنهم يمشون على وجه الأرض ثابتي الخطى مرفوعي الرؤوس، لا يخامرهم شك أن الأرض أرضهم والزمان زمانهم.

ولعل الإنجليز خرجوا آخر الأمر لأنهم ضاقـوا بإحساس الحرية ذاك لدى السودانيين، كأنهم لم يفهموا، أو رفضوا أن يفهموا أنهم أمة مهزومة مستعمرة.

الإحساس بالمذلة والهوان حدث لهم بعد ذلك على أيدي بعض أبنائهم الذين انتزعوا الحكم من الذين ورثوه عن الإنجليز، ومنهم من كان صبياً مثلي في ذلك الزمان الأغر، وجلس على بقعة رمل كما جلست، مع آبائه وأجداده في إفطار شهر رمضان.

كنا حقاً سواسية كأسـنان المشط، ولا بد أنه ذاق المذاقات نفسها وشم الروائح نفسها، واستمع مثلي إلى أحاديث آبائه وأجداده، حديثاً مليئاً بالمحبة والحكمة والطمأنينة.

فماذا أصابنا بعد ذلك، أم ماذا أصاب الزمان؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى