“نحنُ نَتَوقَّعُ غَلَبَةً بِسَبِيْلِ سَذَاجَةِ الوعظْ”
وليام لويد قاريسَونْ William Lloyd Garrison
من “إعلان نوايا” تبنَّاهُ “ميثَاقُ السَّلامِ” بواشنطن في العام 1838م
المِفتاحُ الأوَّلُ، بل الدَّرْسُ الأَوَّلُ، من التَّاريخِ الإنْسَانِيِّ المُتَّصِلِ بمسألةِ اللاعُنْفِ هُوَ أنَّهُ ليست هنالِكَ، في أيَّةِ لُغَةٍ إنسانيَّةٍ، كلمةٌ مُفرَدَةٌ دالَّةً، باستِقلالٍ، على معنى اللاعُنفْ. بَلَىْ، إنَّ مفهُومَ ونَهَجِ اللاعُنف قد امتدحَتْهُ كُلُّ الدِّيانَاتِ الإنسانيَّةِ الرَّئِيْسَةْ. ثُمَّ إنَّ التَّاريْخَ الإِنسانِيَّ قد شَهِدَ، في جِمَاعِهِ، مُمَارِسِيْنَ للاعُنف، مَذْهبَاً وسلُوكَاً عمليَّاً وعقيدةً ومبدأ. مع ذَلِكَ، فِيمَا تَشْتَمِلُ أيُّ لُغَةٍ إنسانيَّةٍ رئيسَةٍ على كلمةٍ تعني “العُنفَ” ليست هُنالِكَ أيُّ كَلِمَةٍ، في أيِّ لُغَةٍ من اللُّغاتِ البَشَرِيَّةِ الرَّئيسَةِ، مُوْكَلةً بالتَّعبيرِ عن فِكْرَةِ اللاعُنف سوى تلكَ العِبَارةِ التي مُؤَدَّاهَا أنَّ فِكرةَ اللاعُنف ليست هي، بالأَحْرَىْ، “فِكرَةً أُخْرَىْ” مُقابِلَةً لـ”فكرةِ العُنف” وإنَّمَا هي فقط ما ليسَ هُو عُنفْ. ولئِنْ نُمثِّلُ لتِلْكَ اللُّغاتِ باللُّغَةِ السَّانسكريتيَّة نَلْقَىْ أنَّ الكَلِمَةَ التي تعنِي العُنْفَ فيها هي كلمة “هِمْسَا himsa“، الأَذَىْ أو العُنفْ، ومقابل كلمة “هِمْسَا”، تلكَ، في اللُّغَةِ السَّانسكرينيَّة، ليس هو- تَمَامَاً كما في حالِ كلمة اللاعُنف التي هي، لغويَّاً، مُجرَّدَ صيغة سلبيَّة لكلمةِ العُنفْ- سوى كلمة “أهْمِسَا ahmisa“- عدم فعل الأذى أو العُنْفْ. لكِن إن تَكُن الـ”أهْمِسَا” هي “عدم فعل الأذى أو العنف” ما الَّذِي تفعَلُهُ الـ”أَهْمِسَا” إِذَاً؟
التَّفسير المُمْكِن الوحيد لغيابِ أيِّ كلمةٍ تفاعُلِيَّةٍ proactive قد تُعبِّرُ عن معنى وقيمةِ اللاعُنف هو أنَّهُ ليست فقط المُؤسَّسَة السِّياسيَّة وإنَّمَا كذلكَ المؤسَّسات الاجتِماعيَّة والثَّقافيَّة لكُلِّ المُجْتَمَعَات البَشَرِيَّة قد نظرت إلى موقف (وفعل) اللاعُنف على أنَّهُ وِجهة نظر هامشيَّة، رفضٌ خياليٌّ لأحدِ مُكوِّناتِ المُجْتَمعِ الرئيسة، استِنْكَارٌ لسُلْطَةٍ لا يُسْتَهَانُ بها، لكنَّه ليس قُوَّةَ رفضٍ جِدِّيَّةٍ بديلةٍ قائِمَةً في حدِّ ذاتِهَا. إنَّ ذلك الموقف (وذلكَ الفِعْل) قد نُظِرَ إليهِ، بعبارةٍ أُخرَىْ، ومِن عِنْدَ حدِّ وِجْهَةِ نظرِ تلك المؤسَّسَاتِ جميعِهَا، ليس من حيثُ كَوْنِهِ موقفَاً مُشَكِّلاً لمَفهُومٍ فِعْلِيٍّ (عَيْنِيٍّ) أصيلٍ لَهُ كينُونَةٌ مُستَقِلَّةٌ بذاتِهَا وإنَّمَا من حَيْثُ اعتبارِهِ، ببساطَةٍ، مُجرَّدَ موقفِ تَخَلٍّ سِلْبِيٍّ عن موقفٍ آخرٍ. غَيْرَ أنَّ فِكرَةَ اللاعُنف ليست هي أبدَاً كما تُصوِّرُها تلك المؤسَّساتُ العتيدَةْ. ثُمَّ إنَّها- تلكَ الفِكرةُ- قد هُمِّشَتْ، مِن قِبَلِ تلكَ المُؤسَّسَاتِ عَيْنِهَا، لأنَّها أحد الأفكار الثَّوريَّة الحقيقيَّة النَّادِرَة إذْ هِيَ فِكْرَةٌ تنشُدُ تغييرَ طبيعَةَ المُجْتَمَعِ على هيئةٍ كُلِّيَّةٍ؛ فِكْرَةٌ تُشَكِّلُ تهديدَاً للنِّظَامِ المُؤَسَّسِ السَّائد. عليهِ عُوْمِلَتْ الفِكْرَةُ إِيَّاهَا، دَوْمَاً، على أنَّهَا نَهَجٌ عَمِيْقَ الخُطُورَةْ.
إنَّ مُحَبِّذِي سبيلِ اللاعُنف- أولئِكَ الأُنَاسُ الخَطِرُون- قد كانُوا دومَاً حاضِرِيْنَ عِنْدَ كُلِّ عِهُودِ التَّاريخِ، يُسائِلُونَ “عَظَمَةَ” شخصِيَّاتٍ من أمثَالِ يوليوس قيصر ونابليون و”الآباء المُؤسِّسين” وروزيفيلت Roosevelt وشَيْرشِلْ Churchill. وإزَاءَ كُلِّ حربٍ صليبِيَّةٍ وثَوْرَةٍ دَمَوِيَّةٍ عنيفَةٍ وحربٍ أهليَّةٍ كان هُنالِكَ، دَوْمَاً، أُولئِكَ الذين حاجُّوا، بِجَلاءٍ عظيمٍ، بأنَّ العُنْفَ ليسَ لا أخلاقِيَّاً فَحَسْبْ، وإنَّمَا حتَّى هُوَ قد كان، كَذَلِكَ، وسيلَةً أَقَلَّ فَعاليَّةً لتحقيقِ غاياتٍ محمُودَةْ. القَضِيَّةُ المَعْنِيَّةُ هُنَا يُمْكِنُهَا أن تُؤَسَّسَ على أنَّهُ لم تكُنْ الثَّورَةُ الأمريكِيَّةُ هي التي أمَّنَتْ الاستقلال عن بريطانيا، ولا الحرب الأهليَّة الأمريكيَّة هي التي حرَّرَتْ الرَّقيق، ولا الحرب العالميَّة الثَّانية هي التي أنقَذَتْ اليَهُودْ. غَيْرَ أنَّ ذاكَ الإِمْكَان لم يُعْتَبَرْ إلا نادِرَاً بسببِ أنَّ قياصرة ونابليونات التَّاريخ قد اسْتَخْدَمُوا، دَوْمَاً، نُفُوذَهُم لإِخْمَادِ أصواتِ أولئِكَ الذين قد يَتَحَدُّونَ ضَرْوَرَةَ الحرب. ثُمَّ إنَّ أولئِكَ القياصرة، كما لاحظ نابليون بونابرت، هم الذين يُمكَّنُونَ من كتابةِ التَّاريخْ. عليهِ يغدُو من قَتَلُوا هُمْ ذَاتُ من يُبَجَّلُواْ. غَيْرَ أنَّ هُنَالِكَ تَاريخٌ آخَرٌ يَتَدَبَّرُ أمْرَ بَقَائِهِ.
إنَّهُ- ذلكَ التَّاريخُ الآخَرُ- يَبْقَىْ، بيدَ أنَّ اللاعُنفَ يَظَلُّ، في الواقِعِ، رَفْضٌ مِن عِنْدَ الهَامِشِ مِنْ قِبَلِ مَفْهُومٍ مُهَمَّشْ. وقد لاحظَت حَنَّا أَريْنْدَتْ Hannah Arendt، في دراسَتِهَا الصَّادِرَة في العام 1969م وبعنوان “عن العُنفْ“، أنَّهُ فِيمَا من المُسْتَطَاعِ الاتِّفاقُ، على نحوٍ عالمِيٍّ، على أنَّ العُنْفَ قد كانَ أحدَ المُحرِّكَاتِ الأساسيَّةِ للتَّارِيْخِ لم يَدْرُسْ المُؤَرِّخُون والعلماء الاجتِمَاعِيُّون، إلا نادرَاً، موضُوعَ العُنْفْ. واقتَرَحَتْ حَنَّا أريندت أنَّ ذلكَ قد كانَ بِسَبَبِ أنَّ العُنْفَ قد كانَ من الشِّيُوعِ في النَّشاطِ الإنسانِيِّ على حيثٍ أوصَلَهُ إلى حَدِّ “اعتبارِهِ أمرَاً مُسَلَّمَاً بِهِ ومِنْ ثَمَّ تَمَّ تَجاهُلُهُ”. إنَّ العُنْفَ عُنْصُرٌ رئيسٌ في الوضعيَّةِ البَشَرِيَّةِ فيما اللاعُنف سوى استجابَةٍ … لتلكَ الحقيقة. ما الذي يعنيِهِ ذلكْ؟ لئن نحنُ كُنَّا قد عِشْنَا في عالمٍ لم تكُنْ لديهِ كلمةٌ للحرب سوى “اللاسلام”، أيُّ نوعٍ من العوالم قد يَكُنْ قد كَانَهُ ذاك العالم؟ ليس لمثلِ ذاك العالم أن يَكُنْ قد كانَ، بالضَّرُورَةِ، عَفِيَّاً من الحرب، لكنَّهُ قد يَكُنْ قد كانَ عالمَاً حُسِبَتْ فيه الحربُ انحرافَاً ونشاطَاً هامشيَّاً وليس ذا خَطرٍ كبيرْ. إنَّ وِجْهَةَ النَّظَرِ المُعْتَنَقَةَ، من قِبَلِ مُعظَمِ الثَّقَافَاتِ، على نِطاقٍ واسِعٍ، غيرَ أنَّهَا نادرَاً ما يُعبَّرُ عنها، بِمَعْنَى كونِها ضمنيَّة، هي أنَّ العُنْفَ حقيقيٌّ واللاعُنْفَ لا حقيقِي. لكنَّ عندما يصيرُ اللاعُنْفَ حقيقَةً يَغْدُو قُوَّةً عَظِيْمَةْ.
اللاعُنفُ ليسَ هو ذاتَ السُّلْمَوِيَّة Pacifism التي لديها كلِمَاتٌ مُستَقِلَّاتٌ عديدَاتٌ تفي بمعناها. ثُمَّ إنَّ السُّلْمَوِيَّة Pacifism تُعَامَلُ على أنَّهَا، بالكَادِ، وضعيَّةٌ نفسيَّةْ. إنَّهَا حالَةٌ للعقلِ والنَّفس، وهي حالةٌ سلبيَّة (سُكُونيَّة) فيما اللاعنف نَشِطٌ وحَرَكِيٌّ، كما وهي “غير مؤذِيَة” ومن ثَمَّ أيسَرَ على القبُولِ من اللاعنف الذي هو خَطِرْ. وحين قال السَّيِّد عيسى المسيح إنَّ على الضَّحيَّة إدارةَ الخَدِّ الآخر كان يدعو للسُّلمَوِيَّةPacifism . غيرَ أنَّهُ حينما قال إنَّ عَدُوَّاً ما، أو آخر، ينبَغِي أن يُكْسَبَ خَلَلَ قُوَّةِ الحُبِّ كان هُوَ يدعُو إلى اللاعُنفْ. إنَّ اللاعُنف، تماماً مثل العنف، وسيلةٌ للاستمالة، تقنيةٌ للنشاط السِّياسي ووصفَةٌ للغَلَبَةْ. غير أنَّ ابتداع وسائل اللاعُنف- مثل المُقَاطَعات، الاعتِصامات، الإضرابات، مسرح الشَّارع، التَّظاهُر، يَتَطَلَّبُ قدرَاً من الخَيال أكثرَ بكثِيْرٍ من استِخدام العُنف. ثُمَّ إنَّهُ ليس هُنالِكَ، دَومَاً، اتِّفَاقٌ على ما الذي يُشِكِّلُ عُنْفَاً، سيَّمَا وأنَّ بعض المُكافِحينَ على سبيلِ اللاعُنف يُؤمِنُونَ بأنَّ المُقاطَعاتِ ومُخْتَلَفِ شُكُولِ الحَظْرِ التي تُسبِّبُ جُوعَاً وحِرْمَانَاً قد تُعَدُّ شُكُولاً من أشكالِ العُنف فيما يعتَقِدُ آخرُون أنَّ استِخدام وسائِلِ قُوَّةٍ أَقَلَّ فَتْكَاً، مثل قذف الحجارة، أو الرُّصاصات المطَّاطيَّة، شَكْلٌ من أشكال اللاعُنفْ. غير أنَّ المُعْتَقَدَ الأساسي في كُلِّ ذلِكَ هو أنَّ أشكال الاستِمالة التي لا تستَخْدِمُ قُوَّةً فيزيائيَّة، ولا تُسَبِّبُ معاناةً، أَكْثَرَ فعَالِيَّةً وأنَّهُ فِيمَا كثيرَاً ما تَكُنْ هُنالِكَ حُجَّةٌ أخلاقيَّةٌ لِنهَجِ اللاعُنف يَبقَىْ أُسُّ مُعتَقَدِ وَسَبِيْلِ اللاعُنف سِيَاسِيَّاً وذَلِكُم الأُسُّ هو أنَّ اللاعُنف أَكْثَرَ فَعَالِيَّةً من العُنف وأنَّ العُنْفَ لا يَفْلَح، في غاية الأمرْ.
قد ابْتَدَعَ موهاندس غانديMohandas Gandhi كَلِمَةً للاعُنف هي “ساتياقراهَا”، وذلكم قد اشتَقَّهُ من كلمَةِ “ساتيَا”، التي تعنِي لُغَةً، عند الهِنُود، “الحقيقَة”. وقد عَنِي غاندي بكلمة “ساتياقْرَاهَا”، حرفِيَّاً، “الاعْتِصَام بالحقيقَةْ” أو “قُوَّة الحقيقة”. ومن المُثير للانتباه هُنَا أنَّهُ رُغْمَ أنَّ تعاليمَ غاندي وتقنِيَاتِهِ قد كان لها أَثَرٌ نَافِذٌ في ناشطين سِيَاسِيِّين في مُختَلَفِ أرجَاءِ العالم لَمْ تَلْقْ كلمتُهُ التي ابتَدَعَهَا للاعُنف، ساتياقْرَاهَا، رَوَاجَاً بِقَدْرِ رَوَاجِ تعاليمِهِ وتقنِيَاتِهِ.
كُلُّ الأديانِ ناقَشَتْ قُوَّةَ اللاعُنف وشَرَّ العُنْفْ. ولا نَلْفَىْ، في هَذَا المُتَّصل، للدِيانَةِ الهِندَوسِيَّة، التي تزعَمُ أنَّهَا أَقْدَمُ دِيَانَةٍ في العالم، رُغْمَ أنَّ تاريخَ تَأسِيْسِهَا ومُؤَسِّسِهَا ما يزالان مَجهُولين، موقفَاً واضحاً من فلسفةِ وسبيلِ اللاعُنفْ. ذَلِك الالتِبَاسُ ليسَ مُدْهشَاً بالنِّسْبَةِ لِدِيَانةٍ مُوغِلَةٍ في القِدَمِ وليس لها عَقِيْدَةٌ مَرْكَزِيَّةٌ أو قسَاوِسَةٌ رسميُّون وذَاتَ وَفرَةٍ مُفرَطَةٍ في الكُتُبِ المُقَدَّسَةِ، الآلِهَةِ، المَجامِيْع الأُسْطُورِيَةِ والنِّحَلْ. ورُغْمَ كَثَرَةِ تِردادِ الهِندوس لهذه الحِكمة المُوجَزَة: “أهيمسَا بارامُو أهارماه”: اللاعُنف هو السَّبيلُ الأَسْمىْ، لا تُشَكِّلُ تلكَ الحِكْمَةُ الجَّامِعَةُ قَاعِدَةً راسِخَةً في ديانَتِهِم. إنَّ العُنْفَ مَسْمُوحٌ بهِ في الدِّيانَةِ الهِنْدَوسِيَّة وإِنْدرا Indra تُصَوَّرُ عِنْدَهُم إلهَةٌ هِنْدَوسيَّةٌ حربيَّةَ الهيئَةْ. غَيْرَ أنَّ هُنالِكَ، كذلِكَ، كِتابَاتٌ عديدةٌ لحُكماءٍ هندوس ضِدَّ العُنف، خَاصَّةً في كِتابٍ معرُوفٍ باسم “المهابهرَاتَا Mahabharata. ثٌُمَّ إنَّ الحُكَمَاء الهِنْدَوسْ قد نَزَعُوا نَحوَ رؤيَةِ سبيلِ اللاعُنف على أنَّهُ مِثَالٌ عَصِيَّ التَّحَقُّق. إنَّ اللاعُنف الكامل قد يعنِي عدم إيذَاء أيِّ كائنٍ حَيٍّ. وقبد شَجَّعَ الحُكماء الهُنود اتِّخَاذَ نَهجِ الحياةِ النَّبَاتِيِّ تَجَنُّبَاً لإيذَاءِ الحيوانات. وقد عَمَد الجَّيْنِيُّونChainists ، الذين يَتِّبِعُونَ دِيَانَةً أُعْجِبَ بها غاندِي، إلى إِبْقَاءِ أفواهِهِم مُقَنَّعَةً حتَّى يضمنُوا لم يَسْنَنْشِقُوا، دُونَ قصْدٍ، حشرَةً صغيرَةً. غيرَ أنَّ الهِنْدَوسيَّةَ تُقِرُّ بأنَّ أكثَرَ النَّباتِيِّيْنَ الأكْثَرَ صَرَامَةً “وراديكاليَّةً” يأذُونَ النَّباتَات إذ هُم يقتُلونَها كي يحيُونْ. نَعْمْ، قَدْ قِيْلَ أنَّ قِدِّيْسَاً ما، أو آخر، قد يَكُنْ بُوُسْعِهِ الحَيَاةَ على الهواء، لكن الهِندوسيَّة تُقِرُّ بأنَّ ذلكَ مستحيل، عليهِ يغدُو، من المنظُورِ الإِنسَانِيِّ العَمَلِيِّ، عدمُ فِعلِ الأذَى على نحوٍ كاملٍ ومُطلَقٍ نُشْدَانَاً غَيْرَ مُمْكِن التَّحَقُّقْ. كَتَبَ غاندِي، ذاتَ مَرَّةٍ: “اللاعُنف التَّام كَمَالٌ مُطلق. إنَّهُ غايَةٌ يسعى نحوها النَّوعُ الإنسَانِيُّ، طبيعِيَّاً، وإِنْ لا شُعُورِيَّاً”. هُو قد اعتَقَدَ أنَّ الكائنات الإنسانِيَّة ما فَتِئَتْ تَسْعَى نحو تحقيقِ الكمالِ الإنسانِي وأنَّ العُنْفَ خَاصَّيَّةً بَرْبَرِيَّةً نُكُوصِيَّةً لم يَتَيَسَّرُ تجاوُزُهَا بَعْدْ. ثُمَّ إنَّ الكائِنَ الإنسَانِيَّ الذؤي يُحقِّقُ الكَمَالَ في اللاعُنف قد لا يُضْحِيْ قِدِّيْسَاً وإِنَّمَا هو، كما قالَ غاندِي، “قد يغدُو إِنْسَانَاً حَقِيْقِيَّ الإنسَانِيَّةِ فَحَسْبْ”.
إنَّ مفهُومَ الإنسان باعتِبَارِهِ كائِنَاً ناقِصَاً مُلْزَمَاً بالكَبَدِ على سبيلِ تَحصيلِ كَمَالٍ عَصِيَّ المَنَالِ يَصْبِغُ غَالِبَ الفِكرِ الإنسانِيْ. وقد كَتَبَ مُؤَسِّسُ الحركة اللاسُلطَوِيَّة Anarchism Movement الفِرِنْسِيُّ في القرن التَّاسع عشر، بيير-جوزيف برودون Pierre-Joseph Proudhon، في كتَابِهِ المُسَمَّى Philosophie du progress (“فلسفة التَّقَدُّم“)، الذي صدر في العام 1835م: “نحنُ نُولَدُ قابلينَ للاكتِمال، غيرَ أنَّنَا لن نُصِرْ، أبدَاً، كاملين”. إنَّ الحُجَّةَ التي كَثِيرَاً ما تُرَدَّدُ ضِدَّ اللاعُنف، والتي مُؤَدَّاهَا أنَّهُ من طبيعة الإنسان أن يَكُنْ عنيفَاً (ومن ثَمَّ كان ذلكَ، من منظُورِ تِلكَ الحُجَّة، بلا شك، سببَ استِحقاق العُنف، بخِلافِ اللاعُنف، لِكَلِمَةِ “إِيْجَاب” خاصَّة بهِ في كُلِّ اللُّغاتِ البَشَرِيَّةْ)، تَبْقَىْ مُفْتَقِرَةً إلى الصِّحَّة على ضُوءِ الحُجَّة الأخلاقيَّة الغالبة الرَّائِيَةَ أنَّهُ من واجِبِنَا (الإنساني-الأخلاقِي) أن نُحاوِلَ أن نَكُنْ أفضَلَ (إنسَانِيَّاً وأخلاقِيَّاً) مِمَّا نَحْنُ عليهِ.
وتُصِرُّ الهِندوسيَّة وغاندي هُنَا على أنَّ اللاعُنفَ لا يجيءُ، أبَدَاً، من موقِعِ الضَّعْفِ وإِنَّمَا من مَوقِعِ القُوَّة وعلى أنَّ أَقْوَىْ النَّاس وأكثَرَهُم انضباطَاً وتَوازُنَاً هم فقط من قد يأملُونَ في تحقِيْقِهِ، في أنفُسِهِمْ وفي الآفاقْ. عليهِ يُضْحِي من هُمْ ليسَ بِمُسْتَطَاعِهِم الدِّفاع عن أنفُسِهِم بِغَيِرِ وسيلَةِ العُنْف، أولئِكَ الذين يفتقرُونَ إلى القُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ الكافِيَةِ لمُقابلَةِ وِحْشِيَّةِ غريمِهِم الفيزيائيَّة، إِمَّا بِفِعْلِ ضعفهم الخاص أو بِفِعْلِ شِدَّةِ وعَمَدِ وِحشِيَِّةِ العدُو، مُضَّطرينَ لاستخدام العُنف الفِيزيَائِيِّ للدِّفاعِ عن أنُفُسِهِمْ. هذا ويُعدُّ الاستِسلامُ السِّلبِيِّ للوحشيَّة خَطِيْئَةً في الدِّيَانِةِ الهِنْدُوسِيَّةْ.