قراءة في فكر اسماعيل مظهر … إحياء النزعات العلمية والاصلاحية
قصي الحسين
السبت ١٤ يوليو ٢٠١٢
أهم جانب بقي للفكر العربي، أن يبحث في الطرق التي توصل الإنسان العربي نفسه إلى المعرفة العلمية الدقيقة بالعالم الخارجي أو بالعالم الباطني، والاشتغال على إصلاح ما يستوجب إصلاحه وتنمية وتقوية ما يجب تنميته وتقويته، لأجل النهوض بالإنسان والمجتمع والدولة.
تلك كانت هواجس د. طلعت الأخرس، حين بادر لإحياء النزعات العلمية والإصلاحية والتي هي من مكونات فكر إسماعيل مظهر، والتي كان لها اسهاماتها الأولى في إطلاق الربيع العربي الأول في مطلع القرن الماضي، تماماً كما كان لهذا الربيع نفسه بصماته القوية على فكره وعقله وفلسفته، في جميع نشاطاته الرؤيوية الخلاقة التي عكستها لنا مؤلفاته العربية ومترجماته الغربية على حدٍّ سواء.
ففي ظل واقع التخلف والضعف والوهن والفساد الذي أصاب الدولة العثمانية والذي بلغ أوجه في إعلان الباب العالي إفلاس الدولة في 6/10/1875، بدا مطلب الإصلاح والتحديث أولوية مطلقة، على المستويين التاريخي والسياسي كما يقول فلاديمير لوتسكي في كتابه «تاريخ الأقطار العربية الحديثة» (376). كذلك فإن حملة نابليون إلى مصر من جهة وجهود محمد علي من جهة أخرى، جعل المتنورين والمفكرين والإصلاحيين يشرعون بصياغة الأفكار الجديدة، وينادون بضرورة النهوض بمشاريع التحديث والتطوير، كردّ على التحديات التي فرضها التخلف العثماني.
ويستعرض د. طلعت الأخرس ردود الفعل الأولى، فيقول إنها جاءت من البيئات السلفية، «فظهرت الحركة الوهابية في الجزيرة العربية منذ عام 1744 التي قاومت الفساد العثماني بيد، والبدع المخالطة لنقاء السلفية الأصولية باليد الأخرى». ويضيف د. الأخرس قائلاً: «ثم تلتها حركة عبدالقادر الجزائري (1832 – 1847)، التي نظمت مقاومة مسلحة ضد الاستعمار الفرنسي، مبعثها إحياء صوفي – سنّي. ثم الحركة المهدية (1881 – 1898) التي مثلت حركة ضد الاستعمار البريطاني، جامعة هي الأخرى بين روح الجهاد وحماسة التصوف. ثم الحركة السنوسية في ليبيا (1912 – 1925) بالخاصتين ذاتهما: المقاومة والعودة إلى الأصول» (ص 173).
ويستعرض د. الأخرس أيضاً حركة الاصلاح التوفيقي المتمثلة بالأفغاني (1839- 1897) ومحمد عبده (1849 – 1905) والكواكبي (1854 – 1902). وهي برأيه لم تكن إلاّ الأسلوب الآخر في التقليد الإسلامي لمجابهة التحدي. كما لم تكن التوفيقية إلا الاستجابة الإسلامية المثمرة في المواجهات الحضارية.
وهذه التوفيقية، كما يقول الباحث، ظهرت في البيئات الأكثر احتكاكاً بالحضارة، والأكثر انفتاحاً على المؤثرات الخارجية، فقبلت بالتعايش مع النظم الأوروبية ومؤثراتها وبعض تشريعاتها، بخلاف السلفية، مما سمح للشورى أن تأتلف مع الديموقراطية، إذ عمدت التوفيقية لإيجاد صيغة متوازنة بين قيم الإسلام والحضارة الغربية. وذلك لأجل الحفاظ على منطلقها النظري القائل: إن الإسلام، يتقبل كل ما هو صحيح وجوهري وضروري في الحضارة الحديثة، وكل ما تحتمه تطورات العصر ومصالح الجماعة.
وعملت التوفيقية الإسلامية، على الانفتاح على الرافد العلماني المسيحي، باعتباره من نسيج المجتمع العربي، وباعتبار الفكر المسيحي العربي، بحكم جذوره الدينية وصلاته الفكرية بالغرب، كان اقدر على استيعاب الجدلية التاريخية بين الدين والعقل، والتي تستند إلى الفصل والتمييز والتفريق بينهما.
وكان من نتاج هذه التوفيقية الإسلامية إذاً، إيجاد تيار إسلامي تجديدي علماني الميول، استطاع بحق أن يمثل ظاهرة بارزة في الفكر العربي في أوائل القرن العشرين. ومن أبرز وجوه هذا الفكر، يذكر د. الأخرس: لطفي السيد (1872 – 1963) وسعد زغلول (ت: 1927) وطه حسين (1889 – 1973) وإسماعيل أدهم (ت: 1940) ومنصور فهمي (ت 1958) واسماعيل مظهر (1881- 1962).
لعل الربيع العربي الأول الذي واجه واقع التخلف والفساد محروساً بالاستبداد العثماني، رتب على أساطينه في الفكر والسياسة أن يعمدوا إلى إحياء النزعات العلمية والإصلاحية من أجل إرساء قواعد الدولة على أسس متينة. ولهذا كانت مسؤوليات إسماعيل مظهر، المفكر النهضوي، أن يلاقي الربيع العربي في الحقل الوطني والعلمي والسياسي والإعلامي. فكان يجاهد ويكافح مع مصطفى كامل. وبدا كداعية تنويري وتحديثي وعلمي من جهة وإحيائي ومجدد من جهة أخرى. كانت تلك، اطروحاته في كبريات الصحف المصرية: اللواء والأفكار والمنبر. وفي مطلع ثورته وشبابه، أصدر جريدة الشعب (1927) وجعل شعار عددها الأول كما يقول د. الأخرس: «حرر فكرك من كل الأساطير الموروثة، حتى لا تجد صعوبة ما في رفض رأي من الآراء، أو مذهب من المذاهب اطمأنت إليه نفسك وسكن إليه عقلك» (ص 264).
واندرج إسماعيل مظهر مؤسساً للربيع العربي الأول في حراك تنويري علمي، ظهر ذلك في مؤلفاته العلمية والأدبية والنقدية باللغة العربية، كما في مترجماته عن الأوروبية. وقد أولاها د. طلعت الأخرس عنايته، من خلال التعريف بها. أما العدد الأول من مجلة العصور، فقد جعل على رأس الصفحة الأولى حكمة تقول: «شعاع الحكمة يجذبنا إليك». ثم نجده يرسم منهجه وغايته في افتتاحية العدد الأول، مستفتحاً بالآية الكريمة التي تقول: «عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض، فينظر كيف تعملون» (الأعراف 27).
ويقوم منهج إسماعيل مظهر المؤسس للربيع العربي الأول كما نرى، على الاستقلال في الرأي والدعوة إلى التجديد المستنير واحترام القيم الإنسانية. وكان يشدّد كمفكر وناقد وإعلامي على ضرورة توخي التحليل الموضوعي الذي لا تقيده الحوافز الخارجية أو الأوامر السياسية وهي التي منعت الكثيرين من الكتاب والأدباء عن القيام بواجباتهم تجاه شعبهم. وقد وجد «مظهر» أن النقص في الموضوعية، يتضح على أشده في مصر، في ظل النظام البرلماني الجديد. ويعتبر ذلك من الآثار السلبية لهذا النظام. إذ يقول: «إن ممارسة الحريات الديمقراطية، من دون مسؤولية، أدت إلى نتائج مشابهة في بلاد أخرى بما فيها الأنكلوسكسونية واللاتينية. لكن هذه النتائج ظهرت في البلاد اللاتينية على نحو أوضح. وبرأيه أن البلاد السامية الشرقية (العالم العربي) كان قد برز هذا الاتجاه فيها بروزاً ظاهراً، لأنها تماثل البلاد اللاتينية (ص 267).
فاسماعيل مظهر لم يرفض الديموقراطية بل فضح الذين أفسدوها. وهو الذي دعا الناس إلى تحرير عقولهم من أنماط الفكر التقليدي والتنديد بأنماط الفكر الدينية التقليدية. ولذلك التف حول دعوته أصحاب الفكر الحر يناصرونه، تأسيساً للربيع العربي الأول.
إعلام الدموستناره
نشكر حريات علي توسيع دائرة توزيع هذه المادة التي كنا قد اخترناها وفمنا بتوزيعهاعلي قائمتنا البريدية. نعمل معا علي توسيع دائرة ثقافة الاستنارة وتحرير العقل.