قضايا فكرية

في نقد أطروحة هابرماس حول جينالوجيا المجال العام الحديث :علاقة العلماء بالسلطة في المدينة الإسلامية نموذجا .. محمد الربيعو

يعد مفهوم المجال العام واحدا من المفاهيم التي جرى الاعتماد عليها في قراءة العلاقة بين السلطة والمجتمع في المجالات السياسية الحديثة، خاصة بعد أن تمت ترجمة كتاب الفيلسوف الألماني يورغن هابرماس للإنكليزية «التحول البنائي للمجال العام» عام 1989، الذي عرف من خلاله هذه المفهوم، بوصفه فضاء يتجمع فيه الأفراد لتشكيل ما يقترب من الرأي العام حول احتياجات المجتمع من الدولة، وللنقاش حول المسائل العامة بشكل عقلاني.

وقد اعتمد هابرماس في تأكيد أطروحته هذه على خصوصية النطاق العام التي ظهرت في خلفية ما قبل الحداثة الأوروبية، التي شيد عليها المجال العام البرجوازي، في إطار ازدهار المجتمع المدني والتجاري، الذي ظهر في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، والتي أدت الى تصور جديد للمجال العام آنذاك بشكل عبر عن وجود مجتمع مدني منفصل عن الدولة. ووفقا لهذا التصور والتقيد الصارم بهذا التاريخ على تعريف الحيز العام، بوصفه مثالا معياريا في الحوليات الغربية، فان هذه الرؤية اعتقدت بأن المجتمعات المدنية والمجالات العامة خارج أوروبا الغربية، لم تستطع أن تتطور نظرا الى خضوعها لنير تقاليد الدولة المستبدة / أو بسبب الثقافة الدينية التي تحول دون مقاومة المجتمعات لتلك الدول القمعية.

الإشكالية في هذا الطرح، أن هابرماس قد فشل من خلال هذا المنحى البحثي الذي اعتمده، في ملاحظة أن ثمة جذورا مهمة لفكرة المجال العام الحديث تكمن في النظرية السياسية الكلاسيكية وكذلك في الممارسات التراثية، كما أنه قلل من الدور الذي لعبه التراث الديني في تكوينه.

في حين أن منظرين آخرين قاموا بتغطية هذه الفجوة، أمثال أستاذ علم الاجتماع الإيطالي في جامعة نابولي أرماندو سالفاتوري في كتابه المهم للغاية الذي ترجم مؤخرا للعربية بعنوان «المجال العام: الحداثة الليبرالية والكاثوليكية والإسلام» وغريغ كالهون – كل من زاويته – عبر التأكيد على أن فكرة وجود المجال العام، هي في الأساس ذات مسارات تطورية طويلة الأمد يمكن تتبعها في ثقافات وحضارات أخرى، ولذلك سعوا من خلال هذا الطرح الى فكرة ضرورة البحث عن محاولات داخل صور مختلفة من التراث، كصور سابقة للفكرة الحديثة للمجال العام.

وانطلاقا من هذه المقاربة الجديدة لتاريخ المجال العام، نروم في هذه المقال تقديم قراءة أولية لتاريخ المجال العام الإسلامي، عبر قراءة تاريخية للعلاقة بين السلطة وعلماء الإسلام الذين شكلوا من الناحية الوظيفية جزءا من هذا المجال، عبر المؤسسات التي عملوا بها، مثل المسجد والمدرسة والوقف أو حتى الطرق الصوفية، التي سعوا من خلالها الى الدفاع عن استقلالية المجال الاجتماعي او تدعيم استقلاليته عبر بعض المؤسسات الأهلية (الوقف).

ابن حنبل ومحنة المجال العام:

تمكن العلماء نحو منتصف القرن الثاني الهجري، بفضل سيطرتهم التدريجية على أدوات المعرفة الدينية، لا سيما مجال السنة، من أن يفرضوا أنفسهم داخل المجال الاجتماعي الإسلامي كفاعلين ذوي سلطة متزايدة في جميع المجالات، فقد كانوا هم القضاة، أئمة المساجد، والوعاظ، والمحدثين، والمعلمين، والفقهاء، والمتكلمين. ولن يمر وقت طويل كي تغدو هذه الظاهرة مصدر قلق النخب السياسية الذين نظروا بعين الريبة الى استقلالية القضاء الديني والصعود المتزايد لدور العلماء، بسبب كثافة شبكاتهم الاجتماعية وقربهم من السكان.

الأمر الذي دعا الخليفة المأمون (813 -833) الى بذل كل الوسائل الممكنة لاستعادة القوة الثيوقراطية لمؤسسة الخلافة، عبر تعزيز مقولات المعتزلة. بعد أن تمكن القيمون على هذه المدرسة، بناء على مقدمات معينة، من بلورة فكر ديني وفقهي اجتماعي جديد. ولعل أهم مسألة عقدية اجتذبت المأمون الى هذا التيار الفكري، موقفه الخاص من طبيعة النص القرآني ومنزلته.

وأمام هذه الحالة التي هدفت الى امتحان العلماء، والتي عرفت في المرويات التاريخية بـ»المحنة» التي تضمنت دعوة العلماء واجبارهم على الاعتراف بطروحات المعتزلة، كي تتمكن سلطة الخلافة بصفة نهائية من احتكار المجال التشريعي الديني والدنيوي.

والجدير بذكره هنا، أن السؤال عن دوافع الخليفة الى مواجهة العلماء في مسألة إيمانية قاد عددا من المفكرين العرب، للنظر الى الدين بوصفه عاملا غير مؤثر في حركية وفعالية المحنة، وتبني قراءات ذات لوثة علمانية باسم تجديد الرؤية للتراث، متجاهلين أن دور الدين كان يفيد بما هو أكثر من القضايا الروحانية، وذلك لما كــان يؤديه من وظيفة مجتمعية عبر التأكيد على العـــدالة والمبادئ الأخلاقية والدفاع عن استقلالية المجال العام داخل فضاءات المدينة باسم الشريعة.

وهو ما انتقده الباحث الأمريكي مايكل كوك أثناء بحثه في تاريخ مقولة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وذلك حيال رؤية فهمي جدعان لامتحان المأمون لابن حنبل التي عبر عنها في كتابه الشهير «المحنة: جدلية العلاقة بين الديني والسياسي»، الذي رأى من خلاله أن المأمون كان يتوجس خيفة من رجال الحديث، ويخشى خطرهم بحكم قوتهم المتنامية التي أخذت تستحوذ بصورة متصاعدة على أفئدة العامة ورغبتهم في الرياسة، خاصة أنها قوة «أموية الهوى»، لذلك فقد تبين للمأمون مقدار الخطر الذي كان ينتظره من مثل هذه القوة على الدولة وسلطانه وتماسكها ووحدتها، ومن امكان تحول هذه القوة الى قوة ضاربة تدك أسس مملكته برمتها.

ومع هذا فان ما غاب عن ذهن جدعان وجل المثقفين العرب، الذين غالبا ما اعتمدوا على رواية المعتزلة للمحنة بوصفها أكثر «صدقية»، مما دعاهم الى تجاهل الرؤية الحنبلية، مع العلم أننا لا نعثر قبل الحادثة الا على القليل من الشواهد حول مشاركة الحنابلة أو تدخلهم في أي شأن من شؤون سياسات الخلافة. وهو ما لاحظه بذكاء المؤرخ الأمريكي نمرود هوريتز (تلميذ مايكل كوك) في كتابه «ابن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي» من أنه من بين الخمسمئة تلميذ الذين ذكرتهم المصادر الحنبلية ليس هناك سوى واحد هو أحمد بن نصر بن مالك الخزاعي (ت231) قيل إنه شارك في النشاطات السياسية. وهذا بذاته ليس دليلا قاطعا على أن الحنابلة لم يكونوا مشاركين في السياسات العامة، لكنه إشارة صريحة الى أن هذا الشكل من النشاط السياسي لم يكن عاملا مهما في نظرة الحنابلة لدورهم، ورأيهم في طبيعة هذا الدور. ولذلك كانت سياسات الخلافة خارج تطلعات الحنابلة، ولم يكن لها بالتالي النفوذ الأعمق في تشكيل المذهب الحنبلي.

وهي النقطة التي طورها لاحقا المفكر العربي رضوان السيد في سياق قراءته لرؤية هوريتز، عبر التأكيد على أن ابن حنبل كان قبل مسألة خلق القرآن، وبعدها، يجادل المعتزلة والجهمية والمرجئة والقدرية، دونما تفكير أو دعوة للسلطات للتدخل ضدهم. فما دام الأمر أمر الاقناع والاقتناع، فهو جدال مشروع بين العلماء. بيد أن تدخل السلطة السياسي ومحاولتها فرض عقيدة دينية، دفعت ابن حنبل الى أخذ موقفه العقدي المشحون برمزية رافضة لتدخل السلطة في عقائد الناس أو أحكام القضاة، الأمر الذي يعني ـ برأينا- الدفاع عن دور الأفراد العاديين في تكوين عملية التراث بعيدا عن عملية نقل الكاريزما أو رقابة السلطة.

مقاصد الشريعة الاجتماعية لدى الماوردي

وقد انتهى فشل هذه السياسات الاستحواذية التي لم تتمكن من كسب العامة وقسم كبير من النخب الدينية، الى حدوث تغير بنيوي بدءا من سنة847م، تمثل في تكريس الشريعة بصفة نهائية باعتبارها جوهر الإسلام والمصدر الأساسي وشبه الوحيد لكل حركة دينية أو سياسية او ثقافية.

مع فترة العالم الإسلامي الوسيط، أخذت مكانة الخلافة العباسية تشهد أزمة عميقة. فالغزاة البويهيون القادمون كانوا قد غزوا أغلب الأراضي الواسعة للإمبراطورية العباسية، الأمر الذي أخذ ينذر بإلغاء شوكة الخلافة، وبالتالي تزعزع المجال العام الاجتماعي الإسلامي.

في هذا الوسط عاش العالم أبو الحسن الماوردي (1058) وهو فقيه علامة في عصره، وعمل أيضا مبعوثا دبلوماسيا لمصلحة العديد من الخلفاء في مفاوضاتهم مع البويهيين والسلاجقة على حد سواء. والمشكلة الجوهرية التي واجهت الماوردي كانت دعم مصداقية الخلافة المتفككة. فاستنادا الى الشرع والسنة، كان يفترض في الخليفة ان يمارس السلطة التنفيذية الفعلية، كما فعل النبي وخلفاؤه. غير أن هذا كان في ظل البويهيين، وسيبدو في ظل السلاجقة، غير واقعي بصورة متزايدة. فقد كان هؤلاء الحكام مستعدين لإظهار بعض الاحترام للخلافة، ولكنهم لم يكونوا ليسمحوا للخليفة بالحكم منفردا.

وقد وضع الحل الشرعي الذي قدمه لهذه المشكلة في كتابه «الأحكام السلطانية»، حيث تناول فيه الحالة التي يكون فيها الخليفة تحت سيطرة شخص آخر يمارس السلطة التنفيذية، عبر الإشارة الى أن الأخير لا يزال بيده ضمان اتباع الشريعة، وعلى الحاكم بحكم الواقع الاعتراف بسلطة الخليفة بموجب قبول منصبه باعتباره الرجل الذي يعينه الخليفة لتقلده. وبقيامه بذلك، فانه يتولى الحكم وفق الشريعة، وبذلك مضت الحجة تقول، بقي الخليفة يمارس السلطة الدنيوية كما يقتضيه التقليد، سوى أنه كان ينفذها من خلال نائب.

وكان السبب الذي قدمه الماوردي للسماح للحاكم بحكم الواقع بممارسة السلطة المخولة هو الضرورة، ففي غياب سلطة الخلافة تتعرض المصلحة العامة للضرر.

بيد أن الأهم في مبادرة الماوردي، أن هذه التسوية بدت في ضوء توازن السلطات بين الحاكم والعلماء طموحة وليست انهزامية، ذلك أن المحافظة على سلطة الخليفة لم تكن المقصد الأساسي للماوردي، فالوقائع العسكرية كانت قد سادت أصلا في هذا الشأن. وبدلا من ذلك، كان الماوردي يبحث عن طريقة للمحافظة على مبدأ إلزامية الشريعة للحاكم. وبواسطة حيلة الخليفة الذي يقوم بتعيين الحاكم الفعلي نائبا يتم تحقيق خضوع الحاكم للشرع، ومنح هذا الاجراء النوع الجديد للحاكم بحكم الواقع بعضا من الشرعية نفسها التي كان يتمتع بها الخلفاء، شريطة أن يمتثل الحاكم للشريعة، وبذلك أمكن قراءة تسوية الماوردي برأي نوح فيلدمان في كتابه «سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها» ليس كتنازل من عالم عن السلطة، ولكن كمناورة ذكية حافظت بنجاح على الشرع والعلماء ومكانتهم الدستورية حتى بعد فشل الخلافة في المحافظة على الحكم بطريقة منظمة.

الزوايا ودعم دور المجال العام «مؤسسة الوقف»

مع القرنين الثاني عشر والثالث عشر، ستشهد المنطقة منعطفا كبيرا، الأمر الذي سيساعد المؤسسة الدينية على زيادة فعاليتها وتأثيرها داخل المجال العام الإسلامي، فقد ساهم الغزو المغولي والسلجوقي في تعزيز الحركات الصوفية كمؤسسات مجتمعية بصورة واضحة، بعد أن خلف الفراغ السياسي واختفاء القادة العظماء حاجة ماسة لدى عموم المسلمين بالانتماء الى شيء يمكن الاعتماد عليه، يلبي الحاجات الدينية والاجتماعية لديهم. وهنا أخذت الطرق الصوفية تنتشر، وتقيم الزوايا لسد حاجات المجتمع من عبادة وتعليم وعلاج، كما لعبت الطرق الصوفية دور الوسيط بين السكان والمحتلين الجدد، الذين كانوا يتعاقبون على البلاد.

وبحلول القرن السادس عشر، كانت الصوفية قد تحولت الى عمود مهم من أعمدة المجتمع الإسلامي، اذ قامت الطرق الصوفية بتنظيم المجتمع المحلي في المدن العثمانية الإسلامية ورفدته بالتعليم والعلاج ومساعدات الفقراء.

أما أشد الجوانب إثارة في موجة تأسيس الحركة الصوفية، هي قدرة هذه الحركات على تقميش علاقات أكثر تكاملية مع الروابط المهنية الحضرية، عبر اعانتها على وجود مصدر دائم لعلاقات الثقة التي باتت تبث من خلال سلطة مشايخ الطرق الصوفية، وقد كانت بعض هذه الروابط تتداخل في علاقاتها التنظيمية مع الروابط والطرق المختلفة: كالطوائف الحرفية، وبعض التنظيمات العسكرية، كما هو الحال في جنود الانكشارية العثمانيين، وكذلك الوحدات المستقلة من المحاربين، وفتوات الحواري وبعض جماعات الشباب ممن التزموا بمواثيق أخلاقية لحماية القيم المشتركة والشرف.

وبالمعنى التنظيمي، فان الحركات الصوفية، أثرت على التشكل الاجتماعي السياسي للقوى في السياقات الحضرية الريفية، وبذلك باتت صناعة الولايات ترتبط بالقوى المدنية المستقلة، التي ترتبط بالتنظيمات المهنية، على غرار ما وجد في أوروبا، بذلك باتت الطرق الصوفية تنظيمات اجتماعية مستقلة ومصدرا دائما للقلق الشعبي.

كما قدمت منحى تنظيميا أكثر فعالية من نظيرتها في أوروبا، تمثل في مؤسسة الوقف التي عكست على نحو جيد الطريقة التي يندمج بها بسطاء الناس في الممارسات والخطابات المتصلة من خلال تشكيل فضاء أو مجال عام له معالم ميتافيزيقية محددة، خاصة في ميدانين من ميادين الحياة «التعليم» و»الاحسان»، بحيث بات الوقف أكبر مصدر لتمويل هذه الخدمات العامة، وبذلك تحول الوقف الإسلامي في هذه الظروف الى مؤسسة معقدة ومتشعبة.. وهو ما انعكس كذلك في رؤية الدولة لدورها في دعم البنية التحتية، عبر نقل هذه المهام للوقفيات التي أخذت على عاتقها مهمة الحفاظ على الاستقرار والسلم الاجتماعي داخل الإمبراطورية.

وبحكم هذه الشروط الجديدة لدور المؤسسة الدينية ذات الصبغة الاجتماعية في المجال العام، استقر التعريف السوسيولوجي للعلماء – بحسب نوح في_لدمان ـ بوصفهم أولئك الذين يقودون المجتمع والذين يشكلون المجال العام، وهو دور كان في الواقع أكبر من دورهم كحاملي معرفة دينية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى