في الموقف المنهجي مابين الحداثة وما بعدها : مزاوجة الحداثة أو البحث ( عن الأسلوب المتأخر)
في الموقف المنهجي مابين الحداثة وما بعدها: مزاوجة الحداثة أو البحث ( عن الأسلوب المتأخر)
في كتابات عبد الله العروي
أنور المرتجي
منذ صدور كتابه الأول (الإيديولوجيا العربية المعاصرة) استطاع المفكر عبد الله العروي أن يضع القواعد الصلبة من أجل تأسيس صرح الحداثة داخل الثقافة العربية، وأن يكون منذ البدايات واضحا في اختياراته بعيدا عن كل مقاربة توفيقية أوملاينة عند إعلانه عن بيانه الحداثي الأول، حسب تعبير د. محمد سبيلا. الذي يدعو فيه ، أن (نودع المطلقات جميعها، نكف عن الاعتقاد أن النموذج الإنساني وراءنا لا أمامنا، وأن كل تقدم إنما هو في جوهره تجسيد لأشباح الماضي وأن العلم تأويل لأقوال العارفين وأن العمل الإنساني يعيد ما كان ولا يبدع ما لم يكن) (1). منذ كتاب (الايدولوجيا العربية المعاصرة) صارت الحداثة الخيط الناظم والفكرة المحورية التي يدور حولها فكره كله والتي يتم فحصها وتقليب مختلف عناصرها وأوجهها، لقد أكد د. العروي على أهمية تنمية الحداثة كركيزة مركزية يتمحور حولها مشروعه الفكري (إن ما كتبت إلى الآن يمثل فصولا بالمدلولين الزمني والمكاني من مؤلف واحد حول مفهوم الحداثة)(2) لأن الكتب التي أصدرها حول المفاهيم (الإيديولوجيا ? الدولة ? الحرية ?التاريخ — العقل) ليست إلا بغرض تعميق النقاش (كما أنها تندرج في نطاق مفهوم شامل ومهيمن على الكل هو بالطبع مفهوم الحداثة)(3).
لقد اكتمل المشروع الحداثي عند عبد الله العروي، منذ (الايدولوجيا العربية المعاصرة) صعودا مع كتبه اللاحقة (تاريخ المغرب) (وأزمة المثقفين العرب) و (ثقافتنا في ضوء التاريخ) (وأصول الوطنية المغربية) وكتب المفاهيم الكبرى.
يصف المفكر التونسي هشام جعيط مؤلفات العروي بأنها (تمثل فترة النضج ،وقوة التجريد وباتساع نظراته وذكائه الاستثنائي.لذا فإن كل كتب العروي، السابقة ترتفع فوق الإنتاج الفلسفي العربي بمجمله)(4)
يعتبر العروي أن الحداثة موجة كاسحة، وأن العوم ضدها مخاطرة، حيث (لا يمكن معارضة الحداثة إلا بتجاوزها ولا يمكن تجاوزها إلا باستيعابها)(5) وعند طرح الأسئلة حول موقفه من ظاهرة مابعد الحداثة كان جوابه صارما . (بأنها ردة ضد الحداثة) و (أن ما بعد الحداثة (هدم) للحداثة (6)حتى ولو نظرنا إلى ما بعد الحداثة على أنها تعميق لمسار الحداثة أو هي سرعة ثانية للحداثة. بمعنى أنها استمرار لمنطق الحداثة ولعمقها. أو كتعد مستمر لذاتها. أو كما قال فيلسوف ما بعد الحداثة فرانسوا ليوطار إنها بالتأكيد ?أي مابعد الحداثة ?(جزء من الحديث وأي عمل إبداعي لا يمكنه أن يكون حداثيا إلا إذا كان من قبل مابعد حداثيا،فما بعد الحداثة ليست هي الحداثة عند نهايتها، بل هي الحداثة في حالة ولادتها وهذه الحالة هي مستمرة )(7)
جرت مياه باردة تحت جسر الحداثة، وحدثت تحولات كبرى في الفترة الأخيرة. سماها إيهاب حسن بالمنعطف المابعد حداثي، تجلت فيها أزمة الحداثة من خلال وقائع تاريخية كانمحاء العالم الاشتراكي من الوجود وسقوط جدار برلين واندماج الألمانيتين،وقيام حرب الخليج التي اعتبرها جان بودريار مفكر مابعد الحداثة في مقال نشره بالغارديان البريطانية قبل نشوب حرب الخليج، أنها حرب لن تقع إلا عبر شاشات التليفزيون،فحدوثها ليس سوى ادعاء زائف عملت وسائط التواصل والسيناريوهات الحربية الافتراضية غلى ترويجه ودعمه وعليه فإن الحرب أضحت مستحيلة إلا بوصفها جزءا من ظاهرة خطابية أو نوعا من تهديدات متبادلة ، .ضمن هذه السياقات الجديدة، قام د. عبد الله العروي، بإعادة مناقشة (عوائق الحداثة) في محاضرة ألقاها في بيت (اتحاد كتاب المغرب) معبرا فيها عن مزيد من النقد البناء لصرح الحداثة والكشف عن وجهها الغازي (إذن ها هنا مجتمعات عرفت الحداثة إما طوعا وإما كرها، وفي الغالب طوعا وكرها، في الشرق وفي الغرب) وكانت (هذه الحداثة في صورتها الاستعمارية الاستعبادية الاستغلالية القاتلة، غيرت الأفاق وتركت النفوس على حالها)(8) وهذا الوجه الاستعماري الخفي للحداثة، لم يسبق للعروي أن تعمق فيه بتفصيل في كتاباته النظرية السابقة، وكان صوتا خافتا يسري بين شذراته الموحية.
لقد عرفت نهاية القرن العشرين نقلة نوعية تمثلت في عملية قلب ثورية لوعود النهضويين الكبار مع بداية القرن ألعشرين، حمل مشروعهم في السنوات القليلة الماضية مع بداية الالفية الثالثة نزعة معكوسة وكارثية، تجلت في العالم العربي من خلال الدعوات المقلوبة التي انطلقت منذ مطلع النهضة إلى مآل الانحطاط ومن الوحدة إلى التفرقة الطائفية ومن مقاومة الاستعمار ومعاداة الامبريالية إلى جعلهما حليفين تاريخيين يوكل إليهما “تحرير” الأوطان.
أما على المستوى العالمي، فقد حدثت رجات رهيبة بعد سقوط جدار برلين وانهيار دول ما عرف بالمعسكر الاشتراكي وتداعيات هذه المصائر على الفكر الماركسي، بل إن أوضاع العالم العربي بالمقارنة عما كان عليه مطلع القرن العشرين، تبدو مع نهايته مأزومة وكارثية (فإذا كان القرن العشرين قد ابتدأ مع طه حسين وعلي عبد الرازق، فإن القرن الواحد والعشرين يبتدئ مع أسامة بن لادن والآلاف من خفافيش الظلام الذين يملأون الفضائيات العربية… وإذا كان الطهطاوي قد جاء إلى باريس عام 1926 كإمام وواعظ للبعثة التي رجع منها مثقفا مستنيرا. فإن طلبتنا يأتون إلى البلدان الأوروبية معتدلين ويعودون منها سلفيين متشددين)(9) ولقد لاحظ د.عبد الله العروي في زياراته العلمية إلى باريس هذا الانقلاب الثقافي عند طلبتنا عماد المستقبل، وانتقالهم من التنوير إلى التقليد الأعمى مع ارتفاع منسوب الجهل المقدس عندهم، يقول د. عبد الله العروي (في خواطر الصباح) بطعم المرارة (أحاضر كل خميس منذ أسابيع، بدعوة من رئيس معهد العالم العربي عن مفهوم التاريخ عند المسلمين، بجانب الاختصاصيين المهتمين بالموضوع وبعض الباحثين الجادين، يحضر عدد كبير من الطلبة الإسلاميين ? مستواهم ضعيف جدا ? وهم الذين يتدخلون في النقاش الذي يلي كل محاضرة، أغلبهم من النمط الذي واجهني في غرونوبل منذ سنوات… الملاحظات السخيفة والعبارات الفارغة نفسها، يكونون خطرا على الثقافة العربية، يتتلمذون على أساتذة غير أكفاء وبعد سنوات قليلة يصبحون دكاترة(10)
انعكس هذا الوضع الثقافي الراكد في السنوات الأخيرة على منظورنا للحداثة، التي تحولت عند البعض إلى ما يشبه العقيدة الدينية على أرض الواقع، وانسحب هذا الوضع على كل قيمها، وتغير مفهوم التقدم من هدف استراتيجي إلى عقيدة متزمتة عند بعض (الحداثيين). وهذا ما عبر عنه المفكر علي حرب ( فالحداثة التي نطمح اليها ولم نحسن المشاركة في صنعها قد تغيرت في ضوء الطفرات التي اتت بها ما بعد الحداثة، والهوية التي نخشى عليها سوف تتغير مع فتوحات العولمة وشبكاتها )(11)
إن الخلاص من هذا الوضع الحداثي (كدوغما) أو كعقيدة اكليروسية،أو كقفص من الفولاذ حسب تعبير ماكس فيفير،لا يمكن أن يتحقق إلا إذا تجاوزنا النظر إلى معنى ما بعد الحداثة بعيدا عن التحقيب التاريخي ونظرنا إليها كسرعة ثانية للحداثة أو كأسلوب في الحياة أو طريقة من طرائق العيش المختلفة التي تفوقت عن سابقتها.
في الفترة الأخيرة عاد د. عبد الله العروي من جديد إلى طرح سؤال مابعد الحداثة لكن هذه المرة بمرونة منهجية فائقة ، عن طريق تمييز الحداثة عن ما بعد الحداثة، من خلال تمييز وظائفهما المختلفتين، ففي حديثه عن (عوائق الحداثة) يقول ( إن موقفي هو أن لكل واحد الحق أن يتكلم في ما بعد الحداثة إما في أبحاثه الفكرية أو في تصوراته الفنية إلى آخره،لكن شريطة ألا يدخل هذا في ميدان العمل الجماعي الذي هو السياسي(12) إن هذا الموقف المنهجي، الذي يدعونا إلى الاختيار بين الحداثة أو ما بعدها، يذكرنا بالرأي المتداول لحارس مدرسة فرانكفورت المفكر الألماني هابرماس الذي تشبث بالموقف (الذي يعتبر أن الحداثة مشروع لم يكتمل ) (13) ولم يستطع هذا العنوان السجالي أن يتجاوز الصيغة الشعارية والنضالية لتأويل ما جد مع بداية أفول طيف الحداثة الظافر ،بينما نجد أن موقف مشيل فوكو كان خارج هذين الاختيارين أو خارج منطق الثنائيات المطلقة . بين أن نكون إما مع التنوير أو ضده ،فكان جواب فوكو (يجب التحرر من خيار الخارج والداخل، بأن نكون على التخوم)(14) لأن تجاوز الحداثة بعد استيعابها ليست رغبة موضوية ، بل هي إنهاض النهضة وتحديث الحداثة حتى لا نبقى مشدوهين إلى هيمنة صنمية العقل الحداثي، وذلك عبر الانفتاح على فكر مغاير هو في طور الانتقال إلى حداثة نقدية وتأملية أوسع وأغنى من سابقتها أي تلك الحداثة التي تتساءل عن ذاتها وتوسع مكوناتها لتشمل الآخر بجانب ألذات واللاعقل بجانب ألعقل، والمقدس بجانب الدنيوي. لقد عبر عن هذا القلق المتوجس تجاه الحداثة كثير من الكتاب العرب، الذين تحدثوا عن (الحداثة المعطوبة) محمد بنيس أو (الحداثة المتقهقرة) كفيصل دراج أو (ضحايا الحداثة) لمأمون أفندي.
في العقد الأخير من نهاية الألفية الثالثة، وقع تحول في أسلوب التأليف عند عبد الله العروي بالمقارنة مع إنتاجات البدايات، هذه الظاهرة الأسلوبية تبرز منذ كتابه (مغرب الحسن الثاني) الذي أضاف إليه عنوانا فرعيا هو (شهادة). جاء بعد موسوعة من المفاهيم التي تتالت بعد مفهوم الإيديولوجيا 1980. ثم مفهوم الحرية 1981 وبعدهما مفهوم التاريخ سنة 1992 في جزأين، وأخيرا، مفهوم (العقل) 1996.
لقد ظهر كتاب (مغرب الحسن الثاني–شهادة) سنة 2005 متزامنا مع صدور الجزء الأول(2001)من (خواطر الصباح) وفي جل هذه الإنتاجات المتأخرة يطغى عليها طابع التذويت الفردي وأسلوب السير الذاتي في معناه الواسع، كالشهادة والخواطر واليوميات وأدب الترسل والمناظرة المتمثل في كتاب (من ديوان السياسة)، وهذه الخاصية في تحول الأسلوب المتأخر عند الكتاب والمبدعين، تعتبر موضوع الكتاب الأخير الذي ظهر بعد وفاة المفكر إدوارد سعيد بعنوان (عن الأسلوب المتأخر، موسيقى وأدب عكس التيار)، ويمكن تلخيص الأطروحة البؤرة في هذا الكتاب. أن بعض المفكرين والمبدعين في المرحلة المتأخرة من حياتهم أمثال شكسبير وسوفوكل ورمبراندت وماتيس وباخ وفاغنر وبتهوفن( تحدوا مداهمة الموت بالسير عكس التيار في المضمون والشكل، في الأدب جان جنيه وكفافي ولامبيدوزا وتوماس مان وفي التأليف الموسيقي باخ وموزار وبتهوفن وشتراوس والعازف المعجز غلين غولد، بالإضافة إلى الأوبرا والمسرح الإغريقي وأفلام فيسكونتي، ودوما في استلهام خلاق لأعمال أدورنو وغرامشي النقدية)(15) إن أسلوبهم المتأخر يطمح إلى التحدي والممانعة والعناد وأن لا يكون قابلا لأن يصالح الواقع أو كما يقول أدورنو عن رفض بتهوفن مثلا، عدم مصالحة الواقع وعدم الاستكانة للشكل المنجز،.
لن نقوم بإسقاط أطروحة ادوارد سعيد على كتابات العروي المتأخرة بحثا عن فرادة استثنائية في طريقة التأليف أو سبق منهجي في التجريب ألنقدي من أجل فهم ما جرى من منعطفات جذرية في مسار الأسلوب المتأخر عند عبد الله العروي ،لأننا لن نجد تطابقا بين وجهة نظر ادوارد سعيد عن الأسلوب المتأخر ومؤلفات العروي ألاخيرة، وقد نجد تلك الخاصية الأسلوبية المتقدمة نظريا في انتاجات النضج أو البدايات . لكننا سنعمد من أجل استيعاب خصوصية الأسلوب المتأخر في كتاباته الفكرية الأخيرة ، أن نسترشد بالمقترح المنهجي الرائد الذي سبق د. العروي أن طرحه في كتابه الكبير (الايدولوجيا العربية المعاصرة) عندما كان يهيمن على المنهج النقدي العربي دعاة سوسيولوجيا المضمون. فنبه النقاد العرب الماركسيين أتباع حلقة (في الثقافة المصرية) التي كان يقودها الناقدان محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس إلى ضرورة الاهتمام بسوسيولوجيا الشكل (إن الكتاب التقدميين قد أخطأوا بدورهم عندما ظنوا أن الشكل كمفهوم عام، لا يختلف عن هيكل أي عمل فردي، إن شكل الرواية عامة هو بنية رواية بعينها كتبها بلزاك أو زولا. ثم تكلم وأطنب النقاد في سوسيولوجيا الشكل، علينا إذن أن نطرح هذا السؤال فيما يخص الأشكال الرئيسية، المسرح، الرواية، القصة القصيرة)(16 ) ونحن نعتقد واثقين أن طرائق التعبير أو أساليب الكتابة الفكرية المتأخرة عند د. عبد الله العروي لا يمكن فهمها إلا في إطار العلاقة التضادية أو الطباقية بالمعنى السعيدي بين شكل الكتابات المتقدمة ومقارنتها بالمؤلفات اللاحقة كمسار خطي و تعاقبي بين مصنفات النهايات مع البدايات أو بين كتابات النضج التي تحدث عنها هشام جعيط والأسلوب المتأخر، بعيدا عن علاقته مع الواقع الآني.
إن الخاصية المميزة لطرائق التعبير في كتاب (مغرب الحسن الثاني- شهادة) أو (خواطر الصباح) بأجزائها الأربعة أو (السنة والإصلاح) أو (من ديوان السياسة) حيث يقول عنهما العروي ( المنهج نفسه اتبعه عند تحرير (السنة والإصلاح) . هذان المؤلفان متوازيان، مجال الأول العقيدة ومجال الثاني السياسة)(17)
في سؤال طرحه المستشرق الإسباني برنابي لويس كرسيا. على د. عبد الله العروي حول كتاب (مغرب الحسن الثاني) وعلاقته بصنف السيرذاتية أو أدب (المذكرات) خاصة وأن هذا النوع قليل الإنتاج في الثقافة المغربية. فكان جواب العروي (لقد طرح علي هذا السؤال، أعتقد أنه يمكن إرجاع السبب في ذلك إلى ما يسمى بفلسفة السر، بمعنى آخر، أنه داخل العائلة المغربية لم يكن يقال للطفل كل شيء في حضور والده، يحدث نفس الشيء كذلك في الحياة العامة، لقد أسر لي وزير مغربي سابق أنه ليس من الضروري أن يتحدث عن كل ما خبره في مساره السياسي، إن هذا السلوك هو نوع من النظام السياسي، أما بالنسبة لي،فإن الأمر يتعلق بموقف أخلافي، حتى في مجال الأدب لا توجد سوى انتاجات قليلة في السيرة الذاتية ، في الواقع إنما يسمى بالسيرة الذاتية في أدبنا العربي هي نوع من الإجازة ،أي أن تلميذا ما كان يدرس عند أستاذ، ثم يهاجر لكي يلتقي بشيخ الزاوية. لكن بدون تحليل فكري للمسار التطوري للسارد، بينما نجد في المشرق العربي حتى الوزير المجهول يكتب مذكراته (18)
بالنسبة لكتاب (السنة والإصلاح) فقد صرح العروي (بأن ما يكون كتبه ،يعبر عن هم ذاتي ولا يفهم إلا إذا نسخ في تجربة ذاتية،) وبأن ما صدر عنه، (ثمرة تجربة شخصية تولدت عن وضع تاريخي خاص)(19) وعلى المستوى الشعوري بلحظة خيبة،شعر ويشعر بها لانتفاء الصدى المطلوب في دعوته التنويرية?الاصلاحية التي نادى بها منذ أربعة عقود
في الجزء الأول من (خواطر الصباح) التي شغلت القراء المنتمين للطائفة العلمية،يقول العروي(فقد شرعت في تسجيل هذه الخواطر وأنا تلميذ في ثانوية مراكش، سنة 1949 حسب ما أتذكر ولم أتوقف منذئد. استعملت جزءا منها في كتاباتي السابقة، و بخاصة في اليتيم(1978)وأوراق(1998) ولم أحتفظ بكل أسف بالمسودة)(20)
يمكن توصيف طرائق التأليف المتأخرة عند د.عبدالله العروي،عبر مقاربة مابعد حداثية،باعتماد التمييز الذي يقدمه فرانسوا ليوطار بين مايسميه السرديات الكبرىles grands recits او المرويات الكبرى ، التي تعتمد على مابعد السرديات les Metanarratives المحددة لشرعية أشكال معينة من السرديات الكبرى (جدل الروح ،أو تاويل المعنى أو تحرير الذات العاقلة أو العاملة، أو خلق الثروة)(21) وهذه السرديات الكبرى ترادف معنى المذاهب والإيديولوجيات التي لم تعد تعمل في أي مكان آخر،كما يقول المفكر الماركسي فردريك جيمسون في المقدمة الانجليزية لكتاب (الوضع مابعد الحداثي)لفرانسوا ليوطار(فمثلا لم نعد نؤمن بالغائيات السياسية أو التاريخية ولا بالفاعلين و الذوات العظيمة للتاريخ، الدولة الأمة والبروليتاريا والحزب والغرب إلى آخره)(22) التي تقدم تفسيرا شموليا ، لأن نهايتها حسب ليوطار تعود (إلى حالة ثقافتنا في أعقاب التحولات التي غيرت قواعد اللعب منذ نهاية القرن التاسع عشر(23) ويمكن إدراج كتابات البداية أو النضج للأستاذ عبد الله العروي منذ (الايدولوجيا العربية المعاصرة) حتى كتب المفاهيم الصلبة. ضمن مصنفات السرديات الكبرى، التي صارت في حالة عطالة مؤقتة أو انتهت مع السرديات القومية عموما والقومية العربية تحديدا، أو كما قال السوسيولوجي عبد الكبيرالخطيبي. إن التاريخانية كما دافع عنها عبد الله العروي (كانت مرحلة ضرورية اقترنت بفترة الدعوة إلى الوحدة القومية المطلقة، فلم يعد لها من مبرر،إنها ترتبط بمفهوم معين عن الهوية والاختلاف)(24)،أي مع نهاية السرديات الكبرى ،التي عرفت انتشارا مع المد الحداثي الذي مثله كوكبة من المفكرين، محمد أركون ومحمد عابد الجابري وصادق جلال العظم وهشام جعيط وغيرهم ،لكن موت السرديات الكبرى لا يعني نهايتها إلى ألأبد، بل إنها توارت واختفت مرحليا بعد أن انتقلت إلى ما سماه جيمسون في مقدمة الترجمة الانجليزية لكتاب الوضع المابعد الحداثي ، ب(اللاوعي السياسي).
في مقابل السرديات الكبرى يقترح ليوطار مفهوم السرديات الصغرى أو السرديات المضادة. إن السرديات الصغرى (هي خطابات تتشكل من قبل جماعات أو تجمعات معينة لتحقيق أهداف محددة ذات طبيعة مرحلية ووقتية وبراغماتية ولاتحمل الطابع الشمولي ولا السلطوي ألقسري للسرديات الكبرى )(25) والملاحظ أن الأسلوب المتأخر عند العروي منذ صدور(مغرب الحسن الثاني — شهادة) و(خواطر الصباح ) بأجزائها الأربعة، وكتابي (السنة والاصلاح) و(من ديوان السياسة) يغلب عليه انزياح مفارق عن كتابات النضج السابقة و الكتابة التأليفية النسقية ليقترب من كتابة التدوين على الهامش والحاشية التي تشبه المسودة الأولى التي يوظفها المؤلف كمواد مساعدة ليس إلا. سواء في خدمة الكتابة التخيلية (اليتيم ?أوراق) أو المرجعية كما فعل العروي في كتبه الفكرية عن (مغرب الحسن الثاني?شهادة) وهي دلالة على انتقال إلى فضاء الكتابة الشذرية Aphoristique التي اقترنت بفكر نيتشه و المابعد حداثيين، لقد خصص الناقد السيميائي رولان بارت قبل وفاته بقليل، كتابا سماه (شذرات من خطاب العشق ) التي قد لا تسع هذه الشذرات موضوعات نظريته البنيوية القارية، المنغلقة على الرؤية الأحادية المتجانسة ،بينما (تفسح الكتابة الشذرية المجال لظهور ذات تفتت ذاتها باستمرار وتنسج نفسها عبر زمنها المفصول(26 ) والطريف في الأمر أن كتابات عبد الله العروي التخيلية لم تكن منذ روايته الذهنية الأولى (الغربة)تتقيد بالتقنيات الحداثية الكلاسيكية، كما أن طقوس الكتابة الشذرية المرادفة لمابعد الحداثة صارت الأسلوب المفضل في انجازاته الفكرية ألناضجة، بعد الانفجار على المستوى الكوني الذي عرفته السرديات الكبرى أو المرويات الإيديولوجية الجامعة.
المراجع والحواشي
1) محمد سبيلا وعبد السلام بنعبد العالي “الحداثة” دفاتر فلسفية. دار توبقال / الدار البيضاء ص 115.
2) عبد الله العروي، مفهوم العقل / المركز العربي الثقافي / بيروت / الدار البيضاء 2007، ص
3) الله العروي، مفهوم العقل / المرجع المذكور 2007 / ص 51.
4) هشام جعيط (أوروبا والاسلام) دار الحقيقة، ترجمة د. طلال عتريسي، ص 160 ط. الأولى 1980.
5) عبد الله العروي، عوائق الحداثة، منشورات اتحاد كتاب المغرب، ط.1، 2006 / ص 22.
6) عبد الله العروي، مجلة مقدمات (تأصيل علوم الاجتماع، المقارنة والتأويل) ص 6 ? الدار البيضاء.
7) J.F Lyotard (Le Postmodernisme, expliqué aux enfants, Ed. Gallitée p.24 1988
8) عبد الله العروي، المرجع المذكور ص 21.
9) خلدون النبواني (في بعض مفارقات الحداثة وما بعدها). دراسات فلسفية وفكرية، دار المدى ط 1 سنة 2001 ص 199
10) عبد الله العروي ، (خواطر الصباح) المركز الثقافي العربي / الدار البيضاء ط.1 / ص 254 /سنة 2005.
11) علي حرب (أزمة الحداثة الفائقة) المركز الثقافي العربي ط.1 ص 223.
12) عبد الله العروي (عوائق الحداثة) المرجع المذكور ص 63-64.
13) Habermas Jurgen (la Modernité Un Projet inachevé) ِ critique n? 413. Octobre1981 pp.950-967.
14) خلدون النبواني، المرجع السابق ص 121
15) إدوارد سعيد (عن الأسلوب المتأخر، موسيقى وأدب عكس التيار) ترجمة فواز طرابلسي. ط.1 ? 2015 دار الأداب للنشر الصفحة الرابعة من غلاف الكتاب
16) عبد الله العروي (الايديولوجيا العربية المعاصرة) المركز العربي الثقافي ط.2 سنة 1999 ص 234.
17) عبد الله العروي (من ديوان السياسة) المركز الثقافي العربي ط.1 / 2008 ص 5.
18) حوار مع عبد الله العروي بالاسبانية، حاوره برنابي لويس غرسيا، مجلة أفكار ideas ? ص 17 ربيع 2005.
19) ما بعد التاريخانية، قراءة في كتاب السنة والاصلاح. لعبد الله العروي، لطفي بوشنتوف، إعداد مجلة رباط الكتب، ص 19، كلية الآداب بالرباط، مطبعة النجاح 2009.
20) عبد الله العروي (خواطر الصباح) المركز الثقافي العربي- الدار البيضاء (ط.1) – ص ..255. 2005.
21) جان فرانسوا ليوطار (الوضع ما بعد الحداثي) ترجمة أحمد حسان / دار الشرقيات / 1994 / ص 23.
22) جان فرانسوا ليوطار، المرجع المذكور 12.
23) جان فرانسوا ليوطار (الوضع ما بعد الحداثي) ترجمة أحمد حسان المرجع المذكور ص .23
24) نقلا عن عبد السلام بنعبد العالي، الفكر الفلسفي في المغرب. دار الطليعة ط.1 / 1983 ص 13.
25) معن الطائي السرديات المضادة بحث في طبيعة التحولات الثقافية. المؤسسة العربية للنشر ص 9 ط.1 / 2014.
26) عبد السلام بنعبد العالي (في الانفصال) دار توبقال للنشر ط.1 2008 ص. 45