الرأي

في أحلك الظروف يولد الأمل: ربما أن تكون هذه الحرب مخاض ميلاد الجمهورية السودانية الثانية

د. بكري الجاك
بعد إبداء الحسرة والأسى على ما آلت إليه الأمور وما قد تؤول إليه في قادم الأيام، وبعد الترحم على الأموات والدعوة بالشفاء العاجل للجرحى، لا أعتقد أنه من المفيد الخوض في مسألة من أطلق الرصاصة الأولى وكيف بدأت الحرب، إذ أن دروس وعِبر التاريخ تذكرنا بأن الواقع الذي تفرزه الحرب وما يترتب عليها عادة يكون تجاوز قيمة الإجابة على من بدأ الحرب. هذا لا يعني تجاهل الإجابة على هذا السؤال من باب المحاسبة وتحميل المسؤولية للجناة. بشكل أو بآخر ستضع هذه الحرب أوزارها، فكما في كل كارثة تحديات وآلام فهناك فرص، هذه الحرب قد تكون أيضا فرص مخاضات عسيرة. في هذه العجالة ساتناول بعض النقاط المهمة في تقديري عن ما آلت إليه الأوضاع في بلادنا.
أولا، الكل في هذه الحرب خاسر والخاسر الأكبر هو الشعب السوداني، لذا لا أعتقد أن هنالك قيمة أو فائدة لأخذ موقف في دعم أي من الأطراف في هذا العبث بحياة الناس وأحلامهم طالما أن هذا الموقف لا يٌترجم في حمل السلاح والمشاركة في القتال، ففي حقيقة الأمر أن دعم أي من الطرفين في هذه الحرب قد يكون له قيمة معنوية لأصحاب هذه المواقف لكنه لا يضيف قيمة مادية على طبيعة الصراع على الأرض، بل أن الدعم عبر الكيبورد تقوم به الخوارزميات واجهزة الذكاء الاصطناعي افضل من اي من المنافحين هذه المواقف من دم ولحم.
ثانيا، لا ارى ايضا قيمة للخوض في أسباب اندلاع القتال في هذه اللحظة التاريخية بالذات، فلا يوجد شخص متابع للشأن السوداني يمكن أن يقول أن هذه الحرب فاجأته، الجميع كان يعلم أن الأمر كله كان ينحصر في كيف كانت ستندلع ومتى. انا عن نفسي كتبت وتحدثت في أكثر من موقع عن أن سيناريو الحرب ونهاية دولة محمد علي باشا هو أحد الاحتمالات وكل هذا مبذول في الفضاء العام ولا قيمة لكل ذلك الآن. عليه كل الإشارات التي يتفوه بها البعض من قبيل “ ما قلنا ليكم” لا أجد لها أي قيمة تحليلية لها سوى انها تعطي أصحابها احساس بشيء من التفوق المعرفي في صدق نبوءتهم. وان كان لذلك قيمة فمن السهل قول ان جواهر لال نهرو في مؤتمر عدم الانحياز الذي عقد في باندونغ عام 1955 قد تنبأ بجلّ ما حدث للدول المستقلة حديثا في ذلك الزمان بأن جيوشها ستكون وبالا عليها، ويمكن أن نضيف أن الشيخ فرح ود تكتوك قد تنبأ بكل هذه الأمور بما في ذلك “السفر بالبيوت والكلام بالخيوط”. هذا لا يعني طبعا أن لا نقوم بدراسة الواقع ولماذا وصلنا الى هذه المرحلة، فشتان ما بين الدراسات والتحليل الجاد وما بين أن أقول ما قلنا ليكم أن الشمس ستشرق من الشرق غدا. وبالطبع لاتوجد حرب او مشكلة اجتماعية يكون لها سبب واحد يمكن الاشارة إليه ببساطة وسهولة، فمثل هذه الأمور عادة لها مجموعة من العوامل المتداخلة والمعقدة كما الحرب التي هي أكثر تعقيدا من غيرها.

الجنرالان

ثالثا، أهم ما يمكن أن نقوم به كفاعلين سياسيين بعد الدعوات والصلوات ودعم بعضنا البعض وتسيير الحملات للتضامن مع شعبنا ومحاولات التأثير على صانعي القرارات في المنظمات الدولية والحكومات المؤثرة على بلادنا هو أن نعي أن الضمان الوحيد لوقف تقسيم السودان واستطالة أمد الحرب وربما لانهاءها هو بناء مجتمع مدني قوي وراسخ ومتماسك حول 1) مبدأ المواطنة المتساوية،2) الديمقراطية كوسيلة لضمان مشروعية التمثيل و 3) أن مصيرنا كسودانيين يرتبط ببعضنا البعض من عقيق الي مليط ومن ابيي الى حلفا وأن ما يجمعنا هو أكثر بكثير مما يفرقنا وأن تطوير فرص للعيش المشترك وهوية مشتركة أساسها المواطنة والحقوق والاحتفاء بالتنوع هو أمر قد نجحنا في فعله من قبل حينما قدمنا مسألة التنمية الاقتصادية على الجدل والبناء على الهدم وانتهاز الفرص على الخوف من التحديات. لنرى كيف أن بناء مجتمع مدني هو ضمانتنا الأوحد وفق سيناريوهات الحرب المحتملة.
رابعا، هذه الحرب لابد لها أن تنتهي بواحد من ثلاثة سيناريوهات:
السيناريو الأول أن يخرج الجيش الرسمي وحلفاءه من الاسلاميين وغير الاسلاميين منتصرا بالكامل وأن كنت أشك أنه باستطاعته أن يقضي على كل جيوب ومكونات الدعم السريع، وإذا خرج منتصرا ومنتشيا وزاهيا وسعى لتثبيت أركان نظام دكتاتوري جديد (بغض النظر عن من تكون قاعدته الاجتماعية)، فإن تماسك ووحدة المجتمع المدني ستكون خط دفاعنا الأول عن ثورة ديسمبر ومكتسباتها خصوصا وأن هذه الحرب اضافت تضحيات جسام الى تضحياتنا السابقة وسوف تزيدنا عزيمة على الهتاف بالحرية و السلام والعدالة.
السيناريو الثاني أن يخرج الدعم السريع منتصرا ويكون قد قضى على الجيش أو كسر شوكته واصبحت ارادة الجنرال دقلو هي العليا في البلاد، وبرغم تشدق الجنرال دقلو بالديمقراطية وحديثه أنه يدافع عن تثبيت أركانها فهو ليس بجان جاك روسو السودان وليس بجون ستيوارت ميل ليكون من صانعي العقد الاجتماعي الجديد في السودان. الجنرال دقلو أخذ هذا الموقف كمحاولة لغسل يديه من عار الجرائم التي ارتكبها في دارفور ومشاركته في فض الاعتصام وفي تقنين الأموال الطائلة التي حصل عليها بالاستثمار في الحرب وفي نهب ثروات البلاد والمتاجرة بأرواح الناس باسم الدولة السودانية ولم يكسب هذه الأموال باختراعه جهاز لعلاج السرطان، واذا ما سنحت له الفرصة لا اعتقد انه سيكون كالملك الذي يتنازل طوعا عن العرش لسماحة خلقه ولايمانه بحق الشعب في اختيار حكامه بل أرى فيه مشروعا لمستبد جاهل، فهو لا يعلم ما الفرق بين الديمقراطية و”الديموكراسي”. المهم أنه في حال انتصاره فضمانتنا الوحيدة هي مجتمع مدني قوي ومتماسك وموحد حول قيم عليا، هذا مع أني أرى أن انتصاره هو أمر شبه مستحيل في ظل تدويل الحرب، حيث أشك في أن يسمح المؤثرون في الأقليم بهزيمة جيش نظامي حتى وإن كنا نرى فيه ميليشيا نظامية ايضا.
السيناريو الثالث هو المراوحة وعدم تمكن أي طرف من الانتصار بشكل حاسم وهذا هو المرجح، فقوات الدعم السريع تتمتع بالخفة والحركة وتحتمي بالمناطق السكنية والكباري في المدن وليس بإمكان الجيش حسم المعركة بواسطة سلاح الطيران والمدفعية الثقيلة إلا إذا قرر القضاء على نصف الخرطوم وربما مدن أخرى أو بتبني طرق قتال مشابهة للدعم السريع وهذا يتطلب أن يتخلى الجيش عن طريقته في خوض الحرب بشكلها التقليدي ومن الصعب تطوير هذه القدرات والتفوق فيها في وقت وجيز. الأرجح أن يطول أمد هذا الصراع وان يصبح توازن ضعف والمراوحة سيد الموقف مع ادعاءات من كل طرف بالانتصار وحينها لابد أن يجلس الطرفان للتفاوض. واذا تحقق هذا السيناريو الضامن الأوحد لفرض إرادة ثورية على الطرفين هي مجتمع مدني منظم ومتماسك وله أجندة محددة ورؤية واضحة ويجلس لفرض إرادته على طرفين منهزمين.
خلاصة القول، أننا كقوة مدنية يجب أن نبدأ في تطوير خطاب جاد عن دورنا وان نوحد صفوفنا وأن نتجنب الخوض في خطاب التجييش العنصري والمناطقي وأن نفكر في كيفية تمتين نقاباتنا المهنية واتحاداتنا العمالية واعادة العنفوان الى لجان المقاومة وتقوية الصفوف المدنية. ما أدعو إليه لا يتأتى إلا إذا نظرنا الى الواقع الذي يتخلق امامنا بعقل جديد وأدوات تحليل جديدة فقد دارت عجلات الزمن إلى الأمام ونحن إزاء واقع جديد ومغاير، أي رؤية كانت ثاقبة ما قبل انطلاق الحرب أصبحت محض مدخل لفهم الحاضر لكنها غير مجدية وغير كافية. المرحلة هي للاصطفاف حول مبادئ المواطنة المتساوية والديمقراطية والعيش المشترك بحسن إدارة التنوع، ففي هذه الحرب وآلامها يمكن أن تكون هناك فرصة مخاض عسير لميلاد الجمهورية الثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى