عن محمد عبد الحي
بشير أبوسن
في مثل هذا اليوم قبل ثلاثة وثلاثين عاماً، على فراشٍ في مستشفى سوبا شرقيَّ الخرطوم، أنهى محمد عبدالحي، ذو الجسد النحيل والروح الضخمة، جلستَه تلك مع الموت. جلسا معاً في حافة الزمان، “وبينهما الخمرة والنردُ والدخان”، جلسة صديقين بالغة الحميمية، ولكن الموت هو هو، دائماً يصطاد قرب النبع مثلما قال درويش، ودائماً حمرٌ أظافرُه مثلما قال البحتريّ.
استسلم عبدالحي، وترك قلقاً دائما في قصائده.
مرةً في جلسة مع عبدالله شابو، وأنا أستنطقه، أعيده إلى أصدقاء قدامى، أو أعيدهم إليه، ذكرتُ له عبدالحي، صمَت، وضع سبابته على فمه حيناً، وقال لي: “عارف! محمد دا كان شاطر ياخ، شطارة شديدة”. ولطالما أحسستُ بهذا، كان رغم حساسيته الشعرية المرهفة، أكاديمياً رصيناً، أنجز دراسات رفيعة في الأدب المقارن، لجامعاتٍ “بريستيجيوس” كما يقال. درس الأسطورة الإغريقية في الشعر العربي النصف الأول من القرن العشرين، ولاحقاً درس تجليات الأدب الإنجليزي الأمريكي في الشعر العربي الرومانتيكي، وغيرها من الدراسات التي كانت تلفت الأنظار إليه هنا وهناك.
كان طاقة عظيمة، بُدد بعضُها بسبب الجهد الفردي المحدود، ولكنه فعل ما بوسعه، كتب شعراً خالداً متجدداً، تأتيه من كل القبل، وتدخل عليه من أبواب شتى، ويعطيك حتى تقول: كفى. وَهَب أمته إرثَ سلفه التجاني يوسف بشير النثري، وترك كتيّباً لا غنى عنه زادنا إدراكاً بعبقرية التجاني المضيّعة، إذ كان محباً التجاني، متأثراً به. وغيرها من الأعمال الجليلة.
كان عبدالحي شباباً دائماً، حين أذهب بخيالي إلى تلك الحقبة، لا أراه إلا شاباً، بربطة عنق أخاذة ربما مهداة من امرأة وفية، أو بقميص محتشد بالألوان، جالساً كأنه سيقوم الساعةَ، أو قائماً كأنه سيذهب الساعة، تحت لبخ الخرطوم العتيق، يتحدث عن كيتس، وإليوت، والتجاني، وإسماعيل الدقلاشي، ووايتمان، وسيغور، والسياب، والمعري. يفتعل نقاشاً مع علي المك عن الأدب الأفريقي، أو الدوبيت، أو موسيقى الجاز، أو يحدث طلابه عن الشعر الفارسي، والإلياذة، وطَرفة بن العبد. وفي يوم جمعةٍ ما يطرق باباً، يدخل بأدب جم على أصدقاء له وأساتذة، جمال محمد أحمد الذي رثاه بمقطع شعري بالغ العذوبة، أو عبدالله الطيب، أو المجذوب. قرأتُ مرة أن صداقته بالمجذوب عامرة، وبينهما مشاريع أدبية لم تتم، آه لو رأت النور. كان مركز دائرة تنوير، نشِطاً وَقّاد الخيال، ومع هذا زوجاً صالحاً وأباً محبوباً.
لم تكن يا محمد “غيرَ إشارة لمعَتْ على برق الصحارى”، ما كنتَ سوى “صوت تجوهَر في حوافي الغيب”، و”مصباح توهّج في دم اللغة القديمة”. عشتَ أيامك القليلة تلك “روحاً من لهيبٍ أزرق قد أسرجتها الشمس في كهف الدماء”. الناس لم يروا حين نظروا إلّا الزمان، وما رأيتَ سوى “زمانٍ ناضرٍ كالطفل في الفردوسِ.. يمرح رغم رائحة الحنوط”، ولم يجدوا إلا السقوط، ورأيتَ أنتَ “توهج حمرة التفاحة الأولى وقد رجعتْ إلى بيت الغصون المزهرة”. وحين أُخذتَ يا محبوب، لم يكن موتك سوى عودة، فأنت أنت “لمحةُ الأبدِ التي رجع الملاكُ بها إلى شمسِ الغناء”.
وأنا أقرأ هذه الأيام شعره، أقطّره في روحي قطرة قطرة، ينتابني بعضُ قلقه، نسخ مختلفة من قصيدة العودة إلى سنار، هذا عذاب وأرق، خيال يتمدد حيناً، أو يُقصر، تلك قصيدة دوّامة أصابته بلعنة. قصائد تجمع الغرب والشرق، والجنوب والشمال، وتنسج عوالم مدهشة.
وحين عاد ملاك الموت به إلى منبعه، كان محمد عبدالحي قد هزمه، فالموت الموت النسيان، ومثل محمد لا يُنسى، ولا يموت، أيفنى “السمندل ملك النهار”؟!
وهو باقٍ، قال:
– “هل ترى أرجع يوماً
لابساً صحوي حلماً
حاملاً حلمي هماً
في دجى الذاكرة الأولى
وأحلام القبيلة
بين موتاي وأشكال أساطير الطفولة؟!”
لا لن تعود، فأنت لم تبارحنا أصلاً.
أترى كان الوقت صباحاً حين كتب محمد عبدالحي هذه الأسطر التالية، أكان مساء، أم ظهيرة؟! أفي مكتبه بين كتبه التي تعود به إلى أماكن متفرقة من العالم، أم كتَبها بعجَل أثناء محاضرة، أم فكر فيها حين تأخرت تمْرة في فمه؟! أم حين كان يقرأ بعض آيات من القرآن؟! أم جاءته حين كان يقف أمام مرآة يطالع نفسه؟! قلبي عليه، لقد رثى نفسه وهو حي، خائضاً الحياة العريضة، لكن ما يخفف ألمنا أنه على الأقل حين قال كلماته هذه بدا سعيداً راضياً. قال:
“في حُلمي حمامةٌ جاءت من الفردوْسِ
مخضرةٌ تبحث عني في مراعي الشمسِ
في الصبحِ بين نخلة النبعِ
وقفرِ اليأس”
ما أجمل تلك الحمامة الرسولة، لقد أوتي من الشعر ما أفقر الآتين بعده، رحمه الله، كان كأنه حلم مر خفيفاً، وترك بعض الآثار على روح أمةٍ كاملة.
رحمك الله،،