قضايا فكرية

عن المصالحة تحديدا.. فتحي التريكي

الهدف الأسمى من عملية المصالحة الوطنية يتمثل في إصلاح مؤسسات المجتمع والدولة لحمايتهما من كل انتهاك يمس بحقوق المواطن والإنسان وبديمقراطية العمل السياسي

يدور النقاش في تونس اليوم حول إشكالية المصالحة الوطنية التي يقتضيها حاليا المسار العام للفترة الانتقالية بتونس وذلك بعد إتمام قانون العدالة وفرز قائمة هيئة الحقيقة والكرامة.

ولابد أن نذكّر هنا بتجربة جنوب أفريقيا الرائدة في هذا المجال حيث قامت حكومة مانديلا سنة 1995 بمصالحة وطنية كبرى بعدما شاهدت التقتيل والحروب وشتى أنواع العنف جراء سياسة التمييز العنصري من قبل الأقلية البيضاء التي كانت تحكم البلاد. وقد ترأس آنذاك لجنة الحقيقة والمصالحة القس توتو صاحب جائزة نوبل للسلام. ورغم بعض أخطائها أصبحت تلك اللجنة مثالا يقتدى به في الفترات الانتقالية لبعض بلدان العالم التي تتوق إلى نظام ديمقراطي حقيقي.

فماذا يعني مصطلح المصالحة الوطنية وكيف يمكن له أن يلعب دورا فعالا في تحقيق أهداف الثورة التونسية وتجنب دوامة العنف التي قد يخلفها غياب المصالحة وتعويضها بثقافة الانتقام؟

نحدد المصالحة الوطنية بكونها شكلا من أشكال العدالة الانتقالية التي تكون آلية ضرورية لإعادة بناء الدولة حفاظا للوطن على أسس دستورية وقانونية تعتمد التعددية فكرا واجتماعا والديمقراطية سياسة ونمطا للحكم.

فالمصالحة الوطنية آلية متحركة لتقصي الحقائق المتصلة بفترة الحكم الجائر والمساءلة عن الدوافع والنتائج الناجمة عن الخروقات التي قام بها الأشخاص في تلك الفترة، سواء كانت في أعلى مستوى المسؤولية أو في أسفلها ومحاسبتهم عن تلك الأعمال بعرضهم على القضاء والعفو عنهم أو عن بعضهم ليتم التصالح خدمة للمصلحة العليا للوطن. وهي في كل ذلك تستند إلى القوانين الدستورية تجنبا لآلية “القوة” والعنف التي تفضلها الممارسات الإقصائية والدكتاتورية.

ويكون كل ذلك ضمن مؤهلات لجنة تسمى عامة “لجنة الحقيقة والمصالحة” وهي لجنة غير قضائية يختارها الشعب من خلال تمثيليته الدستورية ويعطيها كل الصلاحيات والاستقلالية لتقصي الحقائق والقيام بتحقيقات رسمية في أنماط الانتكاهات التي وقعت في الماضي، ورفع الدعاوى القضائية إن لزم الأمر وذلك لاستعادة كرامة المتضررين واسترداد ثقة المواطنين في قدرة القانون على إقامة العدالة وبالتالي استرداد هيبة الدولة.

كذلك من شأن هذه اللجنة النظر في عمليات التعويض المالي والمعنوي إحقاقا للعدالة التي يترقبها الضحايا وقبول الاعتذار من مرتكبي الأفعال والجرائم، وإقرار عفو كامل عن كل الخروقات وحتى الجرائم إذا ما قام صاحبها بالاعتذار العلني والصريح بعد اعترافه الكامل، دون لبس والتواء، بأفعاله وجرائمه لاسيما إذا رفع النقاب عن أعمال لم تكن معروفة دليلا على صدقه وحرصه على الاندماج في نمط المجتمع الجديد. وهذا يخدم التاريخ الوطني ويقوي التضامن بين الأفراد في المجتمع دون النيل من حريتهم.

والهدف الأسمى من عملية المصالحة الوطنية يتمثل في إصلاح مؤسسات المجتمع والدولة لحمايتهما من كل انتهاك يمس بحقوق المواطن والإنسان وبديمقراطية العمل السياسي.

ولابد هنا من التأكيد على شروط تأسيسية لمفهوم المصالحة الوطنية بعدما عرضنا بشيء من الاختصار آلياته العملية. وألخص هذه الشروط في ثلاث نقاط متكاملة:

1 فكرة الحرية التي يجب أن تكون ضامنة لعمل لجنة الحقيقة وفعلية بالنسبة للضحية ولمرتكب الأفعال في الآن نفسه.

فالحرية طبعا ليست مجردة بل يجب ترجمتها دستوريا واجتماعيا وثقافيا، وبذلك يصبح مفهوم المصالحة الوطنية قابلا للتنوع والاختلاف بعيدا عن النقمة والتشفي. ولذلك لابد أن نؤكد دائما على التنوع الشديد والاختلاف في نمط الحياة والفكر، وأن نذهب بالحرية إلى أقصاها لتكون هي القاسم المشترك بين الناس مهما اختلفت معطياتهم.

فالحرية في كل شيء تعني الحفاظ على كرامة الفرد والإنسان. ولابد أن نسوق هنا ملاحظة عبدالله العروي عندما قال إننا نجعل من حق حرية التعبير مناسبة لمطالبة الأفراد بأكبر قسط ممكن من الأمانة الفكرية والشجاعة الأدبية، إذ تلزمهم بأن يترووا ويتدبروا ويمحصوا آراءهم قبل أن يعمدوا إلى إذاعتها بين الناس.

وهنا يكون على المفكرين أن يستعدوا لتحمل تبعات الآراء التي يدلون بها. فإن حرية التعبير لا تعني أن يقول المرء كل ما يروق له دون أن يثير أي رد فعل، بل هي تعني أن يعبر المرء عما هداه إليه تفكيره بروح ملؤها الجدية والمسؤولية، وأن يتحمل كل ما قد يترتب عن آرائه من نتائج. هذه الشجاعة الفكرية هي المطلوبة حقا في إعمال لجنة الحقيقة والكرامة من قبل الضحية، ومن قبل المعتدي في الآن نفسه.

2 فكرة التعقل التي تجعل من نشاط هذه اللجنة رحمة لا نقمة بمعنى أن غايتها ستكون التسالم والتصالح في نهاية الأمر.

والتعقل، كما ذهب إلى ذلك الفارابي، هو “القدرة على جودة الروية واستنباط الأشياء التي هي أجود وأصلح فيها يعمل ليحصل بها الإنسان خيرا عظيما في الحقيقة وغاية شريفة فاضلة”. فهو تمشّ في الحياة يأخذ العقل ركيزة لأعماله فينفتح على النظر والعمل والإحساس والأخلاق. لذلك يجب أن يكون التعقل متجذرا في حياتنا اليومية وفي معاملاتنا المختلفة على كل المستويات، فيكون الاستعمال العمومي للعقل هو المفتاح الناجع للتواصل والتحاور.

لذا لابد أن ترتكز كل أعمال اللجنة مهما كانت خطورة الجريمة المرتكبة على التعقل الذي يكون كفيلا لضمان العدالة المنشودة لأنه يستند أساسا إلى إقرار كرامة الإنسان كمقياس لكل فكر ولكل ممارسة. وكرامة الإنسان تقتضي السهر على حقوقه المختلفة وحمايته من العبودية والغطرسة، ويكون ذلك بواسطة علاقة العقل بالتسامح.

3 فكرة التسامح تتطلب قدرا هائلا من الوطنية والوجدانية الإيجابية المتمثلة في المحبة والتواصل مع الآخر.

فالوجدانية قد تحرر العواطف وتكسر القيود للتقارب والتحابب والتآنس والاحترام والتسامح ولكنها قد تبعث شحنات عدوانية وتسبب الكراهية والتقتيل. لذا لابد أن تقترن هذه الوجدانية بمفهوم التسامح في التعامل مع الآخر حتى تفجر الطاقات الإبداعية لسعادة البشر فهي التي تعطي للروحانيات قيمتها العظيمة في الحياة وهي التي تحرر الغرائز ليكون الإنسان حيا يتمتع بحياته وبإنسانيته. فلا ننسى أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما فتح مكة كان شديد التسامح فقد عفا عن سادة قريش قائلا لهم :”اذهبوا فأنتم الطلقاء”. وبذلك أحدث المصالحة بين العرب والمسلمين لتصبح لهم دولة قوية مهابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى