ثقافة ومنوعات

عشق المكان.. “زغرودة في حوش أبّا الناير”

الحسن محمد سعيد

 

 

 

 

 

 

وصلتني رسالة كريمة في الوسائط الإلكترونية (واتساب) من الصديق الكاتب الكبير فضيلي جماع، تبشرني بقرب الحصول على روايته الجديدة، في زمن يكاد يكون معدوماً، إلا بخطوي للاستلام.

فضيلي جمّاع

كانت عطبرة هي المكان الذي يفصلني عن عناق الرواية لبضعة أيام، ثم كان بعدها مطالعتي الشائقة لحنين “المكان” الذي تجلى ضاجّاً بغربة الجسد التي لم تفارقها الروح أبداً، أرضاً وإنساناً وتاريخاً. رواية “زغرودة في حوش أبا الناير”، ملحمة في الحنين للمكان والشوق له والوعي به والإحساس بتفرده والمعايشة في تنوعه.

فرغم الغربة في مدن العالم الكبرى وضجيجها مع تنوع حيواتها المبهرة، إلا أنّ بيئة الانتماء لمرتع الصبا والوعي به، يغطي ما عداه فتجسده “رويانة”، تلك القرية الكبرى المترعة بفيضان الحنين والرحمة والمودة مع “رواكيبها” العتيدة. إضافة لمنطقة (البحر) وسكانها وأهلها الأصفياء.

واحة باهرة من الوحدة الوطنية التي غابت عنها بصيرة أهل الإنقاذ، ضمن سلسلة الدمار الذي ألحقته بالسودان.

لم تفلح لندن عاصمة الإمبراطورية التي – كانت لا تغيب عنها الشمس- لإزاحة ذلك الحنين الذي لا يشيخ ولا يصدأ لأديم (رويانة) وإنسانها المتفرد في طبعه وصِلاته وتكوينه ونموذجه الخاص، في الحب والرفقة والانتماء. هكذا سجل فضيلي جمّاع مشاعرَه وخلجاتِ ذاته تلميحاً لوطنه الأم، دون هُتاف أو مباشرة لثورة ديسمبر المجيدة. الأمر الذي يعني أنه عاش وطنه الذي غاب عنه بجسده ولكن روحه كان هناك.

فقد كان بروحه مع وطن رزح ردحاً من الزمن في ظلام نظام يتاجر بالدين، ويتخذ القتل والتعذيب والتشريد وسيلة للبقاء، مع فتاوى (فقهاء البلاوي) كما يصفهم الضبيب خوّاجة – أحد شخصيات الرواية.

وضح لنا الكاتب أنه انتهى من كتابة الرواية في لندن بتاريخ أغسطس 2021، وطبعت طبعتها الأولى في عام 2022 في الخرطوم، دار الأجنحة للطباعة والنشر والتوزيع. وهذا يعني أنّ فضيلي جمّاع لم يكن بحاجة لزمن اختمار التجربة الفنية في ذهنه ووجدانه، لأنّ الثورة كانت جنيناً حقيقياً في أعماقه، وظلت كذلك حتى تفجّرت شرارتُها في مدن السودان المختلفة.

في هذه الرواية، نعيش زمن الإنقاذ وبطشه، والثورة ضدّه، في ثوب من السرد الجميل الهادئ الذي تتداخل فيه الأزمنة، بتكنيك حكّاء يعرف صنعته في المجاز والرمز والتداعي الحر، مع لغة الشعر الرفيع الذي يشكل في داخل القارئ دوحة من هطول العذوبة والظلال، مع تداعي المعاني والدلالات.

أستطيع أن أستخلص مضموناً شاملاً وأساسياً من هذه الرواية، هو “الأمل”. فقد صاحبني هذا المضمون طوال زمن الرواية، لا يغيب حتى يعود وهو أكثر إشراقاً ونضوجاً وثباتاً.

الراوي – فارس – وهو بطل الرواية اسماً ودلالةً ومحوراً، تدور حوله أفلاك الشخوص على اختلاف أدوارها وطبائعها. كل ذلك لتتكشف لنا وقائع السرد في مهنيّةٍ مدهشة، الظلم والبطش والملاحقات من أمن النظام وجبروته، قاد بطل الرواية للاغتراب لأربع سنوات في دولة خليجية.

تبدأ الرواية بعودته من الاغتراب، ومن خلال الاجترار الذاتي، والفلاش باك، نتعرف عليه وعلى بقية شخوص الرواية، إضافة لحياته بالغة الخصوصية في حبِّه المسلوب من قبل قوى البطش والقسوة.

“أمل” حبيبة العمر كانت هي الرمز في الرواية، وفيها تتجلى سرقة حقوق الآخرين دون واعز من خلق أو ضمير. تزوّجها ابن عمها – نموذج النظام في سوء الخلق وسرقة حقوق الناس – ينتمي إلى أمن النظام الذي عاث فساداً في أرض المليون ميل مربع، فأذاق شعبَها مُرّ الحياة، وهذه من الدلالات التي تشي لنا مضمون الرواية الذي يشير فيه الرمز إلى حالة قهر الشعب التي تستدعي الثورة.

تعود إلى فارس حبيبته “أمل”، بعد أن تعافت الدنيا وتغيرت الحال..

و”أمل” الاسم الذي تحول إلى رمز – وهو الثورة التي اشتعلت، لأنّ الأمل هو الشرط لكل ثائر. وهنا يقول الدكتور حمدان توتو أحد شخوص الرواية: “ما قيمة الثائر الذي لا يتسلّح بالأمل وحب الحياة يا صديقي؟”. عبارة تكررت في أكثر من موقع في الرواية، الأمر الذي يكشف دلالة رمزية لحب الحياة والتمسك بها والنضال من أجل ذلك الحب وذاك الأمل. حتى الخالة البتول – بائعة الشاي – التي تصر على البقاء وسط الحريق والمجازر في دارفور لتعرف مصير زوجها المخطوف مع زوج ابنتها من قبل النظام، كانت دلالة للنضال ورفد الثورة بما يزيد زخمها، وينير طريقها.

يقول فارس: “تأكد لي أنّ الثورة ليست شعارات، الثورة – كما رأيتها في الخالة البتول – هي سعي الإنسان باستمرار للانعتاق من شتّى ألوان الظلم والاستبداد”. (ص 187)

سيدة بسيطة تواجه الجبروت بالصبر والإصرار وقوة العزيمة، كي تعرف الحقيقة عن مكان زوجها وزوج ابنتها ثريا .

أبّا الناير – هذا الشيخ الوقور – هو دلالة الحكمة والصبر والعقل والشجاعة في إنسان السودان البسيط، نبت هذه الأرض ومكمن سرها وبقائها ورمز حيويتها ومنبع أصالتها الباقية على مر الزمن. هذا الشيخ هو الرمز الذي رمت إليه الرواية ليكون خلاصة حكمة الزمن الضارب في عمق التاريخ لإنسان هذه الأرض، مهد الحضارات وأصلها.

يتداخل الزمن في هذه الرواية بشكل دائري، فقد لاحظت أنّ فضيلي جمّاع لا يحكي لنا مباشرة، وإنما يعود بين الفينة والأخرى إلى (المونولوج الداخلي) ليحكي من خلاله مواقف الشخصيات وأوضاعها، ودلالات ما يريد الوصول إليه. كل ذلك بلغة بسيطة هادئة، مليئة بالعذوبة والمقاصد.

هذه الرواية تتناول ثورة ديسمبر المجيدة، وهي لا تزال مستمرة ومشتعلة حتى اللحظة – حتى كتابة هذا المقال. ولعله بهذه الرواية يكون من ضمن السابقين القلة الذين تناولوا هذه الثورة الشعبية الثالثة ضد حكومات العسكر، إنه ضمن من يبشرون بهذه الثورة العملاقة في سلميتها كمنطلق تاريخي بالغ الأهمية لمدنيّة الدولة ونبذ الانقلابات العسكرية المريرة التي ابتلى بها الشعب السوداني زمناً تصل نسبته لما يتجاوز (80%) من عمر الحكم الوطني منذ فجر الاستقلال في يناير 1956م.

ثورة تنادي بقوة بأن الديمقراطية هي الحل، وأرجع ذلك – كما أراه في هذه الرواية – إلى “الأمل”، خلاصة المضمون والدلالة لهذا العمل الكبير. الأمل الذي أعنيه في هذه الرواية يتجسد في عودة البطل الراوي إلى بلده (رويانة) بعد غربة فرضها عليه الظلم والقهر والملاحقات الأمنية. كذلك يجسده الدكتور حمدان توتو وزوجته رحاب، بين البسطاء في الأراضي المحررة. ويجسده الدقم – شقيق فارس – وزوجته فطين التي تحدّت كلَّ معوقات البيئة وأعرافها الصارمة، لتتزوج من رأته أهلاً للاقتران بها. يجسده الزاكي الأرباب وسناء الفوراوية وكوال دينق، في مواقف مليئة بالشجاعة والإنسانية والمروءة. تجسده الخالة البتول، وهي تتحدى النظام وسدنته بإرادة لا تعرف الانكسار. تجسده الزغرودة في حوش أبا الناير، بعودة “أمل” الواقع والرمز للحب والسلام، عودتها إلى حضن من عشقت وأحبّت..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى