قضايا فكرية

عبد الله العروي : أوروبا ، الفكرة والأسطورة والوهم

العروى(عبد الله العروي)

أوروبا : الفكرة والأسطورة والوهم

عبد الله العروي

الأوروبيون كانوا دائما فضوليين لمعرفة رأي الآخر فيهم. هذا إذا ما سلمنا بأن هذا الآخر هو آخر بالفعل. وهنا ثمة كلمة تفسيرية تفرض نفسها.

مؤرخا، تعلمت أن أميّز العناصر التي أدت عبر القرون إلى منح الشعوب التي نسميها اليوم أوربية وعيا موحدا. كما تعلمت أيضا أن أوربيي الوضع لم يصبحوا كلهم بالطبع أوربيي التفكير. ولكي يمروا من الفعل إلى الفكرة، كان عليهم أن يعيشوا أزمات هوية عميقة. أزمات عرفها خاصّة أولئك الذين كانت أوروبيتهم مشكوكا فيها بسبب اسم أو بسبب شيء آخر: الروس خلال القرن التاسع عشر، والألمان فيما بعد الحرب العالمية الأولى. أنا لست أوروبيا. لكني من طينة خاصة. فأنا في نفس الوقت قريب وبعيد، واضح وغامض: وهنا تكمن خصوصيتي. ولقد كنت لمّحت من قبل إلى منابع الفكرة الأوروبية.

التراث الإغريقي هو الأكثر روعة وأهمية بالنسبة للكثيرين. ونحن العرب، نطالب به، جزئيا على الأقل. أرسطو بالنسبة لنا هو المعلم الأول. وهو الذي في ميدانه لا يمكن أن يُتجاوز. وهنا لا تتوقف المشابهة. نحن نريد أن نكون ورثة العرب القدماء. والأوروبيون يريدون أن يكونوا ورثة الإغريق القدماء. وهكذا نحن جميعا نتحمّل أحقاب توسّع وتقهقر، مدّ وجزر، تغذّي أحلامنا وتثير رغباتنا، ووقظ حنيننا. وهذا ما يمكن أن نسميه باكتساب الفكر التاريخي. وثمّة نتيجة أخرى لهذا المد والجزر وهي: إنفصام دائم الحضور، غير أنه متجاهل طول الوقت.

أوروبا هي فكرة، وأسطورة، ووهم. سأبقى في مجال الاستعارات وسوف أترك للمؤرخين، ولعلماء الاجتماع والاقتصاد، مهمة تحديد حالة المجتمع الأوروبي خلال الأربعة قرون الماضية، وسأبحث عن فكرة أوروبا في أعمال الروائيين الرائين: دستويفسكي، مالرو، كونراد الخ… ومنذ منتصف القرن الماضي، تناول العرب بدورهم المغامرة الغربية محورا أساسيا لإنتاجهم الروائي: الكاتب المصري طه حسين أراد أن يقدم نموذجا لذلك من خلال قصة عنوانها «أديب».

بطل هذه القصة يمضي في باريس، شتاء 1917 المرعب والذي كابد الناس خلاله قسوة البرد والجوع، وأيضا أهوال أول قصف للطيران. وفي نفس الفترة أدرك المثقفون الأوروبيون التشابه بين النزاع الألماني -الفرنسي، وبين المنافسة التي كانت قائمة بين اسبارطة وأثينا والتي وضّح توقليطس Thukydides جانبها التراجيدي بمهارة كبيرة. ويساهم «أديب» في الحوار بحماس وعُنف النصير الجديد. وهو ينحاز إلى الحضارة، ويرفض القوة الوحشية قبل أن يسقط في هوّة الجنون المنقذ.

إن أوروبا بالنسبة لطه حسين، كما بالنسبة لدوستويفسكي أو توماس مان سراب: كلما حللناها، ذابت في مفهوم التاريخ. إن المغامرة الغربية، أي رحلة أوروبا حول الكرة الأرضية، هي في آخر المطاف مغامرة التاريخ البشري. إنها عبارة ذات التباس قاس: إنها تجعل، محاولات الآخرين تافهة، وفي نفس الوقت تفرغ عبارة أوروبا من محتواها المحدد. وعلى هذا المستوى في التفكير، لا يبدو مصير مجموعة بشرية واحدة حتى ولو كان اسمها أوروبا جديراً بجهد مثقف أمين لمنهج شمولي.

وإذا ما وجد إنسانيون أوروبيون كبار، فإنه بالمقابل لا يوجد إنسانيون متأوربون كبار.

حتى توماس مان نفسه الشديد التعالي، والشديد السيطرة، اكتفى بالتعبير عن تناقضاته دون أن يحاول تجاوزها اصطناعيا وهو يرى أن كل واحد من هذه المكونات ضروري بالرغم من أن هذه المكونات جد متباينة، وهي مدعوة لمصائر جد متباعدة إلى درجة أنها لا يمكن أن توحّد مساهماتها إلا في أوروبا خيالية تماما مثل تلك التي يحلم بوجودها الفلاسفة والفنانون حين يدرك التاريخ نهايته ومعناه.

مهما يكن المجتمع الذي إليه ننتسب، الفترة التي نقف حيالها فكرياً، فإننا نكتشف أن أوروبا كفكرة هي مرادف للتاريخ. ولكن أن تكون تاريخيا يعني أن تكون تاريخياً يعني أنك تكون كموضوع أو كفكرة، في حالة تحوّل مستمر. يعني أنك تكون حديثاً. كل كلمة تطرد الأخرى، ويبقى الواقع ملتبساً وغامضاً. أن نقوم بإعداد تاريخ الحداثة، يعني أننا نضيع وراء الباحثين وعلماء النفس من بودلير Baudelaire حتى موزيل Musil. ولنجب مرة أخرى من خلال أكسيل، ما هي الحداثة بالنسبة لشخص ينتسب إلى مجتمع يوصف خطأ أو صواباً بأنه تقليدي.

يغادر «أديب»، بطل طه حسين، قريته المصرية، ويمرّ بالأزهر قبل أن ينتسب إلى جامعة جديدة حيث يكتشف الفكر النقدي الأوروبي، وقبل أن يرسل في رحلة دراسية إلى فرنسا. ودونما أية مرحلة انتقالية، يجد نفسه وقد نقل من عالم منظم، ومستقر إلى عالم متحرك، بل ويكاد يكون فوضويا. ويبذل «أديب» مجهودات تكاد تكون مستحيلة. وفي ظروف أشهر قليلة يحقق تقدما مدهشاً في جميع الميادين. غير أنه بفعل موازنة، شائعة مع الأسف، يناوب فترات العمل المكثف وفترات المجون المسحورة حتى ينتهي بالسقوط في هاوية الجنون.

في قصة عنوانها «الغربة» أثرت نفس الموضوع. فتاة مغربية تسافر إلى باريس لأنها ترفض قبول ما يصفه لها الآخرون بأنه مصيرها المحتوم. وقبل ذلك كانت قد تعرفت على مهاجرة مجرية هي إحدى ضحايا أحداث 1956. وتحاول البطلة أن تجد لدى تلك المرأة تفسيراً لأزمتها. إن قصة «الغربة» لا تنغمر في التراجيديا بل في المالنخوليا. وما كانت تظنه الفتاة المغربية أزمة شخصية لم يكن في الحقيقة سوى نتيجة ضرورية لتطور عام. وعندما تعتقد أنها اكتشفت شخصيتها، تلتقي بالتاريخ. وفي الوقت الذي كان يتم فيه مد السكك الحديدية في الجانب الآخر من البلاد، وكما حسب تسلسل لامرئي، تلج قلب الفتاة الرغبة في المطلق. وتنسى الديمومة لتعانق اللحظة، والطاعة لتكون أمينة مع نفسها. لست هي التي تكتشف نفسها، وإنما التاريخ هو الذي من خلالها ينكشف ويتجلى بائحاً بأسراره. وضحية لعملية بالكاد تعيها، تجد الفتاة نفسها وسط آلام انعدام التوازن. وهي تتمنى لو أنها تعثر على نقطة ارتكاز في منفاها الذي هو أرض غربية وأرض غروب، غير أنها سرعان ما تتحرر من الأوهام. وتنتهي القصة بتساؤل.

هذان رأيان حول المغامرة الغربية. وراء أوروبا والحداثة ترتسم الحرية، وانعدام التوازن، وأخيراً انهيار القيم والعدمية المطلقة. من بين أشهر محللي مسألة الحداثة – بورخارت (Burckhardt)، نيتشه (Nietzsche)، دستويفسكي (Dostojewski)، مان (Mann)، موزيل (Musil) – ليس هناك واحد ظل هاديء الأعصاب تماماً، وليس هناك واحد استطاع أن يختم بنعم بسلامة نية حتى النيتشوية هي الاستفزاز. العقول الأكثر هدوءاً توقفت عند تشاءم رزين. آخرون آثروا العودة إلى الأصول. نحن نعرف القاعدة: فلنحافظ على أفكارنا المسبقة. إنها تحمينا. ومقابلها في العربية: فلنتعلق بكل ما لا يزال واقفاً.

غير أنه إلى حد الآن، لم يتمكن أحد من أن يحيي الماضي فعليا. الشعوب تلج المستقبل قهقرة. إنها حالة جد معروفة. وعندما يتكلم هيجل (Hegel) عن حيلة التاريخ، وماركس (Marx) عن الإيديولوجية فإنما لكي يشير إلى نفس الظاهرة. في بداية كل مرحلة تاريخية ترتفع الأصوات مطالبة بإحياء ما هو نصف منسيّ. غير أن نداء الماضي، حين لا يعرقل ولا يوقف الحركة الاجتماعية، يساعد في أغلب الحالات، على اعتناق الجديد تحت أقنعة مستعارة ومتكلفة.

ظاهرة الرجوع هذه لا بد من أن ندرسها. أكيد أن النهضة والإصلاح كانا في أوروبا رجوعا إلى الماضي. الرومانطيقية أيضا كانت كذلك. وأيضاً كل الحركات الكبيرة التي ظهرت خلال القرن التاسع عشر. نداءات شبيهة انطلقت من شعوب أخرى. غير أن الأوروبيين يقولون اختيارياً أن المسألة تتعلق بأمر آخر مختلف تماماً، ذلك أن الشعوب التي ليست أوروبية لم تنطلق أبداً لكي تُدعى إلى الرجوع. فلنلازم الواقع. حتى القرن الخامس كان العرب والصينيون لا يزالون يكتشفون العالم: الاختصاصيون يعرفون جيداً أسماء مثل ابن بطوطة، ابن مجيد، تشانغ عو، ما هوان. غير أنهم مثل السندباد كانوا يعودون دائما إلى نقطة البداية. ومعاصروهم هم الأوروبيون كانوا يفعلون الشيء ذاته. كريستوف كولومبوس هو أيضاً عاود وانطلق عدة مرات. القطيعة مع الماضي استكملت في أوروبا مع ماجلان الذي كان قد عاد إلى نقطة البداية لكن بعد أن دار حول العالم. وبفضل نجاح الطواف حول الأرض اكتشفت أوروبا قبل الآخرين أن العالم انتهى ومنذ ذلك الوقت، تأكدت أنه لا أحد يمكنه أن يسير أبعد منها فوق هذه الأرض. مقل هذا الاكتشاف، حتى ولو أنه لم يُوضّح بسبب المنافسات القومية كان له تأثير نفسي لا مجال للشك فيه. الذي يصل الأول يضع الآخرين أمام خيار صعب: تقليده أو الانكفاء والعزلة. حتى ولو دارت المنافسة وسط حلبة مغلقة، قإن الحل الثاني مرفوض. التقليد وحده يساعد على الخلاص من الموت التاريخي. تقليد يساعد أولاً الذي وصل الأول قبل أن ينقلب ضده.

لقد تحدثت عن ماجلان الملاّح. وكان من الممكن أن أتخذ كمثال ماجلاناً فيلسوفاً، أو فناناً، أو عالماً. ومن المؤكد أني سأصل إلى نفس النتيجة. في أوروبا، ومنذ أربعة قرون أصبح الرجوع إلى نقطة البداية إمّا فعلاً يحدث تطوراً مستحدثاً أو صرخة حنين أو مواساة ليس لها أي تأثير فعلي. في موضع آخر مثل هذا الأمر يعني حقاً الانكفاء والصعود في الزمن. التاريخ ليس له نفس المحتوى من ناحية هناك إيجابية الفعل، ومن ناحية أخرى هناك انعدام التوازن الذي يسببه كل من الحلم والأهواء الجامحة.

إذا ما كانت أوروبا مرادفة للحداثة، وإذا ما كانت الحداثة تعني دائما انعدام التوازن، فإن معنى أن تكون حديثاً ينحصر في نهاية الأمر في الرغبة في أن تكون حديثاً. وليس في أي موضع آخر يصح أن نقول: وحدها الخطوة الأولى لها أهمية. علماء الإبستيمولوجيا، مؤرخو الاقتصاد، منظرو الفن يؤكدون الشيء ذاته: امحوا التفاسير الجاهزة، وستكتشفون العلم التجريبي، ضعوا نصب أعينكم الربح المادي، وستعثرون على مفتاح الفن. اليوم، يبين لنا الواقع أن أوروبا ليست فقط في أوروبا. في سنة 1945، كانت فقط في مكان آخر. وعلى صورة هذا المكان الآخر، وبالتحديد أمريكا، بنيت من جديد. وألمانيا المهزومة كانت الأولى في هذا المضمار.

كل شيء يبدأ بالتقليد. سياسة الحرباء التي تسعى إلى أن تمر دون أن يفطن لها أحد، ودون أن تجرح النظر، حتى لا تتعرض للانهيار. في البداية تشرع تفوّق أوروبا المقلدة، غير أنها في النهاية تفرغها من جوهرها. لقد أحسّت أوروبا بالخطر وحاولت بالقوة أو بالحيلة، أن توقف تيار التأورب: وهذا ما يفسر إعجابها الشديد بالقوى الرجعية.

هل ستتوصل أوروبا إلى منع بقية العالم من تقليدها؟ الجواب واضح: لا. نظراً للظروف. إن أوروبا الجغرافية تأوربت حسب مراحل. أين يمكن أن يتم التوقف؟ عند فولتير كما عند بلزاك أيضاً، البحر المتوسط هو روح الحضارة. وعند كانط (Kant)، تنتقل روح الحضارة باتجاه الشمال، بينما تتعتّم البلدان المتوسطية، حتى تلك الواقعة على الضفة الشمالية. وإذا لم تحافظ بلاد الإغريق على فنها لنفسها، وإذا لم تحفظ بلاد العرب لغتها ودينها، فلماذا لم تحتفظ أوروبا وحدها، وهي التي حددت نفسها كسيرورة وكوعي تاريخيين، بالفردانية، وبالشرعوية؟ وبالتجريبية؟ لقد سعت إلى المفيد، والمريح، والملائم، وأحياناً أيضاً إلى الصحيح والحقيقي. من يستطيع أن يرفض، وباسم ماذا، قيماً مشتركة؟ بالإضافة إلى ذلك يمكن أن نقول: ليس هذا جديدا.

البعض يؤكد لنا: وراء خطابها الواضح، والبسيط، والراشد، تسعى أوروبا إلى هدف مغاير تماماً. العقل، والعلم، والحرية المدنية إلخ.. كل هذا كان ثمرة الصدفة مثلما أن أمريكا كانت نتيجة الخطأ. ويتحدث الناس اليوم اختيارياً عن الجانب الخفي للعقل الأوروبي. يوضع في المقدمة اسم أو عمل، ثم يتم إيلاجنا إلى متاهة، بحثاً عن حقيقة للسرية.

وفي الواقع، فإنه مهما يكن البعد الشيطاني للوعي الأوروبي، فإن غير الأوروبيين لم يتمكنوا أبداً من محاربته علانية ذلك أنه لم يقع تحمله بشكل واضح. إن أوروبا التي هي تاريخياً فعالة، كانت موطن العقلانية الوضعية. وهي -أي العقلانية الوضعية -التي قُلدت حتى وأنها في بعض الأحيان نقدت بشيء من الفتور.

وبحكم وضعيتي، لا يمكنني أن أتحدث بوثاقة الصلة بالموضوع، عما وجد قبل جزر أوروبا والذي له صلة بماضيها. وبعد انهيار الاستعمار، أخذت المشاكل طابعاً إقليمياً. وأوروبا التي عادت من جديد مفهوماً جغرافياً، أصبحت هَمّ من يحسبون أنفسهم أوروبيين. وإلا ليس هناك شعب يعيش عصره الذهبي. وما تسمّيه اليوم بعض الصحف الاقتصادية بالثلاثين سنة المجيدة، أي المرحلة الممتدة بين 1945 و1975، والواقعة بين الحرب العالمية الثانية والأزمة البترولية، لم يعشها أحد كما وصفت. ويمكن القول، إن إشكالية أوروبا الحالية ولدت بالضرورة في مجال التدهور، مع العلم أن هذا التدهور هو دائماً نسبي: إن عصراً متدهوراً يمكن أن يكون أكثر انشراحاً، وثراء، وثقافة من عصر آخر يوصف بأنه عصر ذهبي. إن أوروبا التي خرجت من نفسها أعطت، ومنحت نفسها، وهذا هو جوهر تدهورها.

هل هي مغامرة فاشلة وفريدة في التاريخ؟ بالعكس، إن امتياز البلدان الأوروبية، حتى تلك التي لها حجم متواضع، هو أنها ظلت كما هي بعد أن كانت قد أجهدت نفسها في أماكن أخرى. قبل التجربة الأوروبية، كان الاستعمار قاتلاً، وللمستعمِرين قبل كل شيء.

أي مستقبل لأوروبا، لهذه أوروبا التي حددها المعنيون بالأمر أنفسهم حسب مقاييس ليست في الظاهر جغرافية تماماً، ولا تاريخية جوهرياً؟

هل أوروبا هي قائدة العالم بفضل علمها وتكنولوجيتها؟ كثيرون يؤكدون أن المخترعات تظهر دائماً في هذا الركن الصغير من الكرة الأرضية، وأن الآخرين بفضل الحرية السائدة، يأتون لاشترائها، أو للتدقيق فيها إذا ما اقتضت الحاجة، حتى يتمكنوا من إنتاجها في بلدانهم أولاً في مرحلة أخرى في الأماكن التي ظهرت فيها. هل أن هذه الفكرة الشعبية لا تزال إلى حدّ هذا الوقت صحيحة؟ وهل كانت كذلك دائماً؟ أنا ألقي السؤال، وفي انتظار جواب المؤرخين الموضوعيين، أعبر عن انطباعي الشخصي حتى ولو رفض أو تعرّض للسخرية. بعكس إيديولوجية القرن التاسع عشر، فإن التوجه نحو التكنولوجيا، الإبنة الشرعية للعقل الماهر في التخطيط، والمقدر للعواقب، يبدو لي أنه الأعدل تقسيماً في العالم. وحسب رأيي، فإن أوروبا ستكون شيئاً فشيئاً واحدة من جملة مراكز الاكتشافات العلمية والتقنية.

هل أن أوروبا هي مركز العالم، و ممر إجباري لجميع الاتصالات بين المجموعات غير الأوروبية ؟

لقد كانت كذلك لزمن طويل. والقارات الأخرى لا تزال تذكر ذلك. غير أن الخرائطية الجديدة التي أوجدتها أقمار الاتصالات تغيّر الرّئاية: ليس هناك مركز طبيعي للعالم. ليس هناك سوى مراكز وقتية مؤجلة. صحيح أ، اليابانيين يستقرون في باريس أو في لندن أو في روما، لكي يغزوا الأسواق الإفريقية، وأن العلاقات العربية – عربية أو عربية – إفريقية هي دائماً مثلثة. وأمام طموح أصحاب الإيرادات هذا، لا نستطيع نحن العرب إلا أن نذكر أن حضارتنا تأسست على مثل هذه القاعدة التي نعلم جيداً مدى هشاشتها.

هل أن أوروبا هي المتحف الخيالي للعالم ؟

ربما يكون هذا التكهن هو الأقل قابلية للشك. ورغم أن أوروبا منحت أمريكا كثيراً من ثرواتها الفنية منذ قرون، فإنها لا تزال تمتلك المتاحف العربية والإفريقية والآسيوية الوحيدة والحقيقية. وهي متاحف تساعد على الدخول إلى قلب كل حضارة. إن منظمة اليونسكو اليوم لها توجّه إفريقي، وأغلبية أعضائها من العالم الثالث، ومع ذلك فإنه لا أحد يعترض على مقرها في باريس. وهذا معطى ذو مغزى تماماً مثل اجتماعات منظمة أوبيك في فيينا أو في جينيف!

وبحكم طبيعة الأشياء، أجد نفسي مستدرجاً إلى أن ألعب دور «أوزبيك» في الرسائل الفارسية لمونتسكيو. أي أني أكتب رسالة إلى صديق ظل وراء البحار. وأنا أحدثه عن أوروبا كما تبدو لي: بيت جميل، متين، ومريح، محاط بحديقة مزهرة، ومليء بالزرابي الفارسية، وبسيوف عربية، وبتحف صينية، بيت كما يحلم به قبطان طول مدة عمله الطويلة، أو صحفي متجول، أو ديبلوماسي، أو تاجر. ويسألني صديقي وقد أصيب بالخيبة: هل هذا هو كل شيء؟ ولو كنت أتيت قبل قرن إلى هذا العالم لكنت وصفت بنكاً، أو برلماناً، أو معملاً للأسلحة، أو مكتبة، أو وكالة تلفونية، أو قصراً ملكياً. ولكنت صفقت لوزير يخطب أمام لجنة برلمانية، أو لمحاضرة مكتشف في قاعة العلوم، أو لعرض حول إحدى الاكتشافات خلال إحدى الحصص الأكاديمية. غير أن هذه المعاهد، وهذه المؤسسات، وهؤلاء الأشخاص أصبحوا اليوم موجودين في كل مكان تقريباً بأعداد كبيرة أو صغيرة، وبأسماء يصعب أحياناً نطقها.

وربما ينتظر صديقي أن أحدثه عن الحلول التي تقترحها أوروبا. غير أن أغلب ما تنتجه هذه منذ قرون مشكوك في نجاعته. أحدهم يكتب مقدمة لنظرية لن ترى النور أبداً! وآخر يكتب رواية رجل يحاول أن يتخيل رواية. كل العقائد مرفوضة، والنقد علاجي، والشعار الأكثر تقدما هو الآتي: ممنوع المنع. أكيد أنه يوجد في أوروبا الباحثون في الطريق، لكن يا صدقين هل يخاطبوننا نحن. نحن الذين عرفنا آخرين بلحي وبعمائم بيضاء؟ عندما يقولون: فلنذهب إلى الشرق فإنهم يعنون بذلك كاليفورنيا، وهونغ كونغ، هناك حيث توجد أوروبا متعددة. وأختم رسالتي لصديقي الذي ظل في البلاد، بانطباعين متعارضين.

أنا أسير في قلب لندن حيث أصبح الهواء نقياً بعد أن طرد السكان من مدينتهم المعامل التي كانت لمدة قرنين مصدر ثروتهم. أدخل « الهايد بارك » واقف عند ضفة « السربونتين » وفي حين تدور في رأسي جملة فرجينيا وولف (Virginia Woolf) الطويلة، و البرّاقة، والمأتمية، يستولي علي فجأة شعور ثقيل الوطأة و أحسّ كما لو أن ذلك المنظر فقد علة وجوده، و أنه يوجد فقط لكي يكون شاهداً على تفتح نثر فرجينيا وولف.

أنا في مطعم يوجد في قلب هونغ كونغ. الساعة تشير إلى الواحدة بعد الزوال. وبعد قليل يمتليء المطعم بموظفي البنوك وشركات التأمين، والتجارة، بنظرات من المعدن الأبيض، وبأربطة عنق زرقاء، وأقمصة بيضاء قصيرة الأكمام، ويمسكون بالطبعة المحلية لجريدة Wall Street Journal. للحظة قصيرة كنت أريد أن أقول: إنهم صينيون متنكرون. غير أني سرعان ما أتدارك: ليس من حقي أن أقول ذلك، فنحن كلنا متنكرون بالتناوب.

أختم: إذا ما أنت يا صديقي، وجدت أن مأساتي هي أني فقدت سذاجتي، وأني أرى كثيراً أوروبا عبر انعكاساتها، فإني أطلب منك أن تأتي لتراها بنفسك. وسوف نقارن بعد ذلك انطباعاتنا. من لندن إلى هونغ كونغ مروراً بمنهتان، ها هي رحلة طواف حول الأرض من نوع آخر. كان لينين يقول: الثورة تتجه نحو الشرق. أما المؤرخون، فقد استنتجوا أن (الحضارة) أوروبا – المجتمع قد اتجهت نحو الغرب. ها نحن نعود من جديد إلى نقطة البداية. اليابان تبيع آلاتها لأوروبا الجغرافية وتشتري منها الخمور والكحول. وكثير من الأمم توصف بأنها جديدة تطلب من الأوروبيين: ماذا يمكن أن تقدموا لنا من غير منتوجات الصناعة الميكانيكية؟ ويعلق سكان إقليم أوروبا قائلين: لنتحد. ولنحتفظ بأفكارنا لأنفسنا. لسنا بحاجة إلى الآخرين. نحن العرب نسعى منذ أكثر من عمر جيل أن نتوحد أيضاً. نحن جميعاً: عرب وأوروبيون نعيش هاجس سماع طائر المينيرفا (Minerva): لقد فات الأوان. لقد فات الأوان. لقد فات الأوان، بينما الإنسانية تقاوم التعدد وتواجه الفضاء. نحن جميعاً ضحية حنين ليس هو حنين بقية العالم.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. من اجمل و اعمق ما قرأت حديثا. عدد من الرسالات الجادة مشوبة بفلسفة اجتماعية عميقة تتطلب الكثير من البحث و التحليل و ليس لها نهاية و تلك روعة بالغة في بعد النظر يا عبدالله العروي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى