الرأي

شفرات في يوم عالمي للمسرح

إلى مصطفى يحيى فضل الله

دائماً ما نتباهى كمسرحيين بهذا اليوم – 27 مارس – من كل عام، اليوم العالمي للمسرح. يوم له مذاق خاص، تتنوع فيه العروض المسرحية، حتى دور العرض التجارية تفتح أبوابها للجمهور متخلية عن ثمن تذكرة الدخول. ندوات وسمنارات تناقش أمور المسرح، تتلاقى الفرق المسرحية في برنامج مشترك على مسرح واحد وجمهور واحد بعروضها المختلفة.
تتم هذه الممارسة الحميمة في كل مسارح العالم، لكن في هذا اليوم العالمي للمسرح يوم الأربعاء 17 مارس 1996 م، قررت الورشة المسرحية داخل المركز السوداني للثقافة والإعلام بالعاصمة المصرية القاهرة، أن نتجاوز إشكال عدم وجود مسرح كي نحتفل باليوم العالمي للمسرح. قفزنا فوق هذا الإشكال، وقررنا أن يتم عرض مسرحية (الرجل الذي صمت)، تأليف الشاعر والكاتب المسرحي المتميز محمد محي الدين، من إخراجي، وتمثيل: أحمد البكري، عصام العجمي، هاشم عبدالله، وإبراهيم صديق.
قررنا أن نعرض هذه المسرحية داخل صالة المركز السوداني للثقافة والإعلام في 10 شارع علوي وسط القاهرة، لاسيما وقد علمتنا التجربة الثرة والمتنوعة في أساليب العرض في جماعة السديم المسرحية، ومن خلال أسلوب العرض المتنقل، علمتنا هذه التجربة أن الفضاء المسرحي مفهوم مطلق، يستطيع أن يحول كل الأماكن المختلفة إلى أماكن للعرض المسرحي متى ما تم توظيف هذه الأماكن كي تلائم وتنسجم مع العرض المسرحي.
لذلك، انتفى الحرج والشعور بضيق صالة المركز حين بدأنا نفكر فيها كمكان لهذا العرض المسرحي، وقمنا بالتدريبات اللازمة لذلك. استطعنا أن نستغل الممر المؤدي إلى الحمام والمطبخ كعمق تأتي منه شخصيات المسرحية، واستغلال مكتب إدارة الفنون كمدخل تأتي منه أيضاً شخصيات المسرحية عبر باب في الجانب من مربع صغير يكفي لحركة أربعة شخوص هي كل شخصيات المسرحية، وتركنا باقي الصالة للجمهور مبكراً.
كان لقاؤنا بالمركز في صباح الأربعاء 27 مارس 1996م، بروفة تكثيف لحفظ النص ومراجعة تحولات شخصيات المسرحية، مراجعة مداخل ومخارج الشخصيات، ضبط طرق إلقاء الحوار، تسجيل مؤثرات صوتية وذلك باستخدام: صحون، ملاعق، طبل، فندك، أجراس، صوت خشخشة أوراق، وصوت حركة مؤشر راديو يتجول بين المحطات الإذاعية. وترتيب هذه المؤثرات الصوتية على شريط كاست غير الذي سجلت فيه، مراجعة الأزياء والاكسسوارات، وحين كنا نغني تلك الأغنية الكوميدية والوحيدة في المسرحية:
((التيس الشايل القلم
كتب في الحيطة
أحب الغنم
ويا سحلية يا ضهبانة
حبيت الضب
وإنتي ما دريانة
طلوع الحيط
بقي ليك شغلانة)).
حين كنا نغني هذه الأغنية بأصوات منغمة وجادة كي نكثف المفارقة الكوميدية، يأتيني تلفون من الشقة التي أسكنها في الحي السابع بمدينة نصر، حين وضعت السماعة على أذني قطع الخط. اتصلت أنا هذه المرة، لا زال الخط مقطوعاً، أعدت المحاولة مرات ومرات. بدأت أقلق، ملت الأرقام 4024315 من محاولاتي المتكررة، قلقي ازداد، تركت التلفون، عدت إليه مرة أخرى والحال كما هو. جلست هامداً أحاول أن أجادل قلقي، أخيراً بعد أكثر من نصف الساعة، اتصلت بي الأخت (ابتسام محمد صالح) زوجة الصديق (عبد الله عبد الوهاب)، لتخبرني أن (هادية) زوجتي قد داهمتها أوجاع الولادة، وأن خطوط التلفون تعطلت.
أخرج من المركز، وكان الوقت يقترب من العصر، كان معي الصديق (أيمن حسين)، تاكسي استطاع سائقه أن يستغلنا. وكان ذلك الخوف الميتافيزيقي قد استغل مشاعري، لا سيما ونحن في غربة (لا النفس راضية بها، ولا الملتقى من شيعتي كثب).
المستشفى الإيطالي بمنطقة العباسية في القاهرة، الطبيب يقول إنها حالة ولادة. (هادية ) بالغرفة 22، أتجول بقلقي داخل المستشفى. (أيمن حسين) عاد إلى المركز، أخرج من المستشفى، أتجول في المنطقة حتى أصل محطة الأوتوبيس الموسومة بـ (ميرفت أمين) بمنطقة (الوايلي),
ينتأبني خوف غامض، أرجع إلى المستشفى. (هادية) حولت إلى غرفة قريبة من غرفة العمليات، أهرب مرة أخرى بقلقي من المستشفى، ألوذ بمقهى في منطقة (الوايلي). أرجع إلى المستشفى، أدخل الغرفة التي بها (هادية). أخرج، أتجول في المستشفى، كانت الساعة قد بدأت تقترب من السابعة مساء.
أرجع إلى غرفة (هادية) وأخرج منها منزعجاً، ليس من الآلام التي كانت تصرخ بسببها، ولكن لأنني تذكرت أن اكسسوارات العرض المسرحي قد لا توضع في أماكنها الصحيحة، لأنني خرجت من المركز دون أن أنبه إلى ذلك.
ركضت عبر السلالم قاصداً كشك التلفونات، وصلته. اتصلت بالمركز، قابلني أحدهم على الخط، طلبت منه أن يدعو لي (أحمد البكري). وحين وضع السماعة على المكتب، استطعت أن أميز صوت مدير المركز (الزين صالح) دون أن أميز كلماته وهو يخاطب الجمهور. وحين أخبرني الأخ الذي استقبل التلفون باستحالة وصول (أحمد البكري) إلى التلفون لأن الصالة مزدحمة بالجمهور، لم أجد حلاً غير أن أقول له:
((أسمع، شوف ورقة وقلم وأكتب الكلام البقولو ليك ده وأديهو لأحمد البكري. ألو، معاي؟ طيب أكتب: يا أحمد ما تنسى الجزمة القديمة، أعمل قوس، حبيبتي عرجاء برصاء حولاء، أقفل القوس. الجزمة تكون في الوسط، بعدين العضم، بين قوسين، شهادة ميلاد، العضم في أسفل اليمين. ألو، معاي؟ أيوه، العلبة القديمة بين قوسين، المراحيض تفتح أبوابها للعشاق، العلبة لازم تكون في الوسط، معليش أزعجتك، لكن الكلام ده مهم. أكتب: القميص المشرط بين قوسين، الجاحظ يتجول عرياناً في سوق عكاظ، القميص لازم يكون في أسفل اليسار، بعدين الصحن المصقر، بين قوسين، شهادة وفاة، الصحن لازم يكون في أعلى الوسط. أكتب برضو: الطوبة، بين قوسين، القمر والجرادة السمراء، الطوبة لازم تكون في يمين الوسط، بس خلاس. عليك الله، مهم جداً توصل الورقة دي لأحمد البكري. أيوه، خت السماعة وطوالي وصل ليهو الورقة دي، شِكراً ليك)).
وحين مددت يدي بالخمسين قرشاً أجر المكالمة للعامل بكشك التلفون، وجدته ينظر إلي بدهشة متعددة الألوان، وفمه مفتوح باتساع ملاحظ. ناولته القروش، لم ينتبه، وضعتها على المكتب. وفي طريقي وأنا أركض على السلالم، خرجت مني ضحكة حادة لأنني عرفت سبب دهشة عامل كشك التلفون. إنه لم يستطع أن يفهم كلمة مما كنت أقوله في التلفون، وهاله أنني أتكلم بلغة عربية مفهومة.
في التاسعة إلا ربعاً، جاء ابني (مصطفى سيد أحمد) إلى هذا الوجود، ومسرحية (الرجل الذي صمت) كانت وقتها تقترب من نهايتها، عرفت ذلك بعد أن سألت عن زمن بداية العرض ونهايته. صرخ ابني (مصطفى) صرخة وجوده الأولى في يوم الأربعاء 27 مارس 1996م، وفي اليوم العالمي للمسرح أثناء عرض مسرحي من إخراج والده ومن رحم أمه التي تنتمي إلى المسرح، وكأنه اختار أن يكون يوم عيد ميلاده في ذلك اليوم الذي يتباهى به المسرحيون في كل العالم.
العامل في كشك التلفون الذي أصابه حديثي التلفوني بالدهشة، أصبح يقف وبأدب شديد وملاحظ كلما مررت به خارجاً أو داخلاً إلى المستشفى. كان يتابعني بنظراته حين أهبط السلالم أو أصعد، ولاحظت أنه كان يهامس أحدهم وهو ينظر إلي بريبة مريبة مصدرها أنه اعتبرني شخصية أمنية كبيرة تستخدم شفرات خاصة عبر التلفون، لأن ما سمعه مني عبر تلك المكالمة كان أمراً غريباً ومدهشاً.
حين أتعب الفضول عامل كشك التلفون، تجرأ وخرج من كشكه معترضاً طريقي. وبتهذيب مختلط بالخوف سألني قائلاً”
((والنبي يا بيه، ممكن سؤال؟))
قلت له وأنا أداري ضحكتي:
((إتفضل))
((يا بيه بس يعني لو ما فيهاش حاقة، إنت بتشتغل إيه؟))
استعرت من الممثل العظيم (توفيق الدقن) ملامح من الخبث ووضعتها على وجهي، ومنحت نظراتي حدة واضحة. وبصوت عميق يؤكد معني الريبة، قلت له هامساً ((ما بلاش)).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى