اقتصادتقارير

شراء القمح .. أزمة لا يمكن حلها بالمال

 

تقرير – محمد عبدالعزيز

بين الحبس لعدم السداد وبيع مزرعته؛ يواجه المزارع بقسم ود سلفاب بمشروع الجزيرة، محمد الجاك أبشمة، الأمرّين، في واحد من أسوأ المواسم الزراعية التي مرت به، بعد أن بلغت خسائره ما يصل لنحو (200) ألف جنيه، فيما لم تنتج الثلاثة أفدنة التي يمتلكها سوى (7) جوالات زنة (100) كلم.

يقول أبشمة ومزارعون آخرون تحدثت معهم (الديمقراطي)؛ إن الحكومة التي حُرمت من تمويل دولي بمليارات الدولارات بعد الانقلاب العسكري في أكتوبر، لم توف بالتزاماتها تجاه المزارعين، كما لم تتمكن من شراء القمح منهم بالشروط المتفق عليها في وقت سابق هذا العام. وهذا يعني- حسبما قالوا- أنهم لا يملكون المال للإنفاق على زراعة المحصول الجديد.

يأتي ذلك في ظل نقص حاد في الحبوب على مستوى العالم بسبب الصراع الروسي الأوكراني، وارتفعت أسعار القمح بنحو (60%)، فيما لم يبع من إجمالي محصول القمح العالمي البالغ (785) مليون طن سنويًا سوى ربع الكمية فقط، مما أثر على إمدادات القمح للسودان الذي يعتمد على استيراد نحو (70%) من مخزونه من دول البحر الأسود وروسيا- بما يعادل 1.5 مليار دولار في العام- ويبلغ الاستهلاك السنوي حوالى (2.4) مليون طن، بينما لا يتجاوز الإنتاج المحلي الـ (700) ألف طن متري تقريباً، تغطي ما نسبته (30 – 40%) من الاستهلاك.

تعثر الموسم

ولكن هذه النسبة نفسها مهددة بعد تعثر الموسم الزراعي وعدم شراء الحكومة إنتاج المزارعين. يقول أبشمة: “تعثر الموسم الزراعي بسبب الارتفاع الكبير في أسعار مدخلات الإنتاج، وشح الأسمدة المهمة لعملية زيادة إنتاج القمح”، مشيراً إلى تضرر المزارعين كثيراً من السعر التأشيري للقمح الذي تحدده الحكومة مسبقاً لتشجيع المزارعين على زراعة القمح، حيث حدد بـ (43) ألف جنيه لجوال القمح، وبالرغم من ارتضاء المزارعين به غير أن الحكومة فاجأتهم بعدم شراء المحصول، ما جعل المزارعين يضطرون لبيع محصولهم في السوق بواقع أقل من (30) ألف جنيه للجوال.

وأعلنت وزارة المالية في وقت سابق أنها التزمت بشراء ما يصل إلى (300) ألف طن من القمح و(200) ألف طن من الذرة الرفيعة، بقيمة إجمالية تزيد على (300) مليون دولار، وتسعى للحصول على تمويل من البنك المركزي.

يشير عدد من المزارعين إلى أن الحكومة بعد مماحكات طلبت منهم تسليم إنتاج القمح في منطقة جياد أقصى شمال الجزيرة، وهو ما يعني تحملهم تكلفة الترحيل والرسوم والجبايات المفروضة في الطريق.

صعوبات تمويل

تذمر المزارعون من سياسة السلطات الانقلابية تجاه الزراعة، خصوصاً زراعة القمح، لما صاحبها من عثرات تمثلت في: تأخير المدخلات، وانعدام سماد اليوريا، وتحديد سعر تركيزي مجزٍ، إضافة إلى مشاكل الري، وأخيراً مشكلة التسويق التي أثرت كثيراً على المنتجين، ممثلة في إحجام البنك الزراعي عن الشراء بحجة عدم صدور توجيه من الجهات المختصة بفتح باب الشراء من المزارعين.

في وقت عاب مسؤولون تأخير استلام البنك الزراعي للقمح (التكلفة فقط)، دون الرجوع لوزارة المالية أو البنك المركزي حتى يضمن البنك سداد مديونيته، ومن ثم ينتظر توفير سيولة من بنك السودان لاستلام الفائض. واستنكروا تأخير الاستلام بحجة عدم السيولة في ظل عدم وجود مخزون استراتيجي، بجانب أن الحرب على أوكرانيا أثرت كثيراً في حدوث ندرة في القمح.

محافظ مشروع الجزيرة الزراعي، عمر مرزوق، أشار في تصريحات محلية، إلى تنصل الحكومة من الشراء بسبب فشلها في توفير الأموال المطلوبة، وقال إن وزير المالية أكد قائلاً: “ما عندنا قروش للشراء”.

وأشار المحافظ نفسه، في سياق آخر، خلال تدشينه حصاد القمح بقسم التحاميد بمشروع الجزيرة، إلى أن هنالك مساعي بين وزارة المالية وبنك السودان المركزي لتوفير التمويل اللازم للبنك الزراعي لشراء فائض القمح من المنتجين.

ونقلت مصادر صحفية عن البنك الزراعي أنه يواجه صعوبات في تمويل عمليات الشراء، وأن قراراً صدر بشراء القمح التكلفة فقط، فيما تجري المساعي مع المالية لتوفير سيولة لشراء القمح خاصة بعد الزيادة العالمية التي تصل لنحو (40%).

ولا يبدو أن السلطات الانقلابية لديها خيار سواء الصرف على المكشوف لتمويل شراء القمح -طباعة النقد خاصة من فئة 1000 جنيه الجديدة- وهذا بطبيعة الحال سيؤدي لزيادة معدلات السيولة بحجم كبير يتعارض مع برنامج الإصلاح الاقتصادي المراقب من البنك الدولي، ويمثل ردة خطيرة، فضلاً عن آثاره التضخمية.

أدى الانقلاب إلى إيقاف المساعدات الدولية للسودان، حيث أوقف (1,2) مليون طن من القمح منحة من المعونة الأمريكية، وهي كمية كافية لسد نقص احتياجات البلاد من القمح لمدة أربعة أعوام، ومجاناً. كما أوقف (500) مليون دولار من البنك الدولي لدعم الفقراء عبر برنامج ثمرات، ومليار دولار منحة من الحكومة الأمريكية أجازها الكونغرس، و(2) مليار دولار دعم إضافي من صندوق النقد والبنك الدولي. و(2) مليار دولار استثمارات من بنك Exim كان من المفترض أن تصل إلى (8) مليار دولار.

وبدلاً عن التوقف عن الصرف المنتج ومراجعة أولويات الإنفاق تتجه الحكومة للطباعة لشراء القمح وسداد مستلزمات أخرى، وهو ما ينذر بقفزة في مستويات التضخم. أعاد الانقلاب تخصيص موارد البلاد لصالح الأجهزة الأمنية، خصماً على التنمية والخدمات، وكمثال فقد خصصت الميزانية الجديدة (102) مليار جنيه لقوات الدعم السريع، و(163) مليار جنيه للقطاع السيادي، في حين خصصت للأدوية المنقذة للحياة (83) مليار جنيه، ولمؤسسات التعليم العالي (37) مليار جنيه، ولتحويلات تنمية الولايات (102) مليار جنيه، ولدعم الأسر الفقيرة (15) مليار جنيه. وتعاني الموازنة عجزاً يصل إلى (374) مليار جنيه، رغم أنها أثقلت كاهل المواطنين بمزيد من زيادات الضرائب التي وصلت إلى (145%) منها (81%) ضرائب على المستهلك.

نقص الغذاء

في العام الماضي؛ لم يتمكن البنك الزراعي، والذي ظل يدعم الزراع طويلاً ويشتري منهم القمح لتعزيز المخزون الاستراتيجي، لم يتمكن من توفير الأسمدة والبذور، نظراً لارتفاع الأسعار – حسبما قال مزارعون.

وأكد أبشمة لـ (الديمقراطي) أن البنك الزراعي رفض إنتاجه من المحصول رغم شح المخزون الاستراتيجي مع توقف الوارد من أوكرانيا بسبب الحرب، وذلك بحجة عدم تلقي البنك توجيهات حكومية للشراء، مؤكداً أن الإحجام عن الشراء يؤدي إلى خسائر كبيرة للمنتجين، لافتاً إلى أنه اضطر لبيع محصوله بأسعار زهيدة في السوق لا تتجاوز (30) ألف للجوال لتدبير شؤون معيشته.

وأشار أبشمة إلى أنهم قاموا بتحريك إجراءات قانونية للمطالبة بالتعويض ضد البنك الزراعي بعد فشله المركب في توفير مدخلات الإنتاج، وهو ما تسبب في ارتفاع التكلفة، وفشله في توفير المال لشراء القمح، إضافة إلى فشله في تعويض المزارع الخسارة التي حدثت في الموسم.

يقول المحامي عادل عباس لـ (الديمقراطي) إنهم شرعوا منذ 20 أبريل في مقاضاة البنك الزراعي وإدارة مشروع الجزيرة للمطالبة بالتعويض عن الأضرار التى تكبدها أكثر من (400) من موكليه من المزارعين في تحضير الأرض وعدم توفير السماد واليوريا والداب في المواقيت المحددة لزراعة القمح، الأمر الذي ترتب عليه فشل الموسم الزراعى للمزارعين، وفوات كسب بسبب الفشل في توفير المدخلات الزراعية في المواقيت المحددة لذلك.

أضاف: “مقاضاة جهات حكومية يستلزم الحصول على إذن من وزارة العدل، أو مرور شهرين على الإخطار في حال عدم رد وزارة العدل، وهو ما قارب على الاكتمال بحلول 20 من يونيو الجاري”.

في السياق؛ يقول الناطق باسم تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل، زين العابدين عبدالله محمد الأمين، لـ (الديمقراطي)، إن الموسم الزراعي بدأ متعثراً سواء على مستوى تحضير الأرض أو رفع الدعم عن الجازولين، وعدم توفير كل مدخلات الإنتاج خاصة فيما يلي سماد اليوريا، مما تسبب في ضعف الإنتاجية، وهو ما دفعهم لمقاضاة البنك الزراعي وإدارة المشروع حتى لا يدخل المزارعون السجون، داعياً بقية مزارعي المشروع للانضمام للدعوة القانونية لأن التعويض لا يشمل إلا ممثلي الدعوى.

ويضيف الناطق باسم تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل؛ أن الأزمة تفاقمت عند الحصاد بعد تحديد سعر (43) ألف جنيه للجوال، بينما لم تلتزم باستلام المحصول، مما جعل المزارع ضحية لجشع التجار الذين اشتروا الجوال بسعر (27) ألف جنيه، ويردف الأمين: “المزارع بات عاجزاً عن الدخول في الموسم الزراعي الجديد، ولا يمتلك القدرة على تحضير الأرض، مما جعل المساحات التي تم تحضيرها حتى الآن لا يتجاوز 10% من مساحة المشروع التي تصل لنحو 800 ألف فدان”.

أبشمة بدوره يقول: “الآن حالة الإحباط تسيطر على المزارعين، وهنالك مزارعون أكدوا عدم زراعة القمح والقطن في المواسم القادمة، بسبب تعرضهم للخسارة”، موضحاً أن الموقف ينذر بخطر بسبب ممارسة الدولة، وأضاف: “الآن مقدمون على عروة صيفية، وبسبب القمح سوف يحدث إحجام عن الزراعة في كل المحاصيل، الأمر ينذر بكارثة قد تؤدي إلى مجاعة”.

ارتفعت تكلفة الوقود على المزارعين بأكثر من (6500%) في عام 2021 بالمقارنة بالعام السابق وفقاً لتقرير منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة (فاو) المنشور في مارس، وارتفعت أسعار الأسمدة التي عادة ما تتوفر بموجب اتفاق شراء القمح، بنسبة بلغت (800%) مما دفع المزارعين للتقليل من استخدامها.

وأشار التقرير كذلك إلى عدم انتظام الأمطار وانتشار الآفات الزراعية والصراعات والمسائل المتعلقة بالري، ضمن أسباب انخفاض إنتاج المحاصيل الثلاثة الرئيسية في السودان، وهي القمح والذرة الرفيعة والدخن، بأكثر من (35%) هذا العام.

يتوقع برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة أن يتضاعف عدد الذين يواجهون أزمات أو مستويات حرجة من الجوع- وهي المراحل السابقة على المجاعة- هذا العام في السودان ليبلغ (18) مليوناً من سكان البلد البالغ عددهم (46) مليون نسمة.

وحتى مع ارتفاع أسعار القمح العالمية تظهر بيانات البنك المركزي أن السودان استورد (818) ألف طن في الفترة من يناير إلى مارس، أي ثلاثة أمثال ما استورده في الفترة نفسها من 2021.

وقال ممثل الفاو،، بابا قانا أحمدو، إن محصول القمح المحلي لا يمثل سوى نسبة ضئيلة من الاستهلاك، ومع ذلك فإن الدعم الحكومي لزرّاع القمح يشكل دعامة ضرورية، وإن لم تكن مستدامة للنشاط الزراعي. وأضاف: “بدونه سيخرج الوضع عن السيطرة”.

في السياق يقول أبشمة إن الانقلاب أعاد عناصر النظام السابق التي مضت في ذات سياسات إفقار المزارعين، بعد استيلائها على أصول المشروع وتحكمها في مدخلات الإنتاج بهدف تهجير المزارعين عبر سياسات ممنهجة لبيع المشروع لشركات خاصة.

الخبير الاقتصادي، د. التجاني الطيب إبراهيم، يقول لـ (الديمقراطي): “أزمة تمويل وشراء القمح ترجع في الأساس للسياسات المدمرة التي انتهجتها الإنقاذ”.

ويضيف الخبير الاقتصادي أن البنك الزراعي لا يمتلك السيولة الكافية لشراء القمح المنتج محلياً إلا عبر المالية أو جهة أخرى، لافتاً إلى أن تكلفة إنتاج القمح أكبر من المستورد، مضيفاً: “تبلغ تكلفة الطن المتري من القمح المنتج محليا نحو 760 دولار مقابل 417 دولار للمستورد حتى في ظل الأزمة الحالية”.

ويرى التجاني الطيب أن زراعة القمح لا تحمل مزايا نسبية، وأن الأفضل زراعة المحصول التاريخي للسودان (القطن) واستيراد القمح والاستفادة من فارق السعر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى