سرد../ موريس مينور
الحسن محمد سعيد
عندما دخل بيت صديقه اليمني في منطقة بيت بوس بصنعاء، لم يهزه ذلك البيت الجميل في شكل فيلا باهرة البنيان، ولم يثر إعجابه. ذلك الحجر الأخضر الزاهي الذي شُيِّدت به، ولم يلفت نظره ذلك التصميم الذي جمع بين المعمار اليمني المتميز بشكله وقمرياته، والمعمار الأوروبي الذي يمثل روح العصر وحضارته.. ولم يحركه ذلك الأثاث الفاخر الذي هو مزيج بين بذخ الشرق وترف الغرب.. وإنما الذي شدَّ انتباهه من بين كل ذلك الأبهة الجليلة سيارة (موريس مينور) قديمة مركونة بعناية في فناء الحوش الفخم، تحيط بها حديقة ذات مهرجان من الزهور وأشجار الموالح والموز، كأنها عروس اكتملت زينتها وحُسن طلَّتها.
توقف مأخوذاً من ذلك الذي يشاهده، جاءت دهشته من وجود هذه السيارة القديمة التي لا وجود لها الآن.. فقد عرفها جيداً في يوم ما من عمره، عايشها وعايشته زمناً في السودان، للدرجة التي أصبحت فيها جزءاً أصيلاً من أيامه التي خلت. ومع ذلك فهي تاريخ حيّ التذكار، نبيل السيرة، دائم المزار، حينما تزداد وطأة الحياة وشدَّتها، وهي كثيرة.. ذلك أولاً. أما ثانياً، فإن اندهاشه ينبع من العناية الفائقة التي أحيطت بها هذه السيارة العتيقة، التي يظهر عليها جلياً أن الزمن لم ينل منها شيئاً، فأضحت كما هي فتيَّة تتحدى الأيام وكرورها الذي يقود إلى النهاية والعدم.
قال وقد أصبحت كل تفكيره:
– من أين لك هذه السيارة؟
استغرب الصديق من سؤال صديقه، الذي لم يلفت نظره في هذه الفيلا الباذخة، وتلك المناداة التي تعجُّ بها تلك الأبهة، وهاتيك الروعة التي تدير عنق كل غافل مهما كانت غفلته، وكل تلك الاحتفالات والكرنفالات المضيئة، إلا هذه السيارة العتيقة، فسأله مستنكراً:
– من هذا القصر المنيف، لم يلفت نظرك شيء إلا هذه السيارة القديمة؟
قديمة، نعم. وهذا سرُّ تفرُّدها.. قديمة، نعم. وهذه هي عظمتها التي لا يدركها إلا من عجنته الأيام معها، كحاله.. قديمة، نعم. وهذه هي الأصالة التي لا يعيها إلا من عركه الزمان مثله.. قال جاداً:
– هذه هي التاريخ.. والشيء لا يصبح تاريخاً إلا إذا كان ماضياً.. والماضي لا يمسي كذلك إلا إذا كان قديماً.. وقديمنا أصبح أجمل ما فينا.
تعجَّب الصديق من تعليق صديقه.. ألهذا الحد تمثل عنده عربة (موريس مينور) أمراً له قيمة.. يجلُّها، كأنما يتعبَّد فيها؟! هو لا ينكر قيمتها بالنسبة له، ولكنها ليست إلى هذه الدرجة في الحفاوة.. هي تمثل بالنسبة له شيئاً، نعم. ولكن مهما كان ذلك الشيء فإنه لا يقارن مع قصره المنيف، وهو لا يقبل أن يكون هناك تجاهل له تحت أي وبأي مسمَّى، حتى وإن كان ذلك التاريخ نفسه.. قال:
– أنا أمتلك هذه السيارة من عدن، ورثتها عن أبي.. كان والدي يراعيها كما يراعينا.. وظلت على حالها التي كانت عليها منذ أن اشتراها، ولا زالت.. عندما قنعت من نصيبي، لم أهتم بأمرهاد بل أخذتها على مضض، لأن نصيبي في القسمة جاء هكذا.. وليس من حقي أن أعترض.. أهملتها في انتظار مشترٍ لها.. وقد لا تصدِّق، من يوم دخولها بيتي ورزق الله هلَّ علينا بلا حساب.. لاحظت زوجتي ذلك، ولفتت نظري إلى هذه الظاهرة.. ظاهرة وفرة الرزق بقدوم (المورس)، بيد أني تجاهلت هذه الملاحظة، واعتبرتها خرافة من زوجتي. فأهملت قولها.. لكنها كانت – ويا للغربة – تُصر على معتقدها، فتكرر ملاحظتها في كل مناسبة يأتينا فيه الرِّزق الوفير.
وحين بدأت في بناء هذه الفيلا، كان إيماني بخرافة معتقد زوجتي لا يزال في مكانه.. كنت متهيِّباً من البناء وتكلفته، ولكن حدث ما يذهل.. رفضت زوجتي بيع (المورس).. وكنت أريد أن أبيعها بأي ثمن لأستعين به على البناء خاصة وقد كثر طلابها فجأة. هدَّدت زوجتي بترك المنزل إن أتممت البيع، كنت أنسى خرافة زوجتي بسر (المورس) الذي جلب لنا الرِّزق الوفير وسهَّل أمورنا، لكنها كانت بين الفينة والأخرى تعيد عليَّ حديثها، ونحن نرى الفيلا تكبر أمام أعيننا، وأمر الإنفاق عليها يسهل عندي إلى أبعد الحدود.. بدأ عنادي بخرافتها يُوهن شيئاً فشيئاً، وأخذت أسترجع الأيام، من اللحظة التي امتلكت فيها (المورس)، فرأيت شيئاً عجباً.. وتأكد لي ذلك الظن عند بناء الفيلا، وتيسير أمر تشييدها.. فآمنت كما آمنت زوجتي إنه سر لا يُقدِّره ولا يؤمن به إلا من عايشه ويعايشه مثلنا.
– لكن التفاؤل بهذه السيارة العتيقة شيء، وروعة هذا القصر المنيف شيء آخر، وكان المفروض هو الذي يدير عنقك.
– لم يعقِّب الصديق.. وإنما غاب في ملكوت باطني آخر..
من قال لك إنه لم يعايشه؟! لقد عايشه، ولكنه كان سرَّاً من نوع آخر لا يعلمه إلا الصابرون هناك في أرض الجزيرة في السودان، وعند ملتقى النيلين.
كانت هناك عربة (موريس مينور) أخرى شبيهة من حيث الشكل بعربتك، اشتراها ذات يوم ماطر من مزاد علني، أعلن عنه مشروع الجزيرة، كان مزاداً متنوعاً، لا يجود الزمان بمثله في هذه الأيام.. عربات، تراكترات، مواتر، مضخات، وأكوام من قطع الغيار لآلات مختلفة.
في هذه اللحظة تجسَّد أمامه كل ماضيه مع (المورس).. في المزاد العلني، تحسَّس نقوده القليلة، وهو يرى فطاحلة الأسواق يدخلون ساحة المزاد بجلاليبهم الفضفاضة، وجيوبهم المنتفخة.. من يا تُرى يقارع هؤلاء صيادي الفرص الريانة المترهلة؟! لقد جاء إلى عوالمهم بالخطأ، تطفل عليهم، وأبخس مضارباتهم..
يئس من مسعاه، وأقنع نفسه أن يتفرَّج على هؤلاء القوم، كيف يديرون شؤون أعمالهم.. وجد متعة في الفرجة دون شك وهو يرى العروض تتصارع فيما بينهم.. تتلاقى وتنفصل بتعارض، ترغى أفواه وتضحك ثغور، تكتئب ملامح وتنشرح أخرى، ويجتهد ناظر المزاد لزيادة الحصيلة.
هو الوحيد بين هؤلاء القوم الذي لا تعنيه حاجة مما يدور حوله غير الفرحة والتمتُّع بانكسار الخاسرين.. دنيا يراها لأول مرة. عندما قارب المزاد نهايته بقيت سيارة (موريس مينور) بيضاء تبدو وحيدة دون أشياء المزاد التي تسابق عليها المتسابقون.. أيعقل أن يغفل هؤلاء التماسيح عنها، وعن هذا البهاء؟!.. فلتقرأ سورة يس، لعل الله يعمي بصرهم وأبصارهم عنها، أي تدخُّل من أحد التماسيح أضاعه هو وآماله في صحارى الفقر وضعف الإمكانيات ووهن الاستطاعة..
أعلن ناظر المزاد عن (موريس مينور).. فأخذ صوته يجوب الآفاق:
– عربية بحالة جيدة.. عملت في مشروع الجزيرة، مع مفتش التنمية الاجتماعيَّة.. عمرها لا يتجاوز الخمس سنوات.. صُنعت خصيصاً للسودان وأرضه، وطقسه، وأهله.
بدأ المزاد بمائة جنيه، انتظر أن يشب تمساح عن مكمنه ويبتلعها، ولكن الله ستر.. أضحت (المورس) تغازل دواخله: يا رب، هل أتجاسر، أعلن أنني هنا؟! هل يجدي وجود من هو مهزوم من الدَّاخل؟!.. أين أنا من هؤلاء التماسيح؟! فأنا أخاف الغرق حتى في ماء البانيو. وهؤلاء يتحدون النيل بل ربما يشربونه. سكون في المكان إلا من صياح الناظر، مرَّت اللحظة تلو الأخرى، ولا يعرف المزاد قلباً يتقاذف في هذا الحفل غير قلبه.. إنه يكاد يخرج من قفص صدره، هل سترجع هذه المسكينة كامرأة بائرة؟! لا وربّ العزَّة، لن تعودي كسيرة الفؤاد.
قال وصوته لا يكاد يخرج من حلقه:
– مائة وواحد.
صهل ناظر المزاد معلناً العرض:
– مائة وواحد.
لقد تحرَّك المزاد بعد صمت، شرع الناظر ينادي مناداته المألوفة.. أكثر ترديده لعل الحصيلة تزداد بضع جنيهات. خاب ظنه، فأمسى مضطراً لإنهاء المزاد لصالحه دون مزايدة.. ويا للعجب!! لقد أصبحت (موريس مينور) ملكه، لعلها أول مِلكيَّة في حياته.