ثقافة ومنوعات

سرديات../ “السلالة الزرقاء” .. النور أحمد علي

المرأة الزرقاء التي نصبت فخاخها الزرق بإحكام على شفاه المطر، وعند أقدام السفوح الرطبة، وعلى أكف العشب، وأجنحة العصافير، حيث مخارج الكلام الفصيح؛ وهي تفعل ذلك، كانت تتجول بأريحية داخل متاهة دماغها المركب بإحكام على نموذج أقدم دماغ للسلالة الزرقاء.

وعند ظل شجرة زرقاء، استراحت السيدة الزرقاء، أخرجت خارطة يعتقد أن عمرها مئات السلالات الزرقاء، ويعتقد أنها تُفَصل مسيرة الرجل الأزرق جد السلالة الزرقاء، وترسم مسلك السلالة كلها التي قادها خلالها الرجل الأزرق.

حدث ذلك في الزمن الأزرق

تفصيل الحكاية:

إنه وذات حلم أزرق، قاد الرجل الأزرق أسلاف السلالة وضرب في الصحراء، يلاحق طيف المرأة الزرقاء التي يحب.

يشاع أن هذه الحكاية منتحلة عن تاريخ منتحل للسلالة كلها، ذكر كل هذه التفاصيل الصديق هاشم الجحدلي ذات شعر. الأزرق الذي يعشقه الصديق الجحدلي بصورة سافرة، ويدافع عن عشقه هذا، شعراً بلا ضفاف/ حتى وهو يكتب شعراً لوجه الشعر، يتسلل الأزرق إلى ما يكتب، فيمنح المكتوب ألقاً وطمأنينة.

إن للأزرق مجازات زرقاء آسرة، وللأزرق غوايات متعبة، ففي عام العصافير يحكي: “خرجت أفواج العصافير من كل السلالات العصفورية في تظاهرة زرقاء، فصبغت ريشها وزقزقاتها وحكاياتها المرحة والبليغة بكل سلالات الأزرق، وأطلقت كل تلك الزرقة في الفضاء، وإثر ذلك سرت أسطورة تقول: إن السماء انتحلت تلك الزرقة شعاراً بصرياً لها، واحتكرت الزرقة لنفسها. ولاحقاً، أسرّت الكائنات التكنولوجية الموكلة بكشف أسرار البشر والتلصص عليهم؛ أن الفضاء الممتد من الأرض حتى المطلق يحتله غناء العصافير وحكاياتها الزرقاء.

الأزرق سهل وأنيق وفصيح، مرّة مشى على يبس، فرطب، وتجول على قحط، فأمرع. والأزرق فصيح، إذا صادف أخرساً تكلم. إن للأزرق الكثير من الكرامات.

وللأزرق حكايات يدخرها كلها لليوم الأزرق/المرأة الزرقاء، والتي خرجت تنصب فخاخها لقنص الرجل الأزرق، تعرف كل ذلك عن الأزرق، وتعرف ما لا نعرف عنه وأكثر، وتعتبر أن كل معرفة عن الأزرق تقع ضمن أسرار السلالة الزرقاء. وتعرف أكثر أن قنصها يقع ضمن المهام التوثيقية لتاريخ تلك السلالة، ومن ضمنها رجلها الأزرق. وهنا تكمن أهمية قنصها، لذلك هي تجد، وكلما أبصرت نقطة لون أزرق، تقصت كامل تاريخها وتتبعت نسبها وكل هفواتها وكل مغامراتها المريبة، وعلى جهة التخصيص علاقاتها باللون الأزرق والأحمر، وتخضع كل تقصياتها لمهنية توثيقية صارمة.

الزرقاء تفهرس أحلامها وتصنيفاتها، في مكانها الصحيح من القاموس الأزرق، وتمضي متجاهلة سلالات الألوان الاخرى.

الزرقاء تعدُّ نفسها جيداً، بكل وسائط البحث والتقصي. ومن الوسائط التي تحت يدها، الرقاع التي حصلت عليها من أرشيف أزرق الغيدابي، وقد ورد ذكره في كتاب «كائنات أم بيبي الجغرافية» وهو رجل لا يقرأ إلا نادراً، ولا يكتب. وهو من أهل الهامش التاريخي، وهو وجنسه أو من يموتون في الحروب، وأول من يغفلهم كتاب التاريخ، وكذلك هم أول من تهملهم ذاكرة الجغرافيا.

في تلك المذكرات السماعية والمدونة في لغة الزرق، لم تجد الزرقاء ما يمكن أن يسهل مهمتها. فقد تميزت تلك الوسائط بضعف الأسانيد، مما يجعل اعتمادها مغامرة توثيقية.

فقط رقعة جلد الغزال التي وجدت فيها ما يفيد: «حدث ذلك ذات دهم، كان الأسى مكتمل الهيئة، وكنت أقلب بصري في سماء ماكرة وشحيحة، بحثاً عن خاطر يرشدني، أنا التائه في أميتي الزرقاء.

وقتها كان دمي مبحوحاً وظلي أعرج، وكنت أعرف أن دمي المبحوح هو دليلها إليَّ، أو إلى قمرها الهارب».

ولكنها دربت حذراً ماهراً حتى تتفادى مكر التيه، وهو كثير ومبثوب في مسارب الصحراء. طوت الرقعة بغضب لجمته حتى لا يفسد عليها برامج بحثها اللحوح آثار الرجل الأزرق، والذي يضمر إنقاذ السلالة الزرقاء من الغياب. لكنني واصلت نزقي لاختبار صلابة حذرها، وهذه مكيدة لضمان نجاح خططها. فالدم الأزرق يهمني كما يهمها تماماً.

لذلك أوحيت إلى ذاكرتها الزرقاء نصاً قد يشكل مؤشراً إيجابياً لبحثها: «ذات صيف نزق لا يعرف التسامح، أجتاح تلك الأنحاء التي تساكنت فيها السلالة الزرقاء والمجهول مشارف مضارب عربية، في تلك الصحراء الماكرة والممتدة من هناك إلى هناك، مسكونة بالغدر والجحود وثقافة المغانم. لكن السلالة الزرقاء كانت تحافظ على مسافة نقدية مناسبة تجنبها المساس بزرقتها، وتجنب تاريخ السلالة من التشويه كالذي يحدث للتاريخ العربي. وتجنب أيضاً ما يمكن أن يصعد فجأة ودون مقدمات الرأس العربي والذي تمرس طويلاً على التعالي وازدراء الآخر». تركت كل هذه الاحتمالات في طريق المرأة الزرقاء، التي تلاحق بفخاخها سيرة الرجل الأزرق، لتنقذ ما يمكن أن ينقذ من تاريخ ومستقبل السلالة الزرقاء.

وفجأة، من وراء التاريخ، صعد صوت أزرق واسع: «الجراد أيها الزرق، الجراد الهاطل من السماء، والنابت من الأرض، والمتدفق من كل الأنحاء. وباء الجراد يعم فاحتموا بزرقتكم». بلغ الصوت مسامع الزرقاء، وعرفت أن أسراب الجراد شوهت زرقة سماء العصافير. ثم انكفأت داخل رقعة الغزال، علَّ فيها ما لم تلحظه، أو ما انزلق من تحت عينيها، علّ عتمة أفكارها تنقشع لترى ما يمكن أن يفشي السرّ الأزرق؛ سرّ السلالة الزرقاء. فتوكأت على ما تضمنته تلك الرقعة، ودخلت سرداب الصوت الأزرق القادم من وراء التاريخ.

وبعد رحلة، استطالت داخل سراديب ذلك الصوت، لا يعرف مداها إلا هي. قادها خاطر ملطخ بموتى الجراد وأشواقها، وعتمة غبار الشمس، والخطوات الزرقاء لسلالتها. قادها كل ذلك إلى «مغارة الماء» مغارة لا يعرف سرها إلا كبير الأزارقة.

مشت الزرقاء وراء خاطرها ذلك حتى بلغت الماء، ومشت على الماء شأن كلِّ سلالتها، حتى بلغت «مغارة الماء»، وهنا أنقطع أثرها، وأنهى أكثر السعي جدية في تاريخ تلك السلالة إلا من صوت أزرق، يشق السماء في يوم معين من العام، ويقال إن في ذلك اليوم يتطابق لون السماء مع لون السلالة الزرقاء.

يقول الإخباريون إن من يقيض له أن يسمع ذلك الصوت، سيعرف كل تاريخ تلك السلالة وموقعها من فساحة ذلك الكون، وما انقطع من أخبارها من الرمل إلى البحر. تقول أغلب الرقاع، والتي لا يُعرف مصدرها، أو مصداقيتها، إن رحلة الأزارقة المدثرة بالأسى والغبار وأسواط الجراد، وألوية الأميات المزمنة، بدأت في عماء، وانتهت إلى عماء.

صوت الأزرق الكبير جمعهم، وقادهم عبر التيه حتى مداخل العماء، مباشرة إلى المجهول، قادهم بحنكة راع مسؤول عبر رهق قاسٍ في غياب الاتجاهات والأنحاء. تحتهم رمل وفوقهم غبار، وما تبقى شغلته أسراب الجراد.

مشوا في العدم، وهم لا يعرفون من تاه ومن مات، ومن ابتلعه المجهول. كما ضاع مني أثر المرأة الزرقاء التي كانت تنصب فخاخها لاصطياد أثر الرجل الأزرق، ولاصطياد تاريخ السلالة الزرقاء. ضاع أثرها مني أثناء إنجاز هذه الكتابة، لكني أعدكم أن أعود للنبش لإنقاذ المغامرة الزرقاء.

أوراق من مذكرات أرزق المجهولة

أرتكب أزرق أول شمولية لونية في العصر الأزرق، إذ اعتبر أن كل ألوان الطيف ما عداه هوامش لا يعتد بها، لذلك أحالها كلها إلى متحف تاريخ الألوان، وعمد نفسه عمدة.

في العصر الأزرق، كانت الأحلام زرقاء، وتزرع في حقول واسعة على وجه القمر. وكانت الأحلام تأتي على الرغبات، فمن رغب في حلم عليه أن يمشي إليه على الماء ويختار ما يرغب فيه من حلم، ويصطحبه معه في طريقه إلى النوم.

كانت الأحلام مصنفة على درجات الأزرق المطلقة المدى، ولكن لا أحد يعرف بالتحديد قاموس تلك الأحلام إلا المفسرون المعتمدون من قبل كبير الأزارقة. وعليه، فإن اختيار الحلم يعتمد على الحدس، وعلى ما تراكم من خبرات الحالمين.

في العصر الأزرق، كان الكلام أزرقاً وعذباً. في العصور الزرقاء، كان الرسم أزرقاً، وتسر حكاية يتناقلها ما تبقى من السلالة الزرقاء مجهولو الموطن على وجه الضيقة، مفادها: أن السيد بيكاسو انتحل مرحلته الزرقاء، مما وقع في يده بطريق المصادفة، من أعمال الرسامين الزرق.

ويشاع أيضاً أنه عثر، عن طريق تلك الصدفة أيضاً، على نسخة نادرة من كتاب تفسير الأحلام الزرقاء. لكن السيد بيكاسو ضن بها على البشرية. ويشاع أيضاً أنه كان ينوي التخصص في تفسير الأحلام الزرقاء، وكان سيكون الأول والأخير، لو امتدت به الأيام.

في العصور الزرقاء، كانت كل الأوبئة زرقاء، مدرجة على المقياس الأزرق لتصنيف درجات تلك الأمراض، وكانت تلك التدرجات لا يبوح بشفراتها إلا من تدرب على فك تلك الشفرات: الأطباء الزرق.

الموسيقى في تلك الأزمنة كانت زرقاء، وكانت نوتاتها تشاد على الوحدات الصوتية لأصوات العصافير الزرقاء.

الصداقات في تلك الأزمنة كانت زرقاء، وكانت على درجة معلومة من تدرجات أقاصي الأزرق، فإذا مسها فساد لحق ذلك الفساد درجات لونها، وترحلت إلى مستوى آخر من مستويات الأزرق، ويدرك الأصدقاء ذلك الفساد دون الاستعانة بالكلام الأزرق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى