ثقافة ومنوعات

سرديات…/ الزاكي عبدالحميد أحمد

(يتصدَّى الجندي البريطاني لأي شيءٍ أمامه، وبجسارة، إلا القرارات الصادرة له عن وزارة الدفاع البريطانية)..

The British soldier can stand up to anything except the British War Office..

هذا المسرحي الآيرلندي جورج برنارد شو، في إحدى مقالاته الساخرة التي كان ينتقد فيها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، بسبب سياساتها التوسعية…

ولعل الاقتباس يحمل، فيما يحمل، في ثناياه مغازٍ، من الأبيات التي هجا بها عمران بن حطان، الحجاج بن يوسف الثقفي:

أسدٌ عليّ وفي الحروب نعامة

ربداءُ تجفلُ من صفير الصافر

هلا برزتَ إلى غزالة في الوغى

أم كان قلبُك في جناحي طائر…

وغزالة التي عناها الشاعر هي زوجة شبيب الخارجي الذي قتله الحجاج، وكانت امرأة شجاعة تقود الفرسان في ساحات الوغى..

أقسمت غزالة بعد مقتل زوجها، أنها ستصلي في الكوفة، وبراً بقسمها، هاجمت الكوفة ثم دخلتها فهرب الحجاج، فكان الهجاء..

” إذا كانت الإمبراطورية البريطانية تريد أن تحكم العالم كما فعلت في دنشواي، فلن يكون على وجه الأرض واجب سياسي مقدس، وأكثر إلحاحاً، من تقويض هذه الإمبراطورية، وقمعها وإلحاق الهزيمة بها…”.

بهذه الكلمات القوية شجب الروائي والمسرحي والناشط السياسي الآيرلندي الشهير، جورج برنارد شو، ما ارتكبته الحكومة البريطانية من مجزرة بشرية في قرية دنشواي المصرية عام ١٩٠٦، وذلك في مقال دبجه بعنوان The Denshawai Horror  فأغضب الحكومة البريطانية واستاء منه الشارع البريطاني.

دنشواي… قرية صغيرة في محافظة المنوفية المصرية..

كانت هي الشعلة التي عجلت بسقوط حكومة المستعمر كرومر في مصر.

دنشواي هي القرية المصرية الوحيدة التي ذكرها عبدالناصر في الكلمة التي ألقاها بمناسبة تأميم قناة السويس، مدافعاً عن إنسانها البسيط الذي حصدته آلة المستعمر العنجهي البغيض.

ودنشواي هي ذاتها التي جعلت الدكتور طه حسين يُعلي من شأن شاعر النيل حافظ إبراهيم على أمير الشعراء أحمد شوقي، واصفاً الأخير بالمستغرق في نعيم الخديوي والذي لا يحس بما يحس به الشعب.. كان ذلك رداً على قصيدة شوقي عن دنشواي والتي يقول فيها:

يا دنشواي على رباك سلام…

دنشواي، لا عن تاريخها أحكي، ولا عن مجزرتها البشرية الفظيعة، وإنما أشير من ذكرها إلى طفلة فقيرة، وُلدتْ وترعرعتْ فيها، وشهدتْ المجزرة، وقررت الانتقام من المستعمر، على طريقتها كامرأة، حتى صارت أيقونة للحركة الوطنية المصرية.. اسمها فاطمة، وعرفها التاريخ بلقب أم صابر..

وقف الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر منتصباً وهو يصفق بحرارة، معرباً عن إعجابه بالفنان الكبير عبدالكريم الكابلي، حين ردد بصوته الباذخ البهاء:

مصر يا أم جمال أم صابر..

ضمن أنشودة آسيا وأفريقيا رائعة تاج السر الحسن، أعجب الراحل ناصر بالربط بين اسمه واسم تلك السيدة المناضلة: أم صابر.. ابنة دنشواي.

كان هذا المشهد في المسرح القومي ضمن فقرات من حفل أقامته حكومة عبود على شرف الرئيس المصري، أثناء زيارته للخرطوم بدعوة من الرئيس عبود في مطلع ستينيات القرن الماضي..

والأنشودة ذاتها بهرت ايضاً صحافياً سورياً شاركته السكن (وكان السكن مرْكِباً داخل بحيرة اسمها Nagin Lake بنيت عليه الغرف والصالات للاستئجار)، أثناء عطلة قضيتها وأسرتي في كشمير الهندية في مطلع تسعينيات القرن الماضي..

الصحافي السوري، واسمه يوسف، يعمل في وكالة الأنباء السورية (سانا)، كان يقضي عطلة في كشمير مع زوجته وطفليه.. تعارفنا ونشأت بيننا أُلفة.

سمع ذات ليلة في صالة مسكني داخل تلك البحيرة الكابلي وهو يشدو برائعة تاج السر من مسجل صغير، كان لا يفارقني. أعجبته الأنشودة فأدمن سماعها.. كانت عيناه تدمعان حين يردد الكابلي مقطع:

يا دمشق

يا دمشق كلنا في الفجر

والآمال شرق..

انتهت العطلة، فعاد هو وأسرته إلى دمشق، وعدت أنا بعده بأيام إلى مسقط..

لم تنقطع الرسائل بيننا، فدعاني وأسرتي لزيارة دمشق. قبلت الدعوة لأنني كنت أمنّي نفسي بزيارة هذه المدينة العربية العريقة لأقف على آثارها وأشاهد أطلال حكم الغساسنة في تدمر، على خلفية الصورة التي تشكلت في ذهني من أيام الصبا من روايات جورجي زيدان عن حكم الغساسنة في سوريا – فتاة غسان – فلبيتُ الدعوةَ وزرتُها في عهد حافظ الأسد..

سكنت بتوصية من صديقي السوري في حي يقع في وسط دمشق اسمه حي البرامكة..

لم أجد تفسيراً لتسمية الحي بالبرامكة رغم ما شاهدته من وجود إيراني لافت في الحي..

كانت للبرامكة (ويعود أصلهم لبرمك المجوسي، وهم فرس) مكانة عالية في الدولة العباسية، إذ كان يحيى بن خالد البرمكي مسؤولاً عن تربية هارون الرشيد الذي أرضعته زوجة يحيى البرمكي، وكان ابنه الفضل بن يحيى بن خالد البرمكي أخاً لهارون الرشيد من الرضاعة..

ثم قلب الخليفة هارون الرشيد ظهر المجن للبرامكة بعد أن مكنوه من تثبيت حكمه فيما عرف في التاريخ بنكْبَة البرامكة، فنكّل بهم وهربوا إلى دمشق واستقروا بها ودفنوا هناك في مقبرة كبيرة في هذا الحي، لذلك سمي بحي البرامكة..

مجالس شاي البرامكة

أما مجالس البرامكة السودانية فلا علاقة لها بالبرامكة العباسيين، وإن كان بعض الناس يرجعون مجالس البرامكة السودانية للعصر العباسي، في إشارة لإمكانية الربط بين مجالس البرامكة السودانية والبرامكة العباسيين، إلا أن ذلك لا يعدو أن يكون اجتهاداً شخصياً قد يوجد له ما يبرره من تأثير الحضارة الإسلامية العربية في السودان، لا سيما في كردفان..

ويقول الرواة إن مجالس البرامكة بدأت أول الأمر في قبيلة الهبانية حول قرية شركيلة في مطلع عام ١٩١٤، ثم انتشرت لاحقاً بعد أن جذبت بظرفها قبائل الكواهلة والحمر والحوازمة والمسيرية أو قل البقارة بكل بطونها. وقد جمع البرامكة في هذه المجالس حبهم للشاي، فتغنوا به وصاغوا فيه من الشعر الشعبي الكثير ما يدل على افتتانهم به.. وقد عرف أعضاء هذه المجالس بين أفراد القبيلة من غير الأعضاء بظرفهم وكرمهم ومروءتهم، وعرفوا من ناحية المظهر بتمسكهم بالنظافة في ملابسهم وأدواتهم حتى قالت عنهم الشاعرة (الحكامة) تمتدحهم:

الحريف صوبن وظهّر

وفي حريره اتحكّر

حامد التمساح العشاري

محمد (كفتيرته) في (النار) وبراده معدل

الحريف هو الاسم الذي عرف به البرامكة فيما بينهم ويجمعونها على حرفاء.. والشاعرة (الحكامة) تصفهم بأنهم يعتنون بنظافة ثيابهم بالصابون (صوبن) ويضفون عليها لوناً جميلاً بالظهرة (وظهّر).. ثم تصف حامد بالتمساح العشاري لا يرضى الضيم ولا يقبل الهزيمة، بل تجده دائماً مدافعاً ومنافحاً عن الحق، كما تصف محمد بأنه لشدة حبه للشاي كعادة البرامكة فـ (كفتيرته) دائماً على النار و(براده) بالقرب منه، وكأنه يدعو للاستزادة..

ومن خلال حلقة تلفزيونية شهدتها على قناة النيل الأزرق قبل وقت مضى، عرفت أن لمجالس البرامكة نُظمها التي تحافظ على التمسك بها، وتصر على الالتزام بها كعُرف اجتماعي راسخ.. وينص هذا النظام على تكوين لجنة عليا تمثل السلطة في مجلس البرامكة، تتكون عادة من: الناظر، والعمدة، والشيخ، والقاضي، والأفندي، والملاحظ، والدكتور، والعسكري، ولعلهم اقتبسوا هذه الألقاب من مجالس الإدارة الأهلية التي ألفوها وقتها في مناطقهم. ولكل واحد من هؤلاء وظيفته، فالناظر هو قمة السلطة والحكم الفيصل، وهو عادة أكبرهم سناً وأقدمهم عمراً في المجلس. أما القاضي فهو من يفصل في قضاياهم، وهي عادة ما تكون مخالفة لنظم المجلس. وفي هذه الحالة يقاد العضو المخالف بواسطة العسكري فيوصله للأفندي ليدفع الغرامة..

السلطة في مجالس البرامكة- الناظر، والعمدة، والشيخ، والقاضي، والأفندي، والملاحظ…

ولكي يُقبل الفرد عضواً في مجالس البرامكة، يجب أن يُعرف بحسن السيرة، كما يجب أن يقسم على دستورهم الذي يحدد تصرفات العضو خارج المجلس أو داخله.. ومن المحظورات التي نص عليها دستورهم: شرب الخمر، والتخلف عن العمل الجماعي، وارتداء الملابس غير النظيفة، الأكل في الطرقات وهكذا.. وأخيراً لا يسمح لأي فرد من المجلس بالحديث إلى الكمكلي، وهو الشخص الذي كان عضواً في المجلس، لكنه فصل لعدم التزامه بالقوانين. وموقفهم مع الكمكلي لا يقف عند هذا الحد، بل قد يهجونه في أحيان كثيرة. قال أحدهم يهجوه وزوجته:

الكمكلي أبو نعلي

أقعد هناك من الناس

هدومك في وركك

مدوا لي الشاي

ما بقول شكراً..

يقول الشاي مالو حار كدي؟!

مرة الكمكلي

من أكل العيش

سمينة كيف زي أبوعزة

تغلي جداداً وتحمرا

لكنها في الأيام ديل

ما بتشرب الشاي

فالشاعر هنا يعيّر الكمكلي بعدم هندامه، ويشير إلى ثقل ظله، فهو عندما يقدم له الشاي لم يقل: شكراً، بل حاول أن ينتقص من قدر الآخرين، عندما قال: مالو حار كدي؟! وذلك في سننهم جرم لا يغتفر. أما زوجة الكمكلي فهي بدينة وشرهة، لا هم لها إلا إعداد الشواء والأكل لتزداد تخمة على ما هي فيه.. ويختم الهجاء بأن اللعنة في عُرفهم قد حلّت عليها، فهي لا تتذوق الشاي مطلقاً هذه الأيام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى