ثقافة ومنوعات

سرديات…/ الزاكي عبدالحميد أحمد

يا سلام عليك أخي أحمد ود حسن الجاك..

كادت دموعي تنهمر من كلماتك هذه، التي أعادت أمامي شريطاً من تلك المواقف، التي وصفتَها يا صديقي..

يا حليل موبايلك الذي كنا نسميه موبايل النقابة.. ويا حليل جرأة لقاءاتنا علناً في وضح النهار.. ويا حليل مناكفاتِنا وأطروحاتِنا وتصدِّينا لوكلاء النظام، في: مجلس الأساتذة، ومجلس الجامعة، واللجنة المالية والتنفيذية، وفي كل ركن من أركان الجامعة بمجمعاتها المختلفة، دفاعاً عن حقوق الأساتذة النقابية، في وقت كان الحديث فيه عن نقابة مستقلة يعتبر استعداءً لنظام الإنقاذ يستوجب العقاب وربما السجن.

لكن لم يكن بيننا من كان يشغلُ نفسَه بذلك أو يهتم بسلامته الشخصية..

رحم الله تلك الأيام يا بروف..

هذا أستاذنا البروفيسور مهدي أمين التوم يستعيد شريط ذكرياته مع صديقه البروفيسور أحمد حسن الجاك، أيام تصدّيهما مع نفر من زملائهما للإنقاذ ودفاعهم عن نقابة مستقلة لأساتذة جامعة الخرطوم، كان ذلك قبل ثورة ديسمبر المجيدة.

قبل أعوام خمسة، شرُفت بالانضمام لقروب تواصل اجتماعي يضم بعضاً من خيار الأخيار من نساء ورجال بلدي، منهم هذا العالِم النحرير، الذي تحدث عنه أستاذُنا مهدي.

ذات مرة، عاتبني العالِم الكبير البروفيسور أحمد حسن الجاك، عميد كلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم سابقاً، وعميد كلية الدراسات العليا بجامعة الأحفاد حالياً، على عدم ورود شيءٍ من سيرة الشاعر اليمني المقنّع الكندي في السرديات التي أكتبها من وقت لآخر في القروب الذي يضمنا.

تساءلتُ في نفسي: ما الذي جعل هذا العالِم الاقتصادي المعروف يلفت نظري لهذا الشاعر اليمني دون غيره؟

ثم لاحقاً عُرِف السبب وبطل العجب..

قالوا: من أراد التصدّي للزعامة لا بدَّ أن تتوفرَ فيه الصفاتُ التي جاءت في الداليّة..

و”الداليّة” هي قصيدة المقنع الكندي التي يتحدث فيها المقنع عن نفسه بصفاتٍ يرى النقاد أنها لو اجتمعت في رجلٍ كان حريِّاً بزعامة قومه..

قالوا: ما اجتمعت في رجل، هذه الصفات التي وصف بها المقنع الكندي نفسَه، في داليِّته، إلا وكان زعيماً في قومه..

صدق العالِم النحرير. فله العتبى حتى يرضى، فمَن غيرُه يُلفت انتباهنا إلى مكمن الجمال حيث كان؟

من يقرأ سيرة الشاعر الأموي المقنع الكندي سرعان ما يتبادر إلى ذهنه ما قاله ميكيافيلي ناصحاً أميره:

Politics have no relation to morals

أي لا صلة للسياسة بالأخلاق..

هكذا قال ميكيافيلي في كتابه المشهور “الأمير” الذي نصح فيه الحاكم قائلاً:

“احتفظ أيها الأمير بأكبر عدد من المنافقين إلى جوارك ، بل وشجع المبتدئين منهم على أن يتمرسوا على أفعال النفاق والمداهنة، لأنهم بمثابة جيشك الداخلي الذي يدافع عنك أمام الشعب باستماتة. إنهم سيباهون بحكمتك حتى لو كنت أكبر الحمقى، ويدافعون عن أصلك الطيب حتى لو كنت من الوضعاء، ويضعون ألف فلسفة لأقوالك التافهة، وسيعملون بكل همة على تبرير أحكامك مهما كانت مجحفة وعشوائية”.

وكأننا بعمرو يطبق نصائح ميكيافيلي لأميره حين آلت إليه زعامة قبيلة كندة، وما أدراك ما كندة..

نعم ما قاله ميكيافيلي عمل به عمرو -وهو عم الشاعر- حين آلت إليه الزعامة، وهو عنها قاصر..

أجمل الناس وجهاً كان..

وأمدّهم قامةً،

وأكملهم خلقاً..

هذا الشاعر الأموي المقنّع الكندي..

هكذا وصفته كتب الأدب، وقالت: “إذا سفَر اللثام عن وجهه أصابتْه العين، ومرض ولحقه عَنَت”. والعنت لغة المشقة ويفسرها أهل الفقه بالإثم “ذلك لمن خشي العنت منكم” صدق الله العظيم.. فكان لا يمشي إلا مُقنّعاً، ساتراً وجهَه، متلثماً خوفاً من العين.

وفريق آخر من أدباء ذلك العصر، ومنهم الجاحظ والتبريزي، قالوا إنما المقصود بالمقنّع هو الفارس اللابس سلاحه. واستدلوا على ذلك بحديث يقول إن نبيَّنا الكريم كان يزور قبر أمِّه في ألف مقنع؛ أي ألف فارس..

امتاز شعر الشاعر الأموي المخضرم المقنع الكندي برصانة الأسلوب وانتقاء الألفاظ والمفردات الشعرية، بعناية فائقة تعرب عن تمكنه في صناعة الشعر وسمو مكانه بين الشعراء رغم أنه كان مقلِّاً…

جدُّه لأبيه واسمه عمير ساد قومَه (قبيلة كندة الملوك) في حضرموت، يأمر فيطاع، كريماً كثير العطاء للسائلين كان..

ولكن بعد موته نشأ خلاف بين والد المقنع واسمه ظفر بن عمير وعمّه عمرو، والذي كان قاصراً عن الزعامة. ومع ذلك، ما انفك يساجل أخاه فيها، فدب الخلاف الأسري وحدثت القطيعة، وبدأ هذا في تدبير المكائد للنيل من أخيه وابنه ..

في حياة والده كان لشاعرنا شرفٌ وسؤددٌ ومروءةٌ في عشيرته..

وكان متخرِّقاً في عطاياه، سمح اليد بماله، لا يرد سائلاً عن شيء.. فأحبه قومه وناصروه..

ولكن بموت والده وانتقال الزعامة لعمه، ساءت حاله بتدبير المكائد من أبناء عمه، وانفض عنه مَن كانوا معه، والتفوا حول الزعيم الجديد يداهنونه لتثبيت أركان زعامته، فأغدق عليهم العطايا وأمرهم بالابتعاد عن الشاعر ليعيش محنته في عزلة..

الزعيم الجديد قاصراً عن الزعامة كان، ولكن مَن حوله من المنافقين تباهوا بحكمته ووضعوا ألف فلسفة لأقواله التافهة، وعملوا بكل همة على تبرير أحكامه مهما كانت مجحفة.. فصدّق هذا أنه بالزعامة خليق..

فكان أن استعلى على شاعرنا بنو عمه بمالهم وجاههم وردّوه حين خطب أختهم التي هويها وهويته، وعيّروه بتضييع ماله وفقره واستدانته المال من الآخرين.. وما عرف هؤلاء أنه كان يستدين المال من الآخرين حتّى لا يردَّ سائلاً قصده، فيطعن، إن رُدَّ، في كرم القبيلة التي يستميت الشاعر في الحفاظ على كرمها وحسن وفادتها للسائلين، في حين غيرُه (أبناء عمه) لا يتأبهون عن الدناءة والمخازي التي لولا الشاعر لهوت بالقبيلة إلى درك سحيق..

ويقول فريق من النقاد بأن رفضهم لزواج الشاعر من أختهم إنما كان لدواع سياسية، مردها إلى انتقال الحكم من الجد إلى والد الشاعر فانكبوا على إذلاله.. لم يجد شاعرنا سبيلاً لتجاوز الحصار الذي ضُرب عليه سوى مواساة نفسه بالشعر، فكانت قصيدته الداليّة المسماة “دين الكريم” والتي تعد من عيون الشعر العربي لما فيها من القيم التي تسيّد الرجل على قومه، ومنها الكرم بلا حدود والعدل والشجاعة التي تؤهل الزعيم للدفاع عن أرضه وعرضه:

يعاتبني في الدَّيْن قومي وإنّما،

ديوني في أشياء تُكسبُهم حمدا

ألم يرَ قومي كيف أُوسِر مرةً،

وأُعسِر حتى تبلغَ العُسْرةُ الجَهدا،

فما زادني الإقتارُ منهم تقرّبا،

ولا زادني فضلُ الغِنى منهمُ بعدا،

وليسوا إلى نصري سِراعاً وإن همو،

دعوني إلى نصر أتيتُهم شدّا..

تعد هذه القصيدة، وتعرف بـ “الداليّة”، من أشهر القصائد التي عددت مآثر من يتصدّى للزعامة ليس في العصر الأموي وإنما في كل العصور..

وتعرف قبيلة كندة التي ينتمي إليها الشاعر بـ “كندة الملوك” لأنهم كانوا سادة بين القبائل..

وفي مجال الشعر قالت العرب:

بُدئ الشعر بكندة واختُتِم بكندة؛ ويقصدون أن الشعر بدأ بامرؤ القيس وهو كندي، وانتهى بالمتنبي وهو كندي أيضاً، وبين هذا وذاك كان المقنّع الكندي والرمادي..

والرمادي هو القائل:

ظلمتَني ثمَّ أنّي جئتُ معتذراً،

يكفيك أنّي مظلوم ومعتذر..

“الدّاليّة” هي أطول قصيدة نظمها الشاعر اليمني محمد بن ظفر بن عمير بن شمر الملقب بالمقنع الكندي.. ومع أن من النقاد مَن يصفه بالمُقِل، إلا أن شاعرَنا كتب قصائد عدة تناول في بعضها أسس الزعامة وصفات من يتصدون لتسنم ذروتها..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى