ثقافة ومنوعات

رسائل محمود درويش وسميح القاسم

من محمود درويش إلى سميح القاسم

عزيزي سميح

وما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل؟
لقد اتفقنا على هذه الفكرة المغرية منذ عامين في مدينة استوكهولم الباردة.
وها أنا ذا أعترف بتقصيري، لأنني محروم من متعة التخطيط لسبعة أيام قادمة.
فأنا مخطوف دائماً إلى لا مكان آخر، ولكن تسلل الفكرة المشتركة إلى الكثيرين من الأصدقاء تحول إلى إلحاح لا يقاوم.
كم تبهجني قراءة الرسائل، وكم أمقت كتابتها.
لأنني أخشى أن تشي ببوح حميم قد يخلق جواً فضائحياً لا ينقصني، حتى تحولت هذه الخشية إلى مصدر اتهامات لا تحصى، ليس أفدحها “التعالي” كما هو رائج .
الآن أشمر عن عواطفي, وأبدأ.
لا أعرف من أين أبدأ عملية النظر إلى مأساتنا المشتركة، لكنني سأبدأ لأنضبط وأورطك في انضباط صارم.
سيكون التردد أو التراجع قاسياً بعد ما أشهدنا القراء علينا، وبعدما هنأتك بعيد ميلادك الذي يواصل صناعة الفراغ بين العمر والصورة.
كل عام وأنت في خير وشعر حتى نهايات النشيد.
لن نخدع أحداً، وسنقلب التقاليد.
فمن عادة الناشرين أو الكُتَّاب أو الورثة أن يجمعوا الرسائل المكتوبة في كتاب، لكننا هنا نصمم الكتاب ونضع له الرسائل. لعبتنا مكشوفة.
سنعلق سيرتنا على السطوح, أو نواري الخجل من كُتَّاب المذكرات بكتابتها في رسائل.
انتبه جيداً، لن تستطيع قول ما لا يقال.
فنحن مطالبان بالعبوس، مطالبان بالصدق والإخفاء ومراقبتهما في آن، مطالبان بأن لا نشوه صورة نمطية أعدتها لنا المخيلة العامة, مطالبان بإجراء تعديل ما على طبيعة أدب الرسائل, أبرزه استبعاد وجوه الشهود وجمالية الضعف الإنساني.
فكيف نحل هذه المعضلة التي يجمد بقاءها الفارغ الطلي بين الرسالة والمقالة؟
سنحاول إفلات النص من ضفافه، إذ لعل أبرز خصائص الكتابة هي فن تحديد الضفاف الذي يسميه النقد بناء.
فلنكسر البناء بتعثر لعبتنا الجديدة على ساحتها المفتوحة.
أصل الحكاية –كما تذكر– هو رغبتنا الواضحة في أن نترك حولنا وبعدنا، وفينا آثار مشتركة وشهادة على تجربة جيل تألب على نور الأمل وعلى نار الحسرة.
وأن نقدم اعتذاراً مدوياً عن انقطاع أصاب ساعة في عمرنا الواحد، وأن نعيد ارتباطنا السابق إلينا وإلى وعي الناس ووجدانهم.
لنواصل هذه الثنائية المتناغمة –ثنائيتنا- إلى آخر دقيقة في الزمن، بعدما تمردنا عليها في مطلع التكوين الجنين تمرداً كان ضرورياً لبلورة خصوصية لا بديل عنها في الشعر.
ثم تجاوزت نزعتها الاستقلالية لتتحول إلى تناحر سفيه قد كان أحد مصادره إحساس الواحد منا بشكل مفاجئ، بقطيعة حوار توصل إلى يتم، لقد كان كل واحد منا شاهداً على ولادة الآخر.
فلنتابع هذه الشهادة.
ولكن ما قيمة أن يتبادل شاعران الرسائل؟
لسنا بشاعرين هنا، ولن نكون شاعرين إلا عندما يقتضي الأمر ذلك.
هل هذا ممكن؟
لا أعرف.
إن كنت سترضى بهذا التغييب الملازم لاستحضار إنسانيتنا المقهورة بعدوان الحب والقصيدة، منذ حول العربي الجديد شاعره الجديد إلى موضوع.
فماذا نريد الآن أن نقول؟
لقد فعل الشعر فينا ما تفعل الموسيقى بموضوعها, تتجاوزه للافتتان بذاتها وأداتها.
ولكن أين مكاننا؟
أين لحمنا ودمنا؟
أين طفولتنا؟
لقد تعبت من المهارة، ولكن أعجبتني حاسة المهارة المنتبهة إلى ذاتها في مجموعتك الشعرية الجديدة.
ومع ذلك, إن أكثر ما يعنيني هو إنسانيتك.
وهنا تحديداً: أبوك.
لقد أعادتني مرثيتك إليه، إلى كرم الزيتون المعلق على خاصرة السمو الراسخ، وإلى قدرتنا على الدهشة وسط تبادل الروائح الصلبة في الطبيعة، وإلى الحدود الفاصلة بين الفصول.
من لا مكان له لا فصول له.
لكنني مازلت مفتوناً ومجنوناً بخريفنا.
خريفنا ليس هو الشجر المدافع عن بذاءة الزهر, لكنه الرائحة.
فكيف ستنقل إليَّ هذه الرائحة بالرسائل؟
خذني إلى هناك إذا كان لي متسع في السراب المتحجر، خذني إلى مضايق رائحة أشمها على الشاشة وعلى الورق وعلى الهاتف.
فإذا تعذر ذلك، فليسمع منك كل الحصى والعشب والنوافذ المفتوحة اعتذاري الجارح.
من حق الولد أن يلعب خارج ساحة الدار، من حقه أن يقيس المدى بفتحة ناي، من حقه أن يقع في بئر أو فوهة كبيرة في جزع شحرة خروب، من حقه أن يضل الطريق إلى البحر أو المدرسة.
ولكن ليس من حق أحد حتى لو كان عدواً أن يبقي الولد خارج الدار.
لم نذهب إلى العمر في هذه الطريقة, بل ذهبنا إلى هذا الطريق.
هل تذكر هتافك الساطع:
“أبداً على هذا الطريق؟”
أبداً.
وإن تعرج أو عرج بنا على منافٍ لم تخطر على بآل آلهة الشر الإغريقية، ولا أفعى جلجامش فعلت ما فعلت بنا بنت الجيران.
هل تذكر الشارع الخارج من عكا إلى الشمال العربي، وسكة الحديد الموصولة إلى الجنوب العربي؟
ولكن, أبداً.
أبداً على هذا الطريق مهما اشتد مزاح الزمن، ومهما توسع حمار الخواجة بلعام،
لست نادماً على شيء، فمازلت قادراً على الجنون وعلى الكتابة وعلى الحنين.
ودون أن أتساءل: هل سبقت الفكرة أداتها ليتكاثر عليها هذا الحصار؟
أصرخ في وجوه الذين يدفعون الفكرة إلى الضجر:
إن روحي هناك.
وأقول لك:
إن أولئك المحتلين الواقفين بيني وبينك لا يستحقون أي مقارنة مع أي شر عربي. عبيد الخرافات، طفيليات العجز المحيط، سلالة الانتقام، لا حق لهم في التصفيق لحماقة الآخرين التي تواصل إنتاجهم المؤقت.
وماذا لو انتصروا في غياب؟
هل يضمن فولاذهم القوي النجاح الدائم لفكرة ميتة؟
وهل تسوق الأداة الحق من الزائل؟
لهذا السبب أحارب الالتباس الخبيث، ولا أمد حنيني على جسر فردي.
فكن أنت جسري الصلب، وقدم لجدل “الداخل والخارج” عافية التواصل، عضني عن غيابٍ لأفرح: ما دمت هناك أنا هناك.
وأفتح النافذة المطلة على العكس.
ما كان يطل على الخارج فينا، يستدير ليطل على الداخل. هي الدائرة، هي الدائرة.
ويلحون علي ليقتلوني:
هل أنت نادمٌ على سفر؟
لن يذهب شيء عبثاً لم يذهب.
وقد حاولنا أن نضخ الوعد بما أتينا من لغة وحجارة ودم، ومازلنا نحاول البقاء والسير.
لن ينكسر الصوت ما دام شعبي حياً، حياً، حياً.
ومادام للأرض يوم هو هوية العمر.
فلماذا يسق فردٌ واحد إلى سؤال:
هل أنت نادمٌ على سفر؟
سدى أحاول أن أرد السؤال إلى صياغه, فأهمس في آلة تسجيل صغيرة:
إذا كان هذا يريحكم، فأنا نادم على سفر.
المكان، المكان، أريد أي مكان في مكان المكان لأعود إلى ذاتي, لأضع الورق على خشب أصلب, لأكتب رسالة أطول, لأعلق لوحة على جدار لي، لأرتب ملابسي, لأعطيك عنواني, لأربي نبتة منزلية، لأزرع حوضاً من النعناع, لأنتظر المطر الأول.
كل شيء خارج المكان، عابر وسريع الزوال.
ذلك ما يجعلني عاجزاً عن الرحيل الحر.
ولكنك ستكتب إلىّ لإعادة تركيب ما تفكك في النفس والزمن، برفع رافعة التوازن لثنائية “الداخل والخارج” الخاصة والعامة، لاستعادة أولى الطبقات الصاعدة إلى أفق يفيض عن الطريق.
ستكتب إليَّ.
سأكتب إليك لأعود.
فما زال في وسع الكلمات أن تحمل صاحبها، وأن تعيد حاملها المحمول عليها إلى داره.
وما زال في وسع الذاكرة أن تشير إلى تاريخ.
ويجتاحني نداء راعف إلى عودة، عودة ما إلى أول الأسماء.
فكن أنت عودتي.
إذن، أخرج من خزانة الثياب لنلعب لعبة أخرى مع فتيات أخريات.
ولا تتلكأ طويلاً في الشوارع الخلفية، فأنت على موعد مع الشاطئ.
حيفا حارة في الصيف ورطبة.
ولا تنس أن تزور محطة الشرطة وأنت في طريقك إلى البحر، ولا أن تسأل الضابط عن موعد الاعتقال القادم.
قدم له سيجارة، واطلب منه سجناً أنظف من سجن الشهر الفائت.
ولا تنس المقال في “مقهى روما” كما المعتاد.
وإن جاءت “السيدة” سلم عليها، وقل لها:
سافر وسيعود قريباً.
ولا تسألها عن الجنين.
قريباً، ستة عشرة سنة؟ ست عشرة سنة كافية لتقبل بينلوب ود خاطبها، وتلعن بحر إيجة، ست عشرة سنة كافية لأن تتحول الحشرات الصغيرة على جراح أيوب إلى طائرات نفاثة، ست عشرة سنة تكفي لأصرخ:
بدي اعود، بدي اعود.
كافية لأتلاشى في الأغنية حتى النصر أو الموت.
ولكن،
أين قبري يا صديقي؟
أين قبري يا أخي؟
أين قبري؟

***

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى